الفصل الرابع في ابتغاء الأموال من الدفائن و الكنوز ليس بمعاش طبيعي

اعلم أن كثيراً من ضعفاء العقول في الأمصار يحرصون على استخراج الأموال من تحت الأرض و يبتغون اكسب من ذلك. و يعتقدون أن أموال الأمم السالفة مختزنة كلها تحت الأرض مختوم عليها كلها بطلاسم سحرية. لا يفض ختامها ذلك إلا من عثر على علمه و استحضر ما يحله من البخور و الدعاء و القربان. فأهل الأمصار بإفريقية يرون أن الفرنجة الذين كانوا قبل الإسلام بها دفنوا أموالهم كذلك و أودعوها في الصحف بالكتاب إلى أن يجدوا السبيل إلى استخراجها. و أهل الأمصار بالمشرق يرون مثل ذلك في أمم القبط و الروم و الفرس. و يتناقلون في ذلك أحاديث تشبه حديث خرافة من انتهاء بعض الطالبين لذلك إلى حفر موضع المال ممن لم يعرف طلسمه و لا خبرة فيجدونه خالياً أو معموراً بالديدان. أو يشاهد الأموال و الجواهر موضوعة و الحرس دونها منتضين سيوفهم. أو تميد به الأرض حتى يظنه خسفاً أو مثل ذلك من الهذر. و نجد كثيراً من طلبة البربر بالمغرب العاجزين عن المعاش الطبيعي و أسبابه يتقربون إلى أهل الدنيا بالأوراق المتخرمة الحواشي إما بخطوط عجمية أو بما ترجم بزعمهم منها من خطوط أهل الدفائن بإعطاء الأمارات عليها في أماكنها يبتغون بذلك الرزق منهم بما يبعثونه على الحفر و الطلب و يموهون عليهم بأنهم إنما حملهم على الاستعانة بهم طلب الجاه في مثل هذا من منال الحكام و العقوبات. و ربما تكون عند يعلم غناءه فيه و يتكفل بأرزاقهم من بيت ماله. و هذا كله مندرج في الإمارة و معاشها إذ كلهم ينسحب عليهم حكم الإمارة و الملك الأعظم هو ينبوع جداولهم. و أما ما دون ذلك من الخدمة فسببها أن أكثر المترفين يترفع عن مباشرة حاجاته أو يكون عاجزاً عنها لما ربي عليه من خلق التنعم و الترف فيتخذ من يتولى ذلك له و يقطعه عليه أجراً من ماله.
و هذه الحالة غير محمودة بحسب الرجولية الطبيعية للإنسان إذ الثقة بكل أحد عجز، و لأنها تزيد في الوظائف و الخرج و تدل على العجز و الخنث الذي ينبغي في مذاهب الرجولية التنزه عنهما. إلا أن العوائد تقلب طباع الإنسان إلى مألوفها فهو ابن عوائده لا ابن نسبه. و مع ذلك فالخديم الذي يستكفى به و يوثق بغنائه كالمفقود إذ الخديم القائم بذلك لا يعدو أربع حالات: إما مضطلع بأمره و لا موثوق فيما يحصل بيده و إما بالعكس فيهما، و هو أن يكون غير مضطلع بأمر و لا موثوق فيما يحصل بيده و إما بالعكس في إحداهما فقط مثل أن يكون مضطلعاً غير موثوق أو موثوقاً غير مضطلع. فأما الأول و هو المضطلع الموثوق فلا يمكن أحداً استعماله بوجه إذ هو باضطلاعه و ثقته غني عن أهل الرتب الدنيئة و محتقر لمثال الأجر من الخدمة لاقتداره على أكثر من ذلك فلا يستعمله إلا الأمراء أهل الجاه الغريض لعموم الحاجة إلى الجاه. و أما الصنف الثاني و هو ممن ليس بمضطلع و لا موثوق فلا ينبغي لعاقل استعماله لأنه يحجف بمخدومه في الأمرين معاً فيضيع عليه لعدم الاصطناع تارة و يذهب ماله بالخيانة أخرى فهو على كل حال كل على مولاه. فهذان الصنفان لا يطمع أحد في استعمالهما.
