الفصل الخامس فيما تجب مراعاته في أوضاع المدن و ما يحدث إذا غفل عن المراعاة

إعلم أن المدن قرار يتخذه الأمم عند حصول الغاية المطلوبة من الترف و دواعيه فتؤثر الدعة و السكون و تتوجه إلى اتخاذ المنازل للقرار و لما كان ذلك القرار و المأوى وجب أن يراعى فيه دفع المضار بالحماية من طوارقها و جلب المنافع و تسهيل المرافق لها فأما الحماية من المضار فيراعى لها أن يدار على منازلها جميعاً سياج الأسوار و أن يكون وضع ذلك في تمنع من الأمكنة إما على هضبة متوعرة من الجبل و إما باستدارة بحر أو نهر بها حتى لا يوصل إليها إلا بعد العبور على جسر أو قنطرة فيصعب منالها على العدو و يتضاعف امتناعها و حصنها.
و مما يراعى في ذلك للحماية من الآفات السماوية طيب الهواء للسلامة من الأمراض. فإن الهواء إذا كان راكداً خبيثاً أو مجاوراً للمياه الفاسدة أو منافع متعفنة أو مروج خبيثة أسرع إليها العفن من مجاورتها فأسرع المرض للحيوان الكائن فيه لا محالة و هذا مشاهد.
و المدن التي لم يراع فيها طيب الهواء كثيرة الأمراض في الغالب. و قد اشتهر بذلك في قطر المغرب بلد قابس من بلاد الجريد بأفريقية فلا يكاد ساكنها أو طارقها يخلص من حمى العفن بوجه. و لقد يقال أن ذلك حادث فيها و لم تكن كذلك من قبل و نقل البكري في سبب حدوثه أنه وقع فيها حفر ظهر فيه أناء من نحاس مختوم بالرصاص. فلما فض ختامه صعد منه دخان إلى الجو و انقطع. و كان ذلك مبدأ أمراض الحميات فيه و أراد بذلك أن الإناء كان مشتملاً على بعض أعمال الطلمسات لوبائه و أنه ذهب سره بذهابه فرجع إليها العغن و الوباء و هذه الحكاية من مذاهب العامة و مباحثهم الركيكة و البكري لم يكن من نباهة العلم و استنارة البصيرة بحيث يدفع مثل هذا أو يتبين خرفه فنقله كما سمعه. و الذي يكشف لك الحق في ذلك أن هذه الأهوية العفنة أكثر ما يهيئها لتعفين الأجسام و أمراض الحميات ركودها. فإذا تخللتها الريح و تفشت و ذهبت بها يميناً و شمالاً خف شأن العفن و المرض البادي منها للحيوانات. و البلد إذا كان كثير الساكن و كثرت حركات أهله فيتموج الهواء ضرورة و تحدث الريح المتخللة للهواء الراكد و يكون ذلك معيناً له على الحركة و التموج و إذا خف الساكن لم يجد الهواء معيناً على حركته و تموجه و بقي ساكناً راكداً و عظم عفنه و كثر ضرره. و بلد قابس هذه كانت عندما كانت أفريقية مستجدة العمران كثيرة الساكن تموج بأهلها موجاً فكان ذلك معيناً على تموج الهواء و اضطرابه و تخفيف الأذى منه فلم يكن فيها كثير عفن و لا مرض، وعندما خف ساكنها ركد هواؤها المتعفن بفساد مياهها فكثر العفن و المرض.
فهذا و جهه لا غير. و قد رأينا عكس ذلك في بلاد وضعت و لم يراع فيها طيب الهواء و كانت أولاً قليلة الساكن فكانت أمراضها كثيرة فلما كثر سكانها انتقل حالها عن ذلك و هذا مثل دار الملك بفاس لهذا العهد المسمى بالبلد الجديد و كثير من ذلك في العالم فتفهمه تجد ما قلته لك. و أما جلب المنافع و المرافق للبلد فيراعى فيه أمور منها الماء بأن يكون البلد على نهر أو بإزائها عيون عذبة ثرة فإن وجود الماء قريباً من البلد يسهل على الساكني حاجة الماء و هي ضرورية فيكون لهم في وجوده مرفقة عظيمة عامة. و مما يراعى من المرافق في المدن طيب المراعي لسائمتهم إذ صاحب كل قرار لا بد له من دوجن الحيوان للنتاج و الضرع و الركوب و لا بد لها من المرعى فإذا كان قريباً طيباً كان ذلك أرفق بحالهم لما يعانون من المشقة في بعده و مما راعى أيضاً المزارع فإن الزروع هي الأقوات. فإذا كانت مزارع البلد بالقرب منها كان ذلك أسهل في اتخاذه و أقرب في تحصيله و من ذلك الشجر للحطب و البناء فإن الحطب مما تعم البلوى في اتخاذه لوقوب النيران للاصطلاء و الطبخ. و الخشب أيضاً ضروري لسقفهم و كثير مما يستعمل فيه الخشب من ضرورياتهم و قد يراعى أيضاً قربها من البحر لتسهيل الحاجات القاصية من البلاد النائية إلا أن ذلك ليس بمثابة الأول و هذه كلها متفاوتة بتفاوت الحاجات و ما تدعو إليه ضرورة الساكن. و قد يكون الواضع غافلاً عن حسن الاختيار الطبيعي أو إنما يراعي ما هو أهم على نفسه و قومه، و لا يذكر حاجة غيرهم كما فعله العرب لأول الإسلام في المدن التي اختطوها بالعراق و أفريقية فإنهم لم يراعوا فيها إلا الأهم عندهم من مراعي الإبل و ما يصلح لها من الشجر و الماء الملح و لم يراعوا الماء و لا المزارع و لا الحطب و لا مراعي السائمة من ذوات الظلف و لا غير ذلك كالقيروان و الكوفة و البصرة و أمثالها و لهذا كانت أقرب إلى الخراب ما لم تراع فيها الأمور الطبيعية.