الفصل الثاني في وجوه المعاش و أصنافه و مذاهبه
إعلم أن المعاش هو عبارة عن ابتغاء الرزق و السعي في تحصيله و هو مغفل من العيش. كأنه لما كان العيش الذي هو الحياة لا يحصل إلا بهذه جعلت موضعاً له على طريق المبالغة ثم إن تحصيل الرزق و كسبه، إما أن يكون بأخذه من يد الغير و انتزاعه بالاقتدار عليه على قانون متعارف و يسمى مغرماً و جباية و إما أن يكون من الحيوان الوحشي بافتراسه و أخذه برميه من البر أو البحر و يسمى اصطياداً و إما أن يكون من الحيوان الداجن باستخراج فضوله المنصرفة بين الناس في منافعهم كاللبن من الأنعام و الحرير من دوده و العسل من نحله أو يكون من النبات في الزرع و الشجر بالقيام عليه و إعداده لاستخراج ثمرته و يسمى هذا كله فلحاً و إما أن يكون الكسب من الأعمال الإنسانية إما في مواد معينة و تسمى الصنائع من كتابة و تجارة و خياطة و حياكة و فروسية و أمثال ذلك أو في مواد غير معينة و هي جميع الامتهانات و التصرفات و إما أن يكون الكسب من البضائع و إعدادها للأعواض إما بالتغلب بها في البلاد و احتكارها و ارتقاب حوالة الأسواق فيها. و يسمى هذا تجارة. فهذه وجوه المعاش و أصنافه و هي معنى ما ذكره المحققون من أهل الأدب و الحكمة كالحريري و غيره فإنهم قالوا: المعاش إمارة و تجارة و فلاحة و صناعة. فأما الإمارة فليست بمذهب طبيعي للمعاش فلا حاجة بنا إلى ذكرها و قد تقدم شيء من أحوال الجبايات السلطانية و أهلها في الفصل الثاني. و أما الفلاحة و الصناعة و التجارة فهي وجوه طبيعية للمعاش أما الفلاحة فهي متقدمة عليها كلها بالذات إذ هي بسيطة و طبيعية فطرية لا تحتاج إلى نظر و لا علم و لهذا تنسب في الخليقة إلى آدم أبي البشر و أنه معلمها و القائم عليها إشارة إلى أنها أقدم وجوه المعاش و أنسبها إلى الطبيعة. و أما الصنائع فهي ثانيتها و متأخرة عنها لأنها مركبة و علمية تصرف فيها الأفكار و الأنظار و بهذا لا يوجد غالباً إلا في أهل الحضر الذي هو متأخر عن البدو و ثان عنه. و من هذا المعنى نسبت إلى إدريس الأب الثاني للخليقة فإنه مستنبطها لمن بعده من البشر بالوحي من الله تعالى. و أما التجارة و إن كانت طبيعية في الكسب فالأكثر من طرقها و مذاهبها إنما هي تحيلات في الحصول على ما بين القيمتين في الشراء و البيع لتحصل فائدة الكسب من تلك الفضلة. و لذلك أباح الشرع فيه المكاسبة لما أنه من باب المقامرة إلا أنه ليس أخذ المال الغير مجاناً فلهذا اختص بالمشروعية. و الله أعلم.
الفصل الثالث في أن الخدمة ليست من الطبيعي
إعلم أن السلطان لا بد له من اتخاذ الخدمة في سائر أبواب الإمارة و الملك الذي هو بسبيله من الجندي و الشرطي و الكاتب. و يستكفي في كل باب بمن المضيع و لو كان مأموناً فضرره بالتضييع أكثر من نفعه. فاعلم ذلك و اتخذه قانوناً في الاستكفاء بالخدمة. و أنه سبحانه و تعالى قادر على كل شيء.
الفصل الرابع في ابتغاء الأموال من الدفائن و الكنوز ليس بمعاش طبيعي
اعلم أن كثيراً من ضعفاء العقول في الأمصار يحرصون على استخراج الأموال من تحت الأرض و يبتغون اكسب من ذلك. و يعتقدون أن أموال الأمم السالفة مختزنة كلها تحت الأرض مختوم عليها كلها بطلاسم سحرية. لا يفض ختامها ذلك إلا من عثر على علمه و استحضر ما يحله من البخور و الدعاء و القربان. فأهل الأمصار بإفريقية يرون أن الفرنجة الذين كانوا قبل الإسلام بها دفنوا أموالهم كذلك و أودعوها في الصحف بالكتاب إلى أن يجدوا السبيل إلى استخراجها. و أهل الأمصار بالمشرق يرون مثل ذلك في أمم القبط و الروم و الفرس. و يتناقلون في ذلك أحاديث تشبه حديث خرافة من انتهاء بعض الطالبين لذلك إلى حفر موضع المال ممن لم يعرف طلسمه و لا خبرة فيجدونه خالياً أو معموراً بالديدان. أو يشاهد الأموال و الجواهر موضوعة و الحرس دونها منتضين سيوفهم. أو تميد به الأرض حتى يظنه خسفاً أو مثل ذلك من الهذر. و نجد كثيراً من طلبة البربر بالمغرب العاجزين عن المعاش الطبيعي و أسبابه يتقربون إلى أهل الدنيا بالأوراق المتخرمة الحواشي إما بخطوط عجمية أو بما ترجم بزعمهم منها من خطوط أهل الدفائن بإعطاء الأمارات عليها في أماكنها يبتغون بذلك الرزق منهم بما يبعثونه على الحفر و الطلب و يموهون عليهم بأنهم إنما حملهم على الاستعانة بهم طلب الجاه في مثل هذا من منال الحكام و العقوبات. و ربما تكون عند يعلم غناءه فيه و يتكفل بأرزاقهم من بيت ماله. و هذا كله مندرج في الإمارة و معاشها إذ كلهم ينسحب عليهم حكم الإمارة و الملك الأعظم هو ينبوع جداولهم. و أما ما دون ذلك من الخدمة فسببها أن أكثر المترفين يترفع عن مباشرة حاجاته أو يكون عاجزاً عنها لما ربي عليه من خلق التنعم و الترف فيتخذ من يتولى ذلك له و يقطعه عليه أجراً من ماله.
و هذه الحالة غير محمودة بحسب الرجولية الطبيعية للإنسان إذ الثقة بكل أحد عجز، و لأنها تزيد في الوظائف و الخرج و تدل على العجز و الخنث الذي ينبغي في مذاهب الرجولية التنزه عنهما. إلا أن العوائد تقلب طباع الإنسان إلى مألوفها فهو ابن عوائده لا ابن نسبه. و مع ذلك فالخديم الذي يستكفى به و يوثق بغنائه كالمفقود إذ الخديم القائم بذلك لا يعدو أربع حالات: إما مضطلع بأمره و لا موثوق فيما يحصل بيده و إما بالعكس فيهما، و هو أن يكون غير مضطلع بأمر و لا موثوق فيما يحصل بيده و إما بالعكس في إحداهما فقط مثل أن يكون مضطلعاً غير موثوق أو موثوقاً غير مضطلع. فأما الأول و هو المضطلع الموثوق فلا يمكن أحداً استعماله بوجه إذ هو باضطلاعه و ثقته غني عن أهل الرتب الدنيئة و محتقر لمثال الأجر من الخدمة لاقتداره على أكثر من ذلك فلا يستعمله إلا الأمراء أهل الجاه الغريض لعموم الحاجة إلى الجاه. و أما الصنف الثاني و هو ممن ليس بمضطلع و لا موثوق فلا ينبغي لعاقل استعماله لأنه يحجف بمخدومه في الأمرين معاً فيضيع عليه لعدم الاصطناع تارة و يذهب ماله بالخيانة أخرى فهو على كل حال كل على مولاه. فهذان الصنفان لا يطمع أحد في استعمالهما.
و لم يبق إلا استعمال الصنفين الآخرين: موثوق غير مضطلع و مضطلع غير موثوق و للناس في الترجيح بينهما مذهبان، و لكل من الترجيحين وجه. إلا أن المضطلع و لو كان غير موثوق أرجح لأنه يؤمن من تضييعه و يحاول على التحرز من خيانته جهد الاستطاعة و أما بعضهم نادرة أو غريبة من الأعمال السحرية يموه بها على تصديق ما بقي من دعواه و هو بمعزل عن السحر و طرقه فتولع كثير من ضعفاء العقول بجمع الأيدي على الاحتفار و التستر فيه بظلمات الليل مخافة الرقباء و عيون أهل الدول، فإذا لم يعثروا على شيء ردوا ذلك إلى الجهل بالطلسم الذي ختم به على ذلك المال يخادعون به أنفسهم عن إخفاق مطامعهم. و الذي يحمل على ذلك في الغالب زيادة على ضعف العقل إنما هو العجز عن طلب المعاش بالوجوه الطبيعية للكسب من التجارة و الفلح و الصناعة فيطلبونه بالوجوه المنحرفة و على غير المجرى الطبيعي من هذا و أمثاله عجزاً عن السعي في المكاسب و ركوناً إلى تناول الرزق من غير تعب و لا نصب في تحصيله و اكتسابه و لا يعلمون أنهم يوقعون أنفسهم بابتغاء ذلك من غير وجهه في نصب و متاعب و جهد شديد أشد من الأول و يعرضون أنفسهم مع ذلك لمنال العقوبات. و ربما يحمل على ذلك في الأكثر زيادة الترف و عوائده و خروجها عن حد النهاية حتى تقصر عنها وجوه الكسب و مذاهبه و لا تفي بمطالبها.