و لم يبق إلا استعمال الصنفين الآخرين: موثوق غير مضطلع و مضطلع غير موثوق و للناس في الترجيح بينهما مذهبان، و لكل من الترجيحين وجه. إلا أن المضطلع و لو كان غير موثوق أرجح لأنه يؤمن من تضييعه و يحاول على التحرز من خيانته جهد الاستطاعة و أما بعضهم نادرة أو غريبة من الأعمال السحرية يموه بها على تصديق ما بقي من دعواه و هو بمعزل عن السحر و طرقه فتولع كثير من ضعفاء العقول بجمع الأيدي على الاحتفار و التستر فيه بظلمات الليل مخافة الرقباء و عيون أهل الدول، فإذا لم يعثروا على شيء ردوا ذلك إلى الجهل بالطلسم الذي ختم به على ذلك المال يخادعون به أنفسهم عن إخفاق مطامعهم. و الذي يحمل على ذلك في الغالب زيادة على ضعف العقل إنما هو العجز عن طلب المعاش بالوجوه الطبيعية للكسب من التجارة و الفلح و الصناعة فيطلبونه بالوجوه المنحرفة و على غير المجرى الطبيعي من هذا و أمثاله عجزاً عن السعي في المكاسب و ركوناً إلى تناول الرزق من غير تعب و لا نصب في تحصيله و اكتسابه و لا يعلمون أنهم يوقعون أنفسهم بابتغاء ذلك من غير وجهه في نصب و متاعب و جهد شديد أشد من الأول و يعرضون أنفسهم مع ذلك لمنال العقوبات. و ربما يحمل على ذلك في الأكثر زيادة الترف و عوائده و خروجها عن حد النهاية حتى تقصر عنها وجوه الكسب و مذاهبه و لا تفي بمطالبها.
فإذا عجز عن الكسب بالمجرى الطبيعي لم يجد وليجة في نفسه إلا التمني لوجود المال العظيم دفعة من غير كلفة ليفي له ذلك بالعوائد التي حصل في أسرها فيحرص على ابتغاء ذلك و يسعى فيه جهده و لهذا فأكثر من تراهم يحرصون على ذلك هم المترفون من أهل الدولة و من سكان الأمصار الكثيرة الترف المتسعة الأحوال مثل مصر و ما في معناها فنجد الكثير منهم مغرمين بابتغاء ذلك و تحصيله و مساءلة الركبان عن شواذه كما يحرصون على الكيمياء. هكذا بلغني عن أهل مصر في مفاوضة من يلقونه من طلبة المغاربة لعلهم يعثرون منه على دفين أو كنز و يزيدون على ذلك البحث عن تغوير المياه لما يرون أن غالب هذه الأموال الدفينة كلها في مجاري النيل و أنه أعظم ما يستر دفيناً أو مختزناً في تلك الآفاق و يموه عليهم أصحاب تلك الدفاتر المفتعلة في الاعتذار عن الوصول إليها بجرية النيل تستراً بذلك من الكذب حتى يحصل على معاشه فيحرص سامع ذلك منهم على نضوب الماء بالأعمال السحرية لتحصيل مبتغاه من هذه كلفاً بشأن السحر متوارثاً في ذلك القطر عن أوليه فعلومهم السحرية و آثارها باقية بأرضهم في البراري و غيرها. و قصة سحرة فرعون شاهدة باختصاصهم بذلك و قد تناقل أهل المغرب قصيدة ينسبونها إلى حكماء المشرق تعطى فيها كيفية العمل بالتغوير بصناعة سحرية حسبما تراه فيها و هي هذه:
يا طالباً للسر في التغوير إسمع كلام الصدق من خبير دع عنك ما قد صنفوا فيكتبهم من قول بهتان و لفظ غرور و اسمع لصدق مقالتي و نصيحتي إن كنت ممن لا يرى بالزور فإذا أردت تغور البئر التي حارت لها الأوهام في التدبير صور كصورتك التي أوقفتها و الرأس رأس الشبل في التقوير و يداه ماسكتان للحبل الذي في الدلو ينشل من قرار البير و بصدره هاء كما عاينتها عدد الطلاق احذر من التكرير و يطا على الطاءات غير ملامس مشي اللبيب الكيس النحرير و يكون حول الكل خط دائر تربيعه أولى من التكوير و اذبح عليه الطير و الطخه به و اقصده عقب الذبح بالتبخير بالسندروس و باللبان و ميعة و القسط و البسه بثوب حرير من أحمر أو أصفر لا أزرقلا أخضر فيه و لا تكدير و يشده خيطان صوف أبيضأو أحمر من خالص التحمير و الطالع الأسد الذي قد بينوا و يكون بدء الشهر غير منير و البدر متصل بسعد عطارد في يوم سبت ساعة التدبير