و أما المتصوفة الذين عاصرناهم فأكثرهم يشيرون إلى ظهور رجل مجدد لأحكام الملة و مراسم الحق و يتحينون ظهوره لما قرب من عصرنا فبعضهم يقول من ولد فاطمة و بعضهم يطلق القول فيه سمعناه من جماعة أكبرهم أبو يعقوب البادسي كبير الأولياء بالمغرب كان في أول هذه المائة الثامنة و أخبرني عنه حافده صاحبنا أبو يحيى زكرياء عن أبيه أبي محمد عبد الله عن أبيه الولي أبي يعقوب المذكور هذا آخر ما اطلعنا عليه أو بلغنا من كلام هؤلاء المتصوفة و ما أورده أهل الحديث من أخبار المهدي قد استوفينا جميعه بمبلغ طاقتنا و الحق الذي ينبغي أن يتقرر لديك أنه لا تتم دعوة من الدين و الملك إلا بوجود شوكة عصبية تظهره و تدافع عنه من يدفعه حتى يتم أمر الله فيه. و قد قررنا ذلك من قبل بالبراهين القطعية التي أريناك هناك و عصبية الفاطميين بل و قريش أجمع قد تلاشت من جميع الآفاق و وجد أمم آخرون قد اشتغلت عصبيتهم على عصبية قريش إلا ما بقي بالحجاز في مكة و ينبع بالمدينة من الطالبين من بني حسن و بني حسين و بني جعفر و هم منتشرون في تلك البلاد و غالبون عليها و هم عصائب بدوية متفرقون في مواطنهم و إماراتهم يبلغون آلافاً من الكثرة فإن صح ظهور هذا المهدي فلا وجه لظهور دعوته إلا بأن يكون منهم و يؤلف الله بين قلوبهم في اتباعه حتى تتم له شوكة و عصبة وافية بإظهار كلمته و حمل الناس عليها و أما على غير هذا الوجه مثل أن يدعو فاطمي منهم إلى مثل هذا الأمر في أفق من الأفاق من غير عصبية و لا شوكة إلا مجرد نسبة في أهل البيت فلا يتم ذلك و لا يمكن لما أسلفناه من البراهين الصحيحة. و أما ما تدعيه العامة و الأغمار من الدهماء ممن لا يرجع في ذلك إلى عقل يهديه و لا علم يفيده فيجيبون ذلك على غير نسبة و في غير مكان تقليداً لما اشتهر من ظهور فاطمي و لا يعلمون حقيقة الأمر كما بيناه و أكثر ما يجيبون في ذلك القاصية من الممالك و أطراف العمران مثل الزاب بأفريقية و السوس من المغرب. و نجد الكثير من ضعفاء البصائر يقصدون رباطاً بماسة لما كان ذلك الرباط بالمغرب من الملثمين من كدالة و اعتقادهم أنه منهم أو قائمون بدعوته زعماً لا مستند لهم إلا غرابة تلك الأمم و بعدهم عن يقين المعرفة بأحوالها من كثيرة أو قلة أو ضعف أو قوة و لبعد القاصية عن منال الدولة و خروجها عن نطاقها فتقوى عندهم الأوهام في ظهوره هناك بخروجه عن برقة الدولة و منال الأحكام و القهر و لا محصول لديهم في ذلك إلا هذا. و قد يقصد ذلك الموضع كثير من ضعفاء العقول للتلبيس بدعوة يمييه تمامها وسواساً و حمقاً و قتل كثير منهم. اخبرني شيخناً محمد بن إبراهيم الأبلي قال خرج برباط ماسة لأول المائة الثامنة و عصر السلطان يوسف بن يعقوب رجل من منتحلي التصوف يعرف بالتويرزي نسبة إلى توزر مصغراً و ادعى أنه الفاطمي المنتظر و اتبعه الكثير من أهل السوس من ضالةً و كزولة و عظم أمره و خافه رؤساء المصامدة على أمرهم فدس عليه السكسوي من قتله بياتاً و انحل أمره. و كذلك ظهر في غمارة في آخر المائة السابعة و عشر التسعين منها رجل يعرف بالعباس و ادعى