الفصل السابع في أن القائمين بأمور الدين من القضاء و الفتيا و التدريس و الإمامة و الخطابة و الأذان و نحو ذلك لا تعظم ثروتهم في الغالب

و السبب لذلك أن الكسب كما قدمناه قيمة الأعمال و أنها متفاوتة بحسب الحاجة إليها. فإذا كانت الأعمال ضرورية في العمران عامة البلوى به كانت قيمتها أعظم و كانت الحاجة إليها أشد. و أهل هذه الصنائع الدينية لا تضطر إليهم عامة الخلق و إنما يحتاج إلى ما عندهم الخواص ممن أقبل على دينه. و إن احتيج إلى الفتيا و القضاء في الخصومات فليس على وجه الاضطرار و العموم فيقع الاستغناء عن هؤلاء في الأكثر.
و إنما يهتم بإقامة مراسمهم صاحب الدولة بما ناله من النظر في المصالح فيقسم لهم حظاً من الرزق على نسبة الحاجة إليهم على النحو الذي قررناه. لا يساويهم بأهل الشوكة و لا بأهل الصنائع من حيث الدين و المراسم الشرعية لكنه يقسم بحسب عموم الحاجة و ضرورة أهل العمران فلا يصح قسمهم إلا القليل. و هم أيضاً لشرف بضائعهم أعزة على الخلق و عند نفوسهم فلا يخضعون لأهل الجاه حتى ينالوا منه حظاً يستدرون به الرزق بل و لا تفرغ أوقاتهم لذلك لما هم فيه من الشغل بهذه البضائع الشريفة المشتملة على إعمال الفكر و البدن. بل و لا يسعهم ابتذال أنفسهم لأهل الدنيا لشرف بضائعهم فهم بمعزل عن ذلك، فلذلك لا تعظم ثروتهم في الغالب.
و لقد باحثت بعض الفضلاء فأنكر ذلك علي فوقع بيدي أوراق مخرقة من حسابات الدواوين بدار المأمون تشتمل على كثير من الدخل و الخرج و كان فيما طالعت فيه أرزاق القضاة و الأئمة و المؤذنين فوقفته عليه و علم منه صحة ما قلته و رجع إليه و قضينا العجب من أسرار الله في خلقه حكمته في عوالمه و الله الخالق القادر لا رب سواه.