فإذا عجز عن الكسب بالمجرى الطبيعي لم يجد وليجة في نفسه إلا التمني لوجود المال العظيم دفعة من غير كلفة ليفي له ذلك بالعوائد التي حصل في أسرها فيحرص على ابتغاء ذلك و يسعى فيه جهده و لهذا فأكثر من تراهم يحرصون على ذلك هم المترفون من أهل الدولة و من سكان الأمصار الكثيرة الترف المتسعة الأحوال مثل مصر و ما في معناها فنجد الكثير منهم مغرمين بابتغاء ذلك و تحصيله و مساءلة الركبان عن شواذه كما يحرصون على الكيمياء. هكذا بلغني عن أهل مصر في مفاوضة من يلقونه من طلبة المغاربة لعلهم يعثرون منه على دفين أو كنز و يزيدون على ذلك البحث عن تغوير المياه لما يرون أن غالب هذه الأموال الدفينة كلها في مجاري النيل و أنه أعظم ما يستر دفيناً أو مختزناً في تلك الآفاق و يموه عليهم أصحاب تلك الدفاتر المفتعلة في الاعتذار عن الوصول إليها بجرية النيل تستراً بذلك من الكذب حتى يحصل على معاشه فيحرص سامع ذلك منهم على نضوب الماء بالأعمال السحرية لتحصيل مبتغاه من هذه كلفاً بشأن السحر متوارثاً في ذلك القطر عن أوليه فعلومهم السحرية و آثارها باقية بأرضهم في البراري و غيرها. و قصة سحرة فرعون شاهدة باختصاصهم بذلك و قد تناقل أهل المغرب قصيدة ينسبونها إلى حكماء المشرق تعطى فيها كيفية العمل بالتغوير بصناعة سحرية حسبما تراه فيها و هي هذه:
يا طالباً للسر في التغوير إسمع كلام الصدق من خبير دع عنك ما قد صنفوا فيكتبهم من قول بهتان و لفظ غرور و اسمع لصدق مقالتي و نصيحتي إن كنت ممن لا يرى بالزور فإذا أردت تغور البئر التي حارت لها الأوهام في التدبير صور كصورتك التي أوقفتها و الرأس رأس الشبل في التقوير و يداه ماسكتان للحبل الذي في الدلو ينشل من قرار البير و بصدره هاء كما عاينتها عدد الطلاق احذر من التكرير و يطا على الطاءات غير ملامس مشي اللبيب الكيس النحرير و يكون حول الكل خط دائر تربيعه أولى من التكوير و اذبح عليه الطير و الطخه به و اقصده عقب الذبح بالتبخير بالسندروس و باللبان و ميعة و القسط و البسه بثوب حرير من أحمر أو أصفر لا أزرقلا أخضر فيه و لا تكدير و يشده خيطان صوف أبيضأو أحمر من خالص التحمير و الطالع الأسد الذي قد بينوا و يكون بدء الشهر غير منير و البدر متصل بسعد عطارد في يوم سبت ساعة التدبير
يعني أن تكون الطاءات بين قدميه كأنه يمشي عليها و عندي أن هذه القصيدة من تمويهات المتخرفين فلهم في ذلك أحوال غريبة و اصطلاحات عجيبة و تنتهي التخرفة و الكذب بهم إلى أن يسكنوا المنازل المشهورة و الدور المعروفة لمثل هذه و يحتفرون الحفر و يضعون المطابق فيها و الشواهد التي يكتبونها في صحائف كذبهم ثم يقصدون ضعفاء العقول بأمثال هذه الصحائف و يعثون على كبراء ذلك المنزل و سكناه و يوهمون أن به دفيناً من المال لا يعبر عن كثرته و يطالبون بالمال لاشتراء العقاقير و البخورات لحل الطلاسم و يعدونه بظهور الشواهد التي قد أعدوها هنالك بأنفسهم و من فعلهم فينبعث لما يراه من ذلك و هو قد خدع و لبس عليه من حي لا يشعر و بينهم في ذلك اصطلاح في كلامهم يلبسون به عليهم ليخفى عند محاورتهم فيما يتلونه من حفر و بخور، و ذبح حيوان و أمثال ذلك. و أما الكلام في ذلك على الحقيقة فلا أصل له في علم و لا خبر و اعلم أن الكنوز و إن كانت توجد لكنها في حكم النادر و على وجه الاتفاق لا على وجه القصد إليها.