أنه الفاطمي و اتبعه الدهماء من غمارة و دخل مدينة فاس عنوة و حرق أسواقها و ارتحل إلى بلد المزمة فقتل بها غيلة و لم يتم أمره. و كثير من هذا النمط. و أخبرني شيخنا المذكور بغريبة في مثل هذا و هو أنه صحب في حجة في رباط العباد و هو مدفن الشيخ أبي مدين في جبل تلمسان المطل عليها رجلاً من أهل البيت من سكان كربلاء كان متبوعاً معظماً كثير التلميذ و الخادم. قال و كان الرجال من موطنه يتلقونه بالنفقات في أكثر البلدان. قال و تأكدت الصحبة بيننا في ذلك الطريق فانكشف لي أمرهم و أنهم إنما جاءوا من موطنهم بكر بلاء لطلب هذا الأمر و انتحال دعوة الفاطمي بالمغرب. فلما عاين دولة بني مرين و يوسف بن يعقوب يومئذ منازل تلمسان قال لأصحابه ارجعوا فقد أزرى بنا الغلط و ليس هذا الوقت وقتنا. و يدل هذا القول من هذا الرجل على أنه مستبصر في أن الأمر لا يتم إلا بالعصبية المكافئة لأهل الوقت فلما علم أنه غريب في ذلك الوطن و لا شوكة له و أن عصبية بني مرين لذلك العهد لا يقاومها أحد من أهل المغرب استكان و رجع إلى الحق و أقصر عن مطامعه. و بقي عليه أن يستيقن أن عصبية الفواطم و قريش أجمع قد ذهبت لا سيما في المغرب إلا أن التعصب لشأنه لم يتركه لهذا القول و الله يعلم و أنتم لا تعلمون. و قد كانت بالمغرب لهذه العصور القريبة نزعة من الدعاة إلى الحق و القيام بالسنة لا ينتحلون فيها دعوة فاطمي و لا غيره و إنما ينزع منهم في بعض الأحيان الواحد فالواحد إلى إقامة السنة و تغيير المنكر و يعتني بذلك و يكثر تابعه و أكثر ما يعنون بإصلاح السابلة لما أن أكثر فساد الأعراب فيها لما قدمناه من طبيعة معاشهم فيأخذون في تغيير المنكر بما استطاعوا إلا أن الصبغة الدينية فيهم لم تستحكم لما أن توبة العرب و رجوعهم إلى الدين إنما يقصدون بها الإقصار عن الغارة و النهب لا يعقلون في توبتهم و إقبالهم إلى مناحي الديانة غير ذلك لأنها المعصية التي كانوا عليها قبل المقربة و منها توبتهم. فتجد ذلك المنتحل للدعوة و القائم بزعمه بالسنة غير متعمقين في فروع الاقتداء و الاتباع إنما دينهم الإعراض عن النهب و البغي و إفساد السابلة ثم الإقبال على طلب الدنيا و المعاش بأقصى جهدهم. و شتان بين طلب هذا الأجر من إصلاح الخلق و من طلب الدنيا فاتفاقهما ممتنع لا تستحكم له صبغة في الدين و لا يكمل له نزوع عن الباطل على الجملة و لا يكثرون. و يختلف حال صاحب الدعوة معهم في استحكام دينه و ولا يته في نفسه دون تابعه فإذا هلك انحل أمرهم و تلاشت عصبتهم و قد وقع ذلك بأفريقية لرجل من كعب من سليم يسمى قاسم بن مرة بن أحمد في المائة السابعة ثم من بعده لرجل آخر من بادية رياح من بطون منهم يعرفون بمسلم و كان يسمى سعادة و كان أشد ديناً من الأول و أقوم طريقة في نفسه و مع ذلك فلم يستتب أمر تابعه كما ذكرناه حسبما يأتي في ذكر ذلك في موضعه عند ذكر قبائل سليم و رياح و بعد ذلك ظهر ناس بهذه الدعوة يتشبهون بمثل ذلك و يلبسون فيها و ينتحلون اسم السنة و ليسوا عليها إلا الأقل فلا يتيم لهم و لا لمن بعدهم شيء من أمرهم.
انتهى.