الفصل الثلاثون في أن الخط و الكتابة من عداد الصنائع الإنسانية
و هو رسوم و أشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس. فهو ثاني رتبة من الدلالة اللغوية و هو صناعة شريفة إذ الكتابة من خواص الإنسان التي يميز بها عن الحيوان. و أيضاً فهي تطلع على ما في الضمائر و تتأدى بها الأغراض إلى البلاد البعيدة فتقضي الحاجات و قد دفعت مؤنة المباشرة لها و يطلع بها على العلوم و المعارف و صحف الأولين و ما كتبوه من علومهم و أخبارهم فهي شريفة بهذه الوجوه و المنافع. و خروجها في الإنسان من القوة إلى الفعل إنما يكون بالتعليم و على قدر الاجتماع و العمران و التناغي في الكمالات و الطلب لذلك تكون جودة الخط في المدينة. إذ هو من جملة الصنائع.
و قد قدمنا أن هذا شأنها و أنها تابعة للعمران و لهذا نجد أكثر البدو أميين لا يكتبون و لا يقرأون و من قرأ منهم أو كتب فيكون خطه قاصراً أو قراءته غير نافذة. و نجد تعليم الخط في الأمصار الخارج عمرانها عن الحد أبلغ و أحسن و أسهل طريقاً لاستحكام الصنعة فيها. كما يحكى لنا عن مصر لهذا العهد و أن بها معلمين منتصبين لتعليم الخط يلقون على المتعلم قوانين و أحكاماً في وضع كل حرف و يزيدون إلى ذلك المباشر بتعليم وضعه فتعتضد لديه رتبة العلم و الحس في التعليم و تأتي ملكته على أتم الوجوه. و إنما أتى هذا من كمال الصنائع و وفورها بكثرة العمران و انفساح الأعمال و قد كان الخط العربي بالغاً مبالغه من الإحكام و الإتقان و الجودة في دولة التبابعة لما بلغت من الحضارة و الترف و هو المسمى بالخط الحميري. و انتقل منها إلى الحيرة لما كان بها من دولة آل المنذر نسباء التبابعة في العصبية و المجددين لملك العرب بأرض العراق. و لم يكن الخط عندهم من الإجادة كما كان عند التبابعة لقصور ما بين الدولتين.
و كانت الحضارة و توابعها من الصنائع و غيرها قاصرة عن ذلك. و من الحيرة لقنه أهل الطائف و قريش فيما ذكر. و يقال إن الذي تعلم الكتابة من الحيرة هو سفيان بن أمية و يقال حرب بن أمية و أخذها من أسلم بن سدرة. و هو قول ممكن و أقرب ممن ذهب إلى أنهم تعلموها من إياد أهل العراق لقول شاعرهم:
قوم لهم ساحة العراقإذا ساروا جميعاً و الخط و القلم
و هو قول بعيد لأن إياداً و إن نزلوا ساحة العراق فلم يزالوا على شأنهم من البداوة. و الخط من الصنائع الحضرية. و إنما معنى قول الشاعر أنهم أقرب إلى الخط و القلم من غيرهم من العرب لقربهم من ساحة الأمصار و ضواحيها فالقول بأن أهل الحجاز إنما لقنوها من الحيرة و لقنها أهل الحيرة من التبابعة و حمير هو الأليق من الأقوال و رأيت في كتاب التكملة لابن الأبار عند التعريف بابن فروخ الفيرواني القاسي الأندلسي من أصحاب مالك رضي الله عنه و اسمه عبد الله بن فروخ بن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم. عن أبيه قال قلت لعبد الله بن عباس: يا معشر قريش، خبروني عن هذا الكتاب العربي، هل كنتم تكتبونه قبل أن يبعث الله محمداً صلى الله عليه و سلم تجمعون منه ما أجتمع و تفرقون منه ما افترق مثل الألف و اللام و الميم و النون ؟ قال: نعم.
قلت و ممن أخذتموه ؟ قال، من حرب بن أمية. قلت: و ممن أخذه حرب ؟ قال، من عبد الله بن جدعان. قلت: و ممن أخذه عبد الله بن جدعان ؟ قال من أهل الأنبار. قلت: و ممن أخذه أهل الأنبار ؟ قال: من طارئ طرأ عليه من أهل اليمن. قلت و ممن أخذه ذلك لطاريء ؟
قال: من الخلجان بن القسم كاتب الوحي ليهود النبى عليه السلام. و هو الذي يقول:
أفي كل عام سنة تحدثونها و رأي على غير الطريق يعبر و الموت خير من حياة تسبنا بها جرهم فيمن يسب و حمير
انتهى ما نقله ابن الأبار في كتاب التكملة. و زاد في آخره حدثني بذلك أبو بكر بن أبي حميره في كتابه عن أبي بحر بن العاص عن أبي الوليد الوقشي عن أبي عمر الطلعنكي بن أبي عبد الله بن مفرح. و من خطه نقلته عن أبي سعيد بن يونس عن محمد بن موسى بن النعمان عن يحيى بن محمد بن حشيش بن عمر بن أيوب المغافري التونسي عن بهلول بن عبيدة الحمي عن عبد الله بن فروخ. انتهى.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)