و ليس ذلك بأمر تعم به البلوى حتى يدخر الناس أموالهم تحت الأرض و يختمون عليها بالطلاسم لا في القديم و لا في الحديث. و الركاز الذي ورد في الحديث و فرضه الفقهاء و هو دفين الجاهلية إنما يوجد بالعثور و الاتفاق لا بالقصد و الطلب و أيضاً فمن اختزن ماله و ختم عليه بالأعمال السحرية فقد بالغ في إخفائه فكيف ينصب عليه الأدلة و الأمارات لمن يبتغيه. و يكتب ذلك في الصحائف حتى يطلع على ذخيرته أهل الأمصار و الآفاق ؟ هذا يناقض قصد الإخفاء.
و أيضاً فأفعال العقلاء لا بد و أن تكون لغرض مقصود في الانتفاع. و من اختزن المال فإنه يختزنه لولده أو قريبه أو من يؤثره. و أما أن يقصد إخفاءه بالكلية عن كل أحد و إنما هو للبلاء و الهلاك أو لمن لا يعرفه بالكلية ممن سيأتي من الأمم فهذا ليس من مقاصد العقلاء بوجه. و أما قولهم: أين أموال الأمم من قبلنا و ما علم فيها. من الكثرة و الوفور فاعلم أن الأموال من الذهب و الفضة و الجواهر و الأمتعة إنما هي معادن و مكاسب مثل الحديد و النحاس و الرصاص و سائر العقارات و المعادن. و العمران يظهرها بالأعمال الإنسانية و يزيد فيها أو ينقصها و ما يوجد منها بأيدي الناس فهو متناقل متوارث و ربما انتقل من قطر إلى قطر و من دولة إلى أخرى بحسب أغراضه.
و العمران الذي يستدعي له فإن نقص المال في المغرب و أفريقية فلم ينقص ببلاد الصقالبة و الإفرنج و إن نقص في مصر و الشام فلم ينقص في الهند و الصين. و إنما هي الآلات و المكاسب و العمران يوفرها أو ينقصها، مع أن المعادن يدركها البلاء كما يدرك سائر الموجودات و يسرع إلى اللؤلؤ و الجوهر أعظم مما يسرع إلى غيره. و كذا الذهب و الفضة و النحاس و الحديد و الرصاص و القصدير ينالها من البلاء و الفناء ما يذهب بأعيانها لأقرب وقت. و أما ما وقع في مصر من أمر المطالب و الكنوز فسببه أن مصر في ملكة القبط منذ آلاف أو يزيد من السنين و كان موتاهم يدفنون بموجودهم من الذهب و الفضة و الجواهر و اللآلئ على مذهب من تقدم من أهل الدول فلما انقضت دولة القبط و ملك الفرس بلادهم نقروا على ذلك في قبورهم فكشفوا عنه فأخذوا من قبورهم ما لا يوصف: كالأهرام من قبور الملوك و غيرها. و كذا فعل اليونانيون من بعدهم و صارت قبورهم مظنة لذلك لهذا العهد. و يعثر على الدفين فيها كثيراً من الأوقات.
أما ما يدفنونه من أموالهم أو ما يكرمون به موتاهم في الدفن من أوعية و توابيت من الذهب و الفضة معدة لذلك فصارت قبور القبط منذ آلاف من السنين مظنة لوجود ذلك فيها. فلذلك عني أهل مصر بالبحث عن المطالب لوجود ذلك فيها و استخراجها. حتى أنهم حين ضربت المكوس على الأصناف آخر الدولة ضربت على أهل المطالب.
و صدرت ضريبة على من يشتغل بذلك من الحمقى و المهوسين فوجد بذلك المتعاطون من أهل الأطماع الذريعة إلى الكشف عنه و الذرع باستخراجه و ما حصلوا إلا على الخيبة في جميع مساعيهم نعوذ بالله من الخسران فيحتاج من وقع له شيء من هذا الوسواس و ابتلي به أن يتعوذ بالله من العجز و الكسل في طلب معاشه كما تعوذ رسول الله صلى الله عليه و سلم من ذلك و ينصرف عن طرق الشيطان و وسواسه و لا يشغل بالمحالات و المكاذب من الحكايات و الله يرزق من يشاء بغير حساب.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)