النار. فإذا ألحت عليه النار و أرادت تطييره حبسه الجسد اليابس الممازج له في جوفه فمنعه من الطيران فكان الجسد علة لإمساك الماء و الماء علة لبقاه الدهن و الدهن علة لثبات الصبغ و الصبغ علة لظهور الدهن و اظهار الدهنية في الأشياء المظلمة التي لا نور لها و لا حياة فيها. فهذا هو الجسد المستقيم و هكذا يكون العمل. و هذه التصفية التي سألت عنها و هي التي سمتها الحكماء بيضة و إياها يعنون لا بيضة الدجاج و اعلم أن الحكماء لم تسميها بهذا الاسم لغير معنى بل أشبهتها. و لقد سألت مسلمة عن ذلك يوما و ليس عنده غيري فقلت له: أيها الحكيم الفاضل أخبرني لأي شيء سمت الحكماء مركب الحيوان بيضة ؟ اختيارا منهم لذلك أم لمعنى دعاهم إليه ؟ فقال: بل لمعنى غامض فقلت أيها الحكيم و ما ظهر لهم من ذلك من المنفعة و الاستدلال على الصناعة حتى شبهوها و سموها بيضة ؟ فقال: لشبهها و قرابتها من المركب ففكر فيه فإنه سيظهر لك معناه. فبقيت بين يديه مفكرا لا أقدر على الوصول إلى معناه. فلما رأى ما بي من الفكر و أن نفسي قد مضت فيها أخذ بعضدي و هزني هزة خفيفة و قال لي: يا أبا بكر ذلك للنسبة التي بينهما في كمية الألوان عند امتزاج الطبائع و تأليفها. فلما قال ذلك انجلت عني الظلمة و أضاء لى نور قلبي و قوي عقلي على فهمه فنهضت شاكرا الله عليه إلى منزلي و أقمت على ذلك شكلا هندسيا يبرهن به على صحة ما قاله مسلمة. و أنا واضعه لك في هذا الكتاب. مثال ذلك أن المركب إذا تم و كمل كان نسبة ما فيه من طبيعة الهواء إلى ما في البيضة من طبيعة الهواء كنسبة ما في المركب من طبيعة النار إلى ما في البيضة من طبيعة النار. و كذلك الطبيعتان الأخريان، الأرض و الماء فأقول: إن كل شيئين متناسبين على هذه الصفة هما متشابهان. و مثال ذلك أن تجعل لسطح البيضة هزرح فإذا أردنا ذلك فإنا نأخذ أقل طبائع المركب و هي طبيعة اليبوسة و نضيف إليها مثلها من طبيعة الرطوبة و ندبرهما حتى تنشف طبيعة اليبوسة طبيعة الرطوبة و تقبل قوتها. و كأن في هذا الكلام رمزا و لكنه لا يخفى عليك. ثم تحمل عليهما جميعا مثليهما من الروح و هو الماء فيكون الجميع ستة أمثال. ثم تحمل على الجميع بعد التدبير مثلا من طبيعة الهواء التي هي النفس و ذلك ثلاثة أجزاء فيكون الجميع تسعة أمثال اليبوسة بالقوة. و تحمل تحت كل ضلعين من المركب الذي طبيعته محيطة بسطح المركب طبيعتين فتجعل أولا الضلعين المحيطين بسطحه طبيعة الماء و طبيعة الهواء و هما ضلعا ا ح د و سطح ابجد و كذلك الضلعان المحيطان بسطح البيضة اللذان هما الماء و الهواء ضلعا هزوح فأقول أن سطح ابجد يشبه سطح هزوح طبيعة الهواء التي تسمى نفسا و كذلك بجـ من سطح المركب. و الحكماء لم تسم شيئا باسم شيء إلا لشبهه به. و الكلمات التي سألت عن شرحها الأرض المقدسة و هي المنعقدة من الطبائع العلوية و السفلية. و النحاس هو الذي أخرج سواده و قطع حتى صار هباء ثم حمر بالزاج حتى صار نحاسيا و المغنيسيا حجرهم الذي تجمد فيه الأرواح و تخرجه الطبيعة العلوية التي تستجن فيها الأرواح لتقابل عليها النار و الفرفرة لون أحمر قان يحدثه الكيان. و الرصاص حجر له ثلاث قوى مختلفة الشخوص و لكنها متشاكلة و متجانسة. فالواحدة روحانية نيرة صافية و هي الفاعلة و الثانية نفسانية و هي متحركة حساسة غير أنها أغلظ من الأولى و مزكزها دون مركز الأولى و الثالثة قوة أرضية حاسة قابضة منعكسة إلى مركز الأرض لثقلها و هي الماسكة الروحانية والنفسانية جميعا و المحيطة بهما. و أما سائر الباقية فمبتدعة و مخترعة. إلباسا على الجاهل، و من عرف المقدمات استغنى عن غيرها. فهذا جميع ما سألتني عنه و قد بعثت به إليك مفسرا و نرجو بتوفيق الله أن تبلغ أملك و السلام. انتهى كلام ابن بشرون و هو من كبار تلاميذ مسلمة المجريطي شيخ الأندلس في علوم الكيمياء و السيمياء و السحر في القرن الثالث و ما بعده. و أنت ترى كيف صرف ألفاظهم كلها في الصناعة إلى الزمز و الألغاز التي لا تكاد تبين و لا تعرف و ذلك دليل على أنها ليست بصناعة طبيعية. و الذي يجب أن يعتقد في أمر الكيمياء و هو الحق الذي يعضده الواقع أنها من جنس آثار النفوس الروحانية و تصرفها في عالم الطبيعة، إما من نوع الكرامة إن كانت النفوس خيرة أو من نوع السحر إن كانت النفوس شريرة فاجرة. فأما الكرامة فظاهرة و أما السحر فلأن الساحر كما ثبت في مكان تحقيقه يقلب الأعيان المادية بقوته السحرية. و لابد له مع ذلك عندهم من مادة يقع فعله السحري فيها كتخليق بعض الحيوانات من مادة التراب أو الشجر و النبات و بالجملة من غير مادتها المخصوصة بها، كما وقع لسحرة فرعون في الحبال و العصي و كما ينقل عن سحرة السودان و الهنود في قاصية الجنوب و الترك في قاصية الشمال أنهم يسحرون الجو للأمطار و غير ذلك. و لما كانت هذه تخليقا للذهب في غير مادته الخاصة به كان من قبيل السحر و المتكلمون فيه من أعلام الحكماء مثل جابر و مسلمة. و من كان قبلهم من حكماء الأمم إنما نحوا هذا المنحى و لهذا كان كلامهم فيه ألغازا حذرا عليها من إنكار الشرائع على السحر و أنواعه لا أن ذلك يرجع إلى الضنانة بها كما هو رأي من لم يذهب إلى التحقيق في ذلك. و انظر كيف سمى مسلمة كتابه فيها رتبة الحكيم و سمى كتابه في السحر و الطلسمات غاية الحكيم إشارة إلى عموم موضوع الغاية و خصوص موضوع هذه لأن الغاية أعلى من الرتبة فكان مسائل الرتبة بعض من مسائل الغاية و تشاركها في الموضوعات. و من كلامه في الفنين يتبين ما قلناه و نحن نبين فيما بعد غلط من يزعم أن مدارك هذا الأمر بالصناعة الطبيعية. و الله العليم الخبير.
الفصل الحادي و الثلاثون: في إبطال الفلسفة و فساد منتحلها هذا الفصل و ما بعده مهم لأن هذه العلوم عارضة في العمران كثيرة في المدن. و ضررها في الدين كثير فوجب أن يصدع بشأنها و يكشف عن المعتقد الحق فيها. و ذلك أن قوما من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله الحسي منه و ما وراء الحسي تدرك أدواته و أحواله بأسبابها و عللها بالأنظار الفكرية و الأقيسة العقلية و أن تصحيح العقائد الإيمانية من قبل النظر لا من جهة السمع فإنها بعض من مدارك العقل. و هؤلاء يسمون فلاسفة جمع فيلسوف و هو باللسان اليوناني محب الحكمة. فبحثوا عن ذلك و شمروا له و حوموا على إصابة الغرض منه و وضعوا قانونا يهتدي به العقل في نظره إلى التمييز بين الحق و الباطل و سموه بالمنطق. و محصل ذلك أن النظر الذي يفيد تمييز الحق من الباطل إنما هو للذهن في المعاني المنتزعة من الموجودات الشخصية فيجرد منها أولا صور منطبقة على جميع الأشخاص كما ينطبق الطابع على جميع النقوش التي ترسمها في طين أو شمع. و هذه مجردة من المحسوسات تسمى المعقولات الأوائل. ثم تجرد من تلك المعاني الكلية إذا كانت مشتركة مع معان أخرى و قد تميزت عنها في الذهن فتجرد منها معان أخرى و هي التي اشتركت بها. ثم تجرد ثانيا إن شاركها غيرها و ثالثا إلى أن ينتهي التجريد إلى المعاني البسيطة الكلية المنطبقة على جميع المعاني و الأشخاص و لا يكون منها تجريد بعد هذا و هي الأجناس العالية. و هذه المجردات كلها من غير المحسوسات هي من حيث تأليف بعضها مع بعض. لتحصيل العلوم منها تسمى المعقولات الثواني. فإذا نظر الفكر في هذه المعقولات المجردة و طلب تصور الوجود. كما هو فلابد للذهن من إضافة بعضها إلى بعض و نفي بعضها عن بعض بالبرهان العقلي اليقيني ليحصل تصور الوجود تصورا صحيحا مطابقا إذا كان ذلك بقانون صحيح كما مر. و صنف التصديق الذي هو تلك الإضافة و الحكم متقدم عندهم على صنف التصور في النهاية و التصور متقدم عليه في البداءة و التعليم لأن التصور التام عندهم هو غاية الطلب الإدراكي و إنما التصديق وسيلة له و ما تسمعه في كتب المنطقيين من تقدم التصور و توقف التصديق عليه فبمعنى الشعور لا بمعنى العلم التام و هذا هو مذهب كبيرهم أرسطو ثم يزعمون أن السعادة في إدراك الموجودات كلها ما في الحس و ما وراء الحس بهذا النظر و تلك البراهين. و حاصل مداركهم في الوجود على الجملة و ما آلت إليه و هو الذي فرعوا عليه قضايا أنظارهم أنهم عثروا أولا على الجسم السفلي بحكم الشهود و الحس ثم ترقى إدراكهم قليلا فشعروا بوجود النفس من قبل الحركة و الحس في الحيوانات ثم احسوا من قوى النفس بسلطان العقل. و وقف إدراكهم فقضوا على الجسم العالي السماوي بنحو من القضاء على أمر الذات الإنسانية. و وجب عندهم أن يكون للفلك نفس و عقل كما للإنسان ثم أنهوا ذلك نهاية عدد الآحاد و هي العشر، تسع مفصلة ذواتها جمل و واحد أول مفرد و هو العاشر. و يزعمون أن السعادة في إدراك الوجود على هذا النحو من القضاء مع تهذيب النفس و تخلقها بالفضائل و أن ذلك ممكن للإنسان و لو لم يرد شرع لتمييزه بين الفضيلة و الرذيلة من الأفعال بمقتضى عقله و نظره و ميله إلى المحمود منها و اجتنابه للمذموم بفطرته و أن ذلك اذا حصل للنفس حصلت لها البهجة و اللذة و أن الجهل بذلك هو الشقاء السرمدي و هذا عندهم هو معنى النعيم و العذاب في الآخرة إلى خبط لهم في تفاصيل ذلك معروف في كلماتهم. و إمام هذه المذاهب الذي حصل مسائلها و دون علمها و سطر حججها فيما بلغنا في هذه الأحقاب هو أرسطو المقدوني من أهل مقدونية من بلاد الروم من تلاميذ أفلاطون و هو معلم الإسكندر و يسمونه المعلم الأول على الإطلاق يعنون معلم صناعة المنطق إذ لم تكن قبله مهذبة و هو أول من رتب قانونها و استوفى مسائلها و أحسن بسطها و لقد أحسن في ذلك القانون ما شاء لو تكفل له بقصدهم في الإلهيات ثم كان من بعده في الإسلام من أخذ بتلك المذاهب و أتبع فيها رأيه حذو النعل بالنعل إلا في القليل. و ذلك أن كتب أولئك المتقدمين لما ترجمها الخلفاء من بني العباس من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي تصفحها كثير من أهل الملة و أخذ من مذاهبهم من أضله الله من منتحلي العلوم و جادلوا عنها و اختلفوا في مسائل من تفاريعها و كان من أشهرهم أبو نصر الفارابي في المائة الرابعة لعهد سيف الدولة و أبو علي بن سينا في المائة الخامسة لعهد نظام الملك من بني بويه بأصبهان و غيرهما. و اعلم أن هذا الرأي الذي ذهبوا إليه باطل بجميع وجوهه. فأما إسنادهم الموجودات كلها إلى العقل الأول و اكتفاؤهم به في الترقي إلى الواجب فهو قصور عما وراء ذلك من رتب خلق الله فالوجود أوسع نطاقا من ذلك و يخلق ما لا تعلمون و كأنهم في اقتصارهم على إثبات العقل فقط و الغفلة عما وراءه بمثابة الطبيعيين المقتصرين على إثبات الأجسام خاصة المعرضين عن النقل و العقل المعتقدين أنه ليس وراء الجسم في حكمة الله شيء. و أما البراهين التي يزعمونها على مدعياتهم في الموجودات و يعرضونها على معيار المنطق و قانونه في قاصرة و غير وافية بالغرض. أما ما كان منها في الموجودات الجسمانية و يسمونه العلم الطبيعي فوجه قصوره أن المطابقة بين تلك النتائج الذهنية التي تستخرج بالحدود و الأقيسة كما في زعمهم و بين ما في الخارج غير يقيني لأن تلك أحكام ذهنية كلية عامة و الموجودات الخارجية متشخصة بموادها. و لعل في المواد ما يمنع مطابقة الذهني الكلي للخارجي الشخصي اللهم إلا مالا يشهد له الحس من ذلك فدليله شهوده لا تلك البراهين فأين اليقين الذي يجدونه فيها ؟ و ربما يكون تصرف الذهن أيضا في المعقولات الأول المطابقة للشخصيات بالصور الخيالية لا في المعقولات الثواني التي تجريدها في الرتبة الثانية فيكون الحكم حينئذ يقينيا بمثابة المحسوسات إذ المعقولات الأول أقرب إلى مطابقة الخارج لكمال الانطباق فيها فنسلم لهم حينئذ دعاويهم في ذلك. إلا أنه ينبغي لنا الإعراض عن النظر فيها إذ هو من ترك المسلم لما لا يعنيه فإن مسائل الطبيعيات لا تهمنا في ديننا و لا معاشنا فوجب علينا تركها. و أما ما كان منها في الموجودات التي وراء الحس و هي الروحانيات و يسمونه العلم الإلهي و علم ما بعد الطبيعة فإن ذواتها مجهولة رأسا و لا يمكن التوصل إليها و لا البرهان عليها لأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية الشخصية إنما هو ممكن فيما هو
مدرك لنا. و نحن لا ندرك الذوات الروحانية حتى نجرد منها ماهيات أخرى بحجاب الحس بيننا و بينها فلا يأتي لنا برهان عليها و لا مدرك لنا في إثبات وجودها على الجملة إلا ما نجده بين جنبينا من أمر النفس الإنسانية و أحوال مداركها و خصوصا في الرؤيا التي هي وجدانية لكل أحد و ما وراء ذلك من حقيقتها و صفاتها فأمر غامض لا سبيل إلى الوقوف عليه. و قد صرح بذلك محققوهم حيث ذهبوا إلى أن مالا مادة له لا يمكن البرهان عليه لأن مقدمات البرهان من شرطها أن تكون ذاتية. و قال كبيرهم أفلاطون: إن الإلهيات لا يوصل فيها إلى أينين و إنما يقال فيها بالأخلق و الأولى يعني الظن: و إذا كنا إنما نحصل بعد التعب و النصب على الظن فقط قيكفينا الظن الذي كان أولا فأي فائدة لهذه العلوم و الاشتغال بها و نحن إنما عنايتنا بتحصيل اليقين فيما وراء الحس من الموجودات و هذه هي غاية الأفكار الإنسانية عندهم. و أما قولهم إن السعادة في إدراك الموجودات على ما هي عليه يتلك البراهين فقول مزيف مردود و تفسيره أن الإنسان مركب من جزءين أحدهما جسماني و الآخر روحاني ممترج به و لكل واحد من الجزءين مدارك مختصة به و المدرك فيهما واحد و هو الجزء الروحاني يدرك تارة مدارك روحانية و تارة مدارك جسمانية إلا أن المدارك الروحانية يدركها بذاته بغير واسطة و المدارك الجسمانية بواسطة آلات الجسم من الدماغ والحواس. و كل مدرك فله ابتهاج بما يدركه. و اعتبره بحال الصبى في أول مداركه الجسمانية التي هي بواسطة كيف يبتهج بما يبصره من الضوء و بما يسمعه من الأصوات فلا شك أن الابتهاج بالإدراك الذي للنفس من ذاتها بغير واسطة يكون أشد و ألذ. فالنفس الروحانية إذا شعرت بإدراكها الذي لها من ذاتها بغير واسطة حصل لها ابتهاج و لذة لا يعبر عنهما و هذا الإدراك لا يحصل بنظر و لا علم و إنما