بالجملة فكانت مهجورة عندهم لذلك. ثم جاء بعد القاضي أبي بكر الباقلاني من أئمة الأشعرية إمام الحرمين أبو المعالي فأملى في الطريقة كتاب الشامل و أوسع القول فيه. ثم لخصه في كتاب الإرشاد و اتخذه الناس إماما لعقائدهم. ثم انتشرت من بعد ذلك علوم المنطق في الملة و قرأه الناس و فرقوا بينه و بين العلوم الفلسفية بأنة قانون و معيار للأدلة فقط يسبر به الأدلة منها كما تسبر من سواها. ثم نظروا في تلك القواعد و المقدمات في فن الكلام للأقدمين فخالفوا الكثير منها بالبراهين التي أدلت إلى ذلك و بما أن كثيرا منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطبيعيات و الإلهيات. فلما سبروها بمعيار المنطق ردهم إلى ذلك فيها و لم يعتقدوا بطلان المدلول من بطلان دليله كما صار إليه القاضي فصارت هذه الطريقة في مصطلحهم مباينة للطريقة الأولى و تسمى طريقة المتأخرين و ربما أدخلوا فيها الرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الإيمانية و جعلوهم من خصوم العقائد لتناسب الكثير من مذاهب المبتدعة و مذاهبهم. و أول من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزالي رحمه الله و تبعه الإمام ابن الخطيب و جماعة قفوا أثرهم و اعتمدوا تقليدهم ثم توغل المتأخرون من بعدهم في مخالطة كتب الفلسفة و التبس عليهم شان الموضح في العلمين فحسبوه فيهما واحدا من اشتباه المسائل فيهما. و اعلم أن المتكلمين لما كانوا يستدلون في أكثر أحوالهم بالكائنات و أحوالها على وجود البارئ و صفاته و هو نوع استدلالهم غالبا. و الجسم الطبيعي الذي ينظر فيه الفيلسوف في الطبيعيات و هو بعض من هذه الكائنات. إلا أن نظره فيها مخالف لنظر المتكلم و هو ينظر في الجسم من حيث يتحرك و يسكن و المتكلم ينظر فيه من حيث يدل على الفاعل. و كذا نظر الفيلسوف في الإلهيات إنما هو نظر في الوجود المطلق و ما يقتضيه لذاته و نظر المتكلم في الوجود من حيث إنه يدل على الموجد. و بالجملة فموضوع علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحة من الشرع من حيث يمكن أن ستدل عليها بالأدلة العقلية فترفع البدع و تزول الشكوك و الشبيه عن تلك العقائد و إذا تأملت حال الفن قي حدوثه و كيف تدرج كلام الناس فيه صدرا بعد صدر و كلهم يفرض العقائد صحيحة و يستنهض الحجج و الأدلة علمت حينئذ ما قررناه لك في موضوع الفن و أنه لا يعدوه. و لقد اختلطت الطريقتان عند هؤلاء المتأخرين و التبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة بحيث لا يتميز أحد الفنين من الآخر. و لا يحصل عليه طالبه من كتبهم كما فعله البيضاوي في الطوالع و من جاء بعدة من علماء العجم في جميع تآليفهم. إلا أن هذه الطريقة قد يعنى بها بعض طلبة العلم للاطلاع على المذاهب و الإغراق في معرفة الحجاج لوفور ذلك فيها. و أما محاذاة طريقة السلف بعقائد علم الكلام فإنما هو في الطريقة القديمة للمتكلمين و أصلها كتاب الإرشاد و ما حذا حذوة. و من أراد إدخال الرد على الفلاسفة في عقائده فعليه بكتب الغزالي و الإمام ابن الخطيب فإنها و إن وقع فيها مخالفة للإصطلاح القديم فليس فيها من الاختلاط في المسائل و الالتباس في الموضوع ما في طريقة هؤلاء المتأخرين من بعدهم و على الجملة فينبغي أن يعلم أن هذا العلم الذي هو علم الكلام غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم إذ الملحدة و المبتدعة قد انقرضوا و الأئمة. من أهل السنة كفونا شأنهم فيما كتبوا و دونوا و الأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا و نصروا. و أما الآن فلم يبق منها إلا كلام تنزه الباري عن كثير إيهاماته و إطلاقه و لقد سئل الجنيد رحمه الله عن قوم مر بهم بعض المتكلمين يفيضون فيه فقال: ما هؤلاء ؟ فقيل: قوم ينزهون الله بالأدلة عن صفات الحدوث و سمات النقص. فقال: نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب لكن فائدته في آحاد الناس و طلبة العلم فائدة معتبرة إذ لا يحسن بحامل السنة الجهل بالحجج النظرية على عقائدها. و الله ولي المؤمنين. الفصل الحادي عشر: في أن عالم الحوادث الفعلية إنما يتم بالفكر اعلم أن عالم الكائنات يشتمل على ذوات محضة، كالعناصر و آثارها و المكونات الثلاثة عنها. التي هي المعدن و النبات و الحيوان. و هذه كلها متعلقات القدرة الإلهية و على أفعال صادرة عن الحيوانات، واقعة بمقصودها، متعلقة بالقدرة التي جعل الله لها عليها: فمنها منتظم مرتب، و هي الأفعال البشرية، و منها غير منتظم و لا مرتب، و هي أفعال الحيوانات غير البشر. و ذلك الفكر يدرك الترتيب بين الحوادث بالطبع أو بالوضع، فإذا قصد إيجاد شيء من الأشياء، فلأجل الترتيب بين الحوادث لابد من التفطن بسببه أو علته أو شرطه، و هي على الجملة مبادئه، إذ لا يوجد إلا ثانيا عنها و لا يمكن إيقاع المتقدم متأخرا، و لا المتأخر متقدما. و ذلك المبدأ قد يكون له مبدأ آخر من تلك المبادئ لا يوجد إلا متأخرا عنه، و قد يرتقي ذلك أو ينتهي. فإذا انتهى إلى آخر المبادىء في مرتبتين أو ثلاث أو أزيد، و شرع في العمل الذي يوجد به ذلك الشيء بدأ بالمبدأ الأخير الذي انتهى إليه الفكر، فكان أول عمله. ثم تابع ما بعده إلى آخر المسببات التي كانت أول فكرته. مثلا: لو فكر في إيجاد سقف يكنه انتقل بذهنه إلى لحائط الذي يدعمه، ثم إلى الأساس الذي يقف عليه الحائط فهو آخر الفكر. ثم يبدأ في العمل بالأساس، ثم بالحائط، ثم بالسقف، و هو آخر العمل. و هذا معنى قولهم: أول العمل آخر الفكرة، و أول الفكرة آخر العمل فلا يتم فعل الإنسان في الخارج إلا بالفكر في هذه المرتبات لتوقف بعضها على بعض. ثم يشرع في فعلها. و أول هذا الفكر هو المسبب الأخير، و هو آخرها في العمل. و أولها في العمل هو المسبب الأول و هو آخرها في الفكر. و لأجل العثور على هذا الترتيب يحصل الإنتظام في الأفعال البشرية. و أما الأفعال الحيوانية لغير البشر فليس فيها انتظام لعدم الفكر الذي يعثر به الفاعل علي الترتيب فيما يفعل. إذ الحيوانات إنما تدرك بالحواس و مدركاتها متفرقة خلية من الربط لأنة لا يكون إلا بالفكر. و لما كانت الحواس المعتبرة في عالم الكائنات هي المنتظمة، و غير المنتظمة إنما هيى تبع لها. اندرجت حينئذ أفعال الحيوانات فيها، فكانت مسخرة للبشر. و استولت أفعال البشر على عالم الحوادث. بما فيه، فكان كله في طاعته و تسخره. و هذا معنى الاستحلاف المشار إليه في قوله تعالى: إني جاعل في الأرض خليفة فهذا الفكر هو الخاصة البشرية التي تميز بها البشر عن غيره من الحيوان. و على قدر حصول الأسباب و المسببات في الفكر مرتبة تكون إنسانيتة. فمن الناس من تتوالى له السببية في مرتبتين أو ثلاث، و منهم من لا يتجاوزها، و منهم من ينتهي إلى خمس أو ست فتكون إنسانيته أعلى. و اعتبر ذلك بلاعب الشطرنج: فإن في اللاعبين من يتصور الثلاث حركات و الخمس الذي ترتيبها وضعي، و منهم من يقصر عن ذلك لقصور ذهنه. و إن كان هذا المثال غير مطابق. لأن لعب الشطرنج بالملكة، و معرفة الأسباب و المسببات بالطبع. لكنه مثال يحتذي به الناظر في تعقل ما يورد عليه من القواعد. و الله خلق الإنسان و فضله على كثير ممن خلق تفضيلا.
