مسائل الفقه ما أمكن. و جاء أبو زيد الدبوسي من أئمتهم فكتب في القياس بأوسع من جميعهم و تمم الأبحاث و الشروط التي يحتاج إليها فيه و كملت صناعة أصول الفقه بكماله و تهذبت مسائله وتمهدت قواعده و عني الناس بطريقة المتكلمين فيه. و كان من أحسن ما كتب فيه التكلمون كتابه البرهان لأمام الحرمين و المستصفى للغزالي و هما من الأشعرية و كتاب العهد لعبد الجبار و شرحه المعتمد لأبي الحسين البصري وهما من المعتزلة. و كانت الأربعة قواعد هذا الفن و أركانه. ثم لخص هذه الكتب الأربعة فحلان من التكلمين المتأخرين و هما الإمام فخز الدين بن الخطيب في كتاب المحصول و سيف الدين الآمدي في كتاب الأحكام. و اختلفت طرائقهما في الفن بين التحقيق و الحجاج. فابن الخطيب أميل إلى الاستكثار من الأدلة والاحتجاج و الآمدي مولع بتحقيق المذاهب و تفريع المسائل. و أما كتاب المحصول فاختصره تلميذ الإمام سراج الدين الأرموي في كتاب التحصيل و تاج الدين الأرموي في كتاب الحاصل و اقتطف شهاب الدين القرافي منهما فقدمات و قواعد في كتاب صغير سماه التنقيحات. و كذلك فعل البيضاوي في كتاب المنهاج. و عني المبتدئون يهذين الكتابين و شرحهما كثير من الناس. و أما كتاب الإحكام للآمدي و هو أكثر تحقيقا في المسائل فلخصة أبو عمر بن الحاجب في كتابي المعروف بالمختصر الكبير. ثم أختصره في كتاب آخر تداوله طلبة العلم و عني أهل المشرق و المغرب به و بمطالعته و شرحه و حصلت زبدة طريقة المتكلمين في هذا الفن في هذه المختصرات. و أما طريقة الخنفية فكتبوا فيها كثيرا و كان من أحسن كتابة فيها. للمتقدمين تأليف أبي زيد الدبوسي و أحسن كتابة المتأخرين فيها تأليف سيف الإسلام البزدوي من أئمتهم و هو مستوعب و جاء ابن الساعاتي من فقهاء الخنفية فجمع بين كتاب الإحكام و كتاب البزدوني في الطريقتين و سمي كتابه بالبدائع فجاء من أحسن الأوضاع و أبدعها و أئمة العلماء لهذا العهد يتداولونه قراءة و بحثا. و أولع كثير من علماء العجم بشرحه. و الحال على ذلك لهذا العهد. هذه حقيقة هذا الفن و تعيين موضوعاته و تعديد التأليف المشهورة لهذا العهد فيه. و الله ينفعنا بالعلم و يجعلنا من أهله بمنه و كرمه إنه على كل شيء قدير. و أما الخلافات فاعلم أن هذا الفقة المستنبط من الأدلة الشرعية كثر فيه الخلاف بين المجتهدين ياختلاف مداركهم و أنظارهم خلافا لا بد من وقوعه لما قدمناه. و اتسع ذلك في الملة اتساعا غظيما و كان للمقلدين أن يقلدوا من شاؤوا منهم ثم لما انتهى ذلك إلى الأئمة الأربعة من علماء الأمصار و كانوا بمكان من حسن الظن بهم اقتصر الناس على تقليدهم و منعوا من تقليد سواهم لذهاب الاجتهاد لصعوبته و تشعب العلوم التي هي موادة باتصال الزمان و افتقاد من يقوم على سوى هذه المذاهب الأربعة. فاقيمت هذه المذاهب الأربعة أصول الملة و أجري الخلاف بين المتمسكين بها و الآخذين بأحكامها مجرى الخلاف في النصوص الشرعية و الأصول الفقهية. و جرت بينهم المناظرات في تصحيح كل منهم مذهب إمامه تجري على أصول صحيحة و طرائق قويمة يحتج بها كل على صحة مذهبه الذي قلده و تمسك به و أجريت في مسائل الشريعة كلها و في كل باب من أبواب الفقه فتارة يكون الخلاف بين الشافعي و مالك و أبو حنيفة يوافق أحدهما و تارة بين مالك و أبي حنيفة و الشافعي يوافق أحدهما و تارة بين الشافعي و أبي حنيفة و مالك يوافق أحدهما و كان في هذه المناظرات بيان مآخذ هؤلاء الأئمة و مثارات اختلافهم و مواقع اجتهادهم. كان هذا الصنف من العلم يسمى بالخلافيات. و لابد لصاحبه من معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام كما يحتاج إليها المجتهد إلا أن المجتهد يحتاج إليها للاستنباط و صاحب الخلافيات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من أن يهدمها المخالف بأدلته. و هو لعمري علم جليل الفائدة في معرفة مآخذ الأئمة و أدلتهم و مران المطالعين له على الاستدلال فيما يرومون الإستدلال عليه. وتآليف الحنفية و الشافعية فيه أكثر من تآليف المالكية لأن القياس عند الحنفية أصل للكثير من فروع مذهبهم كما عرفت فهم لذلك أهل النظر و البحث. و أما المالكية فالأثر أكثر معتمدهم و ليسوا بأهل نظر و أ يضا فأكثرهم أهل الغرب و هم بادية غفل من الصنائع إلا في الأقل. و للغزالي رحمه الله تعالى فيه كتاب المآخذ و لأبي بكر العربي من المالكية كتاب التلخيص جلبه من المشرق. و لأبي زيد الدبوسي كتاب التعليقة و لابن القصار من شيوخ المالكية عيون الأدلة و قد جمع ابن الساعاتي في مختصره في أصول الفقه جميع ما ينبني عليها من الفقه الخلافي مدرجا، في كل مسألة ما ينبني عليها من الخلافيات. و أما الجدال و هو معرفة آداب المناظرة التي تجري بين أهل المذاهب الفقهية و غيرهم فإنة لما كان باب المناظرة في الرد و القبول متسعا و كل واحد من المتناظرين في الاستدلال و الجواب يرسل عنانة في الاحتجاج. و منة ما يكون صوابا و منة ما يكون خطأ فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آدابا و أحكاما يقف المتناظران عند حدودها في الرد و القبول و كيف يكون حال المستدل و المجيب و حيث يسوغ له أن يكون فستدلا و كيف يكون مخصوصا فنقطعا و محل اعتراضه أو معارضته و أين يجب عليه السكوت و لخصمه الكلام و الإستدلال. و لذلك قيل فيه إنه معرفة بالقواعد من الحدود و الآداب في الاستدلال التي يتوصل بها إلى حفظ رأي و هدمه سواء كان ذلك الرأي من الفقه أو غيره. و هي طريقتان طريقة البزدوي و هي خاصة بالأدلة الشرعية من النص و الإجماع و الإستدلال و طريقة العميدي و هي عامة في كل دليل يستدل به من أي علم كان و أكثره استدلال. و هو من المناحي الحسنة و المغالطات فيه في نفس الأمر كثيرة. و إذا اعتبرنا النظر المنطقي كان في الغالب أشبه بالقياس المغالطي و السوفسطائي. إلا أن صور الأدلة و الأقيسة فيه محفوظة مراعاة يتحرى فيها طرق الاستدلال كما ينبغي. و هذا العميدي هو أول من كتب فيها و نسبت الطريقة إليه. وضع الكتاب المسمى يالإرشاد مختصرا و تبعه من بعده من المتأخرين كالنسفي و غيره جاؤوا على أثره و سلكوا مسلكه و كثرت في الطريقة التآليف. و هي لهذا العهد مهجورة لنقص العلم و التعليم في الأمصار الإسلامية. و هي مع ذلك كمالية و ليست ضرورية و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق. الفصل العاشر: في علم الكلام هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية و الرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف و أهل السنة. و سر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد. فلنقدم هنا لطيفة في برهان عقلي يكشف لنا عن التوحيد على أقرب الطرق و المآخذ ثم نرجع إلى تحقيق علمه و فيما ينظر و يشير إلى حدوثه في الملة و ما دعا إلى وضعه فنقول: إعلم أن الحوادث في عالم الكائنات سواء كانت من الذوات أو من الأفعال البشرية أو الحيوانية فلابد لها من أسباب متقدمة عليها بها تقع في مستقر العادة و عنها يتم كونة. و كل واحد من هذه الأسباب حادث أيضا فلابد له من أسباب أخرى و لا تزال تلك الأسباب مرتقية حتى تنتهي إلى مسبب الأسباب و موجدها و خالقها سبحانه لا إله إلا هو. و تلك الأسباب في ارتقائها تتفسح و تتضاعف طولا و عرضا و يحار العقل في إدراكها و تعديدها. فإذا لا يحصرها إلا العلم المحيط سيما الأفعال البشرية و الحيوانية فإن من جملة أسبابها في الشاهد القصود و الإرادات إذ لا يتم كون الفعل إلا بإرادته و القصد إليه. و القصود و الإرادات أمور نفسانية ناشئة في الغالب عن تصورات سابقة يتلو بعضها بعضا. و تلك التصورات هي