يحصل بكشف حجاب الحس و نسيان المدارك الجسمانية بالجملة. و المتصوفة كثيرا ما يعنون بحصول هذا الإدراك للنفس بحصول هذه البهجة فيحاولون بالرياضة إماتة القوى الجسمانية و مداركها حتى الفكر من الدماغ و ليحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها عند زوال الشواغب و الموانع الجسمانية يحصل لهم بهجة و لذة لا يعبر عنهما. و هذا الذي زعموه بتقدير صحته مسلم لهم و هو مع ذلك غير واف بمقصودهم. فأما قولهم إن البراهين و الأدلة العقلية محصلة لهذا النوع من الإدراك و الابتهاج عنه فباطل كما رأيته إذ البراهين و الأدلة من جملة المدارك الجسمانية لأنها بالقوى الدماغية من الخيال و الفكر و الذكر. و نحن نقول إن أول شيء نعنى به في تحصيل هذا الإدراك إماتة هذه القوى الدماغية كلها لأنها منازعة له قادحة فيه و تجد الماهر منهم عاكفا على كتاب الشفاء و الإشارات و النجاء و تلاخيص ابن رشد للقص من تأليف أرسطو و غيره يبعثر أوراقها و يتوثق من براهينها و يلتمس هذا القسط من السعادة فيها و لا يعلم أنه يستكثر بذلك من الموانع عنها. و مستندهم في ذلك ما ينقلونه عن أرسطو و الفارابي و ابن سينا أن من حصل له إدراك العقل الفعال و اتصل به في حياته فقد حصل حظة من هذه السعادة. و العقل الفعال عندهم عبارة عن أول رتبة ينكشف عنها الحس من رتب الروحانيات و يحملون الاتصال بالعقل الفعال على الإدراك العلمي و قد رأيت فساده و إنما يعني أرسطو و أصحابه بذلك الاتصال و الإدراك إدراك النفس الذي لها من ذاتها و بغير واسطة و هو لا يحصل إلا بكشف حجاب الحس. و أما قولهم إن البهجة الناشئة عن هذا الإدراك هي عين السعادة الموعود بها فباطل أيضا لأنا إنما تبين لنا بما قرروه أن وراء الحس مدركا آخر للنفس من غير واسطة و أنها تبتهج بإدراكها ذلك ابتهاجا شديدا و ذلك لا يعين لنا أنه عين السعادة الأخروية و لابد بل هي من جملة الملاذ التي لتلك السعادة. و أما قولهم إن السعادة في إدراك هذه الموجودات على ما هي عليه فقول باطل مبني على ما كنا قدمناه في أصل التوحيد من الأوهام و الأغلاط في أن الوجود عند كل مدرك منحصر في مداركه. و بينا فساد ذلك و إن الوجود أوسع من أن يحاط به أو يستوفى إدراكه بجملته روحانيا أو جسمانيا. و الذي يحصل من جميع ما قررناه من مذاهبهم أن الجزء الروحاني إذا فارق القوى الجسمانية أدرك إدراكا ذاتيا له مختصا بصنف من المدارك و هي الموجودات التي أحاط بها علمنا و ليس بعام الإدراك في الموجودات كلها إذ لم تنحصر و أنه يبتهج بذلك النحو من الإدراك ابتهاجا شديدا كما يبتهج الصبي بمداركه الحسية في أول نشوءه و من لنا بعد ذلك بإدراك جميع الموجودات أو بحصول السعادة التي وعدنا بها الشارع إن لم نعمل لها، هيهات هيهات لما توعدون. و أما قولهم إن الإنسان مستقل بتهذيب نفسه و إصلاحها بملابسة المحمود من الخلق و مجانبة المذموم فأمر مبني على أن ابتهاج للنفس بإدراكها الذي لها من ذاتها هو عين السعادة الموعود بها لأن الرذائل عائقة للنفس عن تمام إدراكها ذلك بما يحصل لها من الملكات الجسمانية و ألوانها. و قد بينا أن أثر السعادة و الشقاوة و من وراء الإدراكات الجسمانية و الروحانية فهذا التهذيب الذي توصلوا إلى معرفته إنما نفعه في البهجة الناشئة عن الإدراك الروحاني فقط الذي هو على مقاييس و قوانين. و أما ما وراء ذلك من السعادة التي وعدنا بها الشارع على امتثال ما أمر به من الأعمال و الأخلاق فأمر لا