الفصل الثاني عشر في العقل التجريبي و كيفية حدوثه إنك تسمع في كتب الحكماء قولهم أن الإنسان هو مدني الطبع، يذكرونه في إثبات النبوات و غيرها. و النسبة فيه إلى المدينة، و هي عندهم كناية عن الاجتماع البشري. و معنى هذا القول، أنة لا تمكن حياة المنفرد من البشر، و لا يتم وجوده إلا مع أبناء جنسه. و ذلك لما هو عليه من العجز عن استكمال وجوده و حياته، فهو محتاج إلى المعاونة في جميع حاجاته أبدا بطبعه. و تلك المعاونة لابد فيها من المفاوضة أولا، ثم المشاركة و ما بعدها. و ربما تفضي المعاملة عند اتحاد الأعراض إلى المنازعة و المشاجرة فتنشأ المنافرة و المؤالفة. و الصداقة و العداوة. و يؤول إلى الحرب و السلم بين الأمم و القبائل. و ليس ذلك على أي وجه اتفق، كما بين الهمل من الحيوانات، بل للبشر يما جعل الله فيهم من انتظام الأفعال و ترتيبها بالفكر كما تقدم. جعل منتظما فيهم و يسرهم لإيقاعه على وجوه سياسية و قوانين حكمية. ينكبون فيها عن المفاسد إلى المصالح، و عن الحسن إلى القبيح، بعد أن يميزوا القبائح و المفسدة. بما ينشأ عن الفعل من ذلك عن تجربة صحيحة، و عوائد معروفة بينهم، فيفارقون الهمل من الحيوان. و تظهر عليهم نتيجة الفكر في انتظام الأفعال و بعدها عن المفاسد. هذه المعاني التي يحصل بها ذلك لا تبعد عن الحس كل البعد و لا يتعمق فيها الناظر، بل كلها تدرك بالتجربة و بها يستفاد. لأنها معان جزئية تتعلق بالمحسوسات و صدقها و كذبها، يظهر قريبا في الواقع، فيستفيد طالبها حصول العلم بها من ذلك. و يستفيد كل واحد من البشر القدر الذي يسر له منها مقتنصا له بالتجربة بين الواقع في معاملة أبناء جنسه. حتى يتعين له ما يجب و ينبغي، فعلا و تركا. و تحصل في ملابسة الملكة في معاملة أبناء جنسه. و من تتبع ذلك سائر عمره حصل له العثور على كل قضية. و لابد بما تسعه التجربة من الزمن. و قد يسهل الله على كثير من البشر تحصيل ذلك في أقرب زمن التجربة، إذ قلد فيها الآباء و المشيخة و الأكابر، و لقن عنهم و وعى تعليمهم، فيستغني عن طول المعانات في تتبع الوقائع و اقتناص هذا المعنى من بينها. و من فقد العلم في ذلك و التقليد فيه أو أعرض عن حسن استماعه و اتباعه، طال عناؤة في التأديب بذلك، فيجري في غير مألوف و يدركها على غير نسبة، فتوجد آدابه و فعاملاته سيئة الأوضاع بادية الخلل، و يفسد حاله في معاشه بين أبناء جنسه. و هذا معنى القول المشهور: من لم يؤدبه والده أدبه الزمان. أي من لم يلقن الآداب في معاملة البشر من والديه و في معناهما المشيخة و الأكابر و يتعلم ذلك منهم رجع إلى تعلمه بالطبع من الواقعات على توالي الأيام، فيكون الزمان معلمه و مؤدبة لضرورة ذلك بضرورة المعاونة التي في طبعه. و هذا هو العقل التجريبي، و هو يحصل بعد العقل التمييزي الذي تقع به الأفعال كما بيناه. و بعد هذين مرتبة العقل النظري الذي تكفل يتفسيره أهل العلوم، فلا تحتاج إلى تفسيره في هذا الكتاب. و الله وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون.