و لقد يقع في الدول أضراب في المراتب من أهل الخلق و يرتفع فيها كثير من السفلة و ينزل كثير من العلية بسبب ذلك و ذلك أن الدول إذا بلغت نهايتها من التغلب و الاستيلاء انفرد منها منبت الملك بملكهم و سلطانهم و يئس من سواهم من ذلك و إنما صاروا في مراتب دون مرتبة الملك، و تحت يد السلطان و كأنهم خول له. فإذا استمرت الدولة و شمخ الملك تساوى حينئذ في المنزلة عند السلطان كل من انتمى إلى خدمته و تقرب إليه بنصيحة و اصطنعه السلطان لغنائه في كثير من مهماته. فتجد كثيراً من السوقة يسعى في التقرب من السلطان بجده و نصحه و يتزلف إليه بوجوه خدمته و يستعين على ذلك بعظيم من الخضوع و التملق له و لحاشيته و أهل نسبه. حتى يرسخ قدمه معهم و ينظمه السلطان في جملته فيحصل له بذلك حظ عظيم من السعادة و ينتظم في عدد أهل الدولة و ناشئة الدولة حينئذ من أبناء قومها الذين ذللوا أضغانهم و مهدوا أكنافهم مغترين بما كان لآبائهم في ذلك من الآثار لم تسمح به نفوسهم على السلطان و يعتدون بآثاره و يجرون في مضمار الدولة بسببه فيمقتهم السلطان لذلك و يباعدهم. و يميل إلى هؤلاء المصطنعين الذين لا يعتدون بقديم و لا يذهبون إلى دالة و لا ترفع. إنما دأبهم الخضوع له و التملق و الاعتمال في غرضه متى ذهب إليه فيتسع جاههم و تعلو منازلهم و تنصرف إليهم الوجوه و الخواطر بما يحصل لهم من قبل السلطان و المكانة عنده و يبقى ناشئة الدولة فيما هم فيه من الترفع و الاعتداد بالقديم لا يزيدهم ذلك إلا بعداً من السلطان و مقتاً و إيثاراً لهؤلاء المصطنعين عليهم إلى أن تنقرض الدولة. و هذا أمر طبيعي في الدولة و منه جاء شأن المصطنعين في الغالب و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق لا رب سواه.