يحيط به مدارك المدركين. و قد تنبه لذلك زعيمهم أبو علي ابن سينا فقال في كتاب المبدأ و المعاد ما معناه: إن المعاد الروحاني و أحواله هو مما يتوصل إليه بالبراهين العقلية و المقاييس لأنه على نسبة طبيعية محفوظة و وتيرة واحدة فلنا في البراهين عليه سعة. و أما المعاد الجسماني و أحواله فلا يمكن إدراكه بالبرهان لأنه ليس على نسبة واحدة و قد بسطته لنا الشريعة الحقة المحمدية فلنظر فيها و ليرجع في أحواله إليها. فهذا العلم كما رأيته غير واف بمقاصدهم التي حوموا عليها مع ما فيه من مخالفة الشرائع و ظواهرها. و ليس له فيما علمنا إلا ثمرة
واحدة و هي شحذ الذهن في ترتيب الأدلة و الحجج لتحصيل ملكة الجودة و الصواب في البراهين. و ذلك أن نظم المقاييس و تركيبها على وجه الأحكام و الإتقان هو كما شرطوه في صناعتهم المنطيقية و قولهم بذلك في علومهم الطبيعية و هم كثيرا ما يستعملونها في علومهم الحكمية من الطبيعيات و التعاليم و ما بعدها فيستولي الناظر فيها بكثرة استعمال البراهين بشروطها على ملكة الإتقان و الصواب في الحجج و الاستدلالات لأنها و إن كانت غير وافية بمقصودهم فهي أصح ما علمناه من قوانين الأنظار. هذه ثمرة هذه الصناعة مع الاطلاع على مذاهب أهل العلم و آرائهم و مضارها ما علمت. فليكن الناظر فيها متحرزا جهده معاطبها و ليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات و الاطلاع على التفسير و الفقه و لا يكبن أحد عليها و هو خلو من علوم الملة فقل أن يسلم لذلك من معاطبها. و الله الموفق للصواب و للحق و الهادي إليه. و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. الفصل الثاني و الثلاثون: في ابطال صناعة النجوم و ضعف مداركها و فساد غايتها هذه الصناعة يزعم أصحابها أنهم يعرفون بها الكائنات في عالم العناصر قبل حدوثها من قبل معرفة قوى الكواكب و تأثيرها في المولدات العنصرية مفردة و مجتمعة فتكون لذلك أوضاع الأفلاك و الكواكب دالة على ما سيحدث من نوع من أنواع الكائنات الكلية و الشخصية. فالمتقدمون منهم يرون أن معرفة قوى الكواكب و تأثيراتها بالتجربة و هو أمر تقصر الأعمار كلما لو اجتمعت عن تحصيله إذ التجربة إنما تحصل في المرات المتعددة بالتكرار ليحصل عنها العلم أو الظن. و أدوار الكواكب منها ما هو طويل الزمن فيحتاج تكرره إلى آماد و أحقاب متطارلة يتقاصر عنها ما هو طويل من أعمار العالم. و ربما ذهب ضعفاء منهم إلى أن معرفة قوى الكواكب و تأثيراتها كانت بالوحي و هو رأي فائل و قد كفونا مؤنة إبطاله. و من أوضح الأدلة فيه أن تعلم أن الأنبياء عليهم الصلاة و السلام أبعد الناس عن الصنائع و أنهم لا يتعرضون للإخبار عن الغيب إلا أن يكون عن الله فكيف يدعون استنباطه بالصناعة و يشيرون بذلك لتابعيهم من الخلق. و أما بطليمس و من تبعه من المتأخرين فيرون أن دلالة الكواكب على ذلك دلالة طبيعية من قبل مزاج يحصل للكواكب في الكائنات العنصرية قال لأن فعل النيرين و أثرهما في العنصريات ظاهر لا يسع أحدا حجده مثل فعل الشمس في تبدل الفصول و أمزجتها و نضج الثمار و الزرع و غير ذلك و فعل القمر في الرطوبات و الماء و إنضاج المواد المتعفنة و فواكه القناء و سائر أفعاله. ثم قال: و لنا فيما بعدها من الكواكب طريقان الأولى التقليد لمن نقل ذلك عنه من أئمة الصناعة إلا أنه غير مقنع للنفس و الثانية الحدس و التجربة بقياس كل واحد منها إلى النير الأعظم الذي عرفنا طبيعته و أثره معرفة ظاهرة فننظر هل يزيد ذلك الكوكب عند القران في قوته و مزاجه فتعرف موافقته له في الطبيعة أو ينقص عنها فتعرف مضادته. ثم إذا عرفنا قواها مفردة عرفناها مركبة و ذلك عند تناظرها بأشكال التثليث و التربيع و غيرهما و معرفة ذلك من قبل طبائع البروج بالقياس أيضا إلى النير الأعظم. و إذا عرفنا قوى الكواكب كلها فهي مؤثرة في الهواء و ذلك ظاهر. و المزاج الذي يحصل منها للهواء يحصل لما تحته من المولدات و تتخلق به النطف و البزر فتصير حالا للبدن المتكون عنها و للنفس المتعلقة به الفائضة عليه المكتسبة لما لها منه و لما يتبع النفس و البدن من الأحوال لأن كيفيات البزرة و النطفة كيفيات لما يتولد عنهما و ينشأ منهما. قال: و هو مع ذلك ظني و ليس من اليقين في شيء و ليس هو أيضا من القضاء الإلهي يعني القدر إنما هو من جملة الأسباب الطبيعية للكائن و القضاء الإلهي سابق على كل شيء. هذا محصل كلام بطليمس و أصحابه و هو منصوص في كتابه الأربع و غيره. و منه يتبين ضعف مدرك هذه الصناعة و ذلك أن العلم الكائن أو الظن به إنما يحصل عن العلم بجملة أسبابه من الفاعل و القابل و الصورة و الغاية على ما يتبين في موضعه. و القوى النجومية على ما قرروه إنما هي فاعلة فقط و الجزء العنصري هو القابل ثم إن القوى النجومية ليست هي الفاعل بجملتها بل هناك قوى أخرى فاعلة معها في الجزء المادي مثل قوة التوليد للأب و النوع التي في النطفة و قوى الخاصة التي تميز بها صنف من النوع و غير ذلك. فالقوى النجومية إذا حصل كمالها و حصل العلم فيها إنما هي فاعل واحد من جملة الأسباب الفاعلة للكائن. ثم إنة يشترط مع العلم بقوى النجوم و تأثيراتها مزيد حدس و تخمين و حينئذ يحصل عنده الظن بوقوع الكائن. و الحدس و التخمين قوى للناظر في فكره و ليس من علل الكائن و لا من أصول الصناعة فإذا فقد هذا الحدس و التخمين رجعت أدراجها عن الظن إلى الشك. هذا إذا حصل العلم بالقوى النجومية على سداده و لم تعترضه آفة و هذا معوز لما فيه من معرفة حسبانات الكواكب في سيرها لتتعرف به أوضاعها و لما أن اختصاص كل كوكب بقوة لا دليل عليه. و مدرك بطليمس في إثبات القوى للكواكب الخمسة بقياسها إلى الشمس مدرك ضعيف لأن قوة الشمس غالبه لجميع القوى من الكواكب و مستولية عليها فقل أن يشعر بالزيادة فيها أو النقصان منها عند المقارنة كما قال و هذه كلها قادحة في تعريف الكائنات الواقعة في عالم العناصر بهذه الصناعة. ثم إن تأثير الكواكب فيما تحتها باطل إذ قد تبين في باب التوحيد أن لا فاعل إلا الله بطريق استدلالي كما رأيته و احتج له أهل علم الكلام بما هو غني في البيان من أن إسناد الأسباب إلى المسببات مجهول الكيفية و العقل منهم على ما يقضى به فيما يظهر بادئ الرأي من التأثير فلعل استنادها على غير صورة التأثير المتعارف. و القدرة الإلهية رابطة بنهما كما ربطت جميع الكائنات علوا و سفلا سيما و الشرع يرد الحوادث كلها إلى قدرة الله تعالى و يبرأ مما سوى ذلك. و النبؤات أيضا منكرة لشأن النجوم و تأثيراتها. و استقراء الشرعيات شاهد بذلك في مثل قوله إن الشمس و القمر لا يخسفان لموت أحد و لا لحياته و في قوله أصبح من عبادي مؤمن بي و كافر بي. فأما من قال مطرنا بفضل الله و رحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب و أما من قال مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب الحديث
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)