فكانت نفسه عند ذلك تنازعه إلى اتخاذ ذنب من ذنوب الوحوش الميتة ليعلقه على نفسه، إلا أنه كان يرى أحياء الوحوش تتحامى ميتها وتفر عنه فلا يتأتى له الأقدام على ذلك الفعل، إلى أن صادف في الأيام نسراً ميتاً فهدي إلى نيل أمله منه، واغتنم الفرصة في، إذ لم ير للوحوش عنه نفرةً فأقدم عليه، وقطع جناحيه وذنبه صحاحاً كما هي، وفتح ريشها وسواها، وسلخ عنه سائر جلده، وفصله على قطعتين: ربط إحداهما على ظهره، وأخرى على سرته وما تحتها، وعلق الذنب من خلفه، وعلق الجناحين على عضديه، فأكسبه ذلك ستراً ودفئاً ومهابة في نفوس جميع الوحوش، حتى كانت لا تنازعه ولا تعارضه. فصار لايدنو إليه شيء منها سوى الظبية التي كانت أرضعته وربته: فانها لم تفارقه ولا فارقها، إلى أن اسنت وضعغت، فكان يرتاد بها المراعي الخصبة ويجتني لها الثمرات الحلوة، ويطعمها.
ومازل الهزل والضعف يستولي عليها ويتوالى، إلى أن أدركها الموت، فسكنت حركاتها بالجملة، وتعطلت جميع أفعالها. فلما رأها الصبي على تلك الحالة، جزع جزعاً شديداً، وكادت نفسه تفيض أسفاً عليها. فكان يناديها بالصوت الذي كانت عادتها أن تجيبه عند سماعه، ويصيح بأشد ما يقدر عليه، فلا لها عند ذلك حركة ولا تغييراً. فكان ينظر إلى أذنيها والى عينيها فلا يرى بها آفة ظاهرة، وكذلك كان ينظر إلى جميع أعضائها فلا يرى بشيء منها آفة.
فكان يطمع إن يعثر على موضع الآفة فيزيلها عنها، فترجع إلى ما كانت عليه فلم ياتت له شيء من ذلك ولا استطاعة. وكان الذي أرشده لهذا الرأي ما كان قد اعتبره في نفسه قبل ذلك: لانه كان يرى انه إذا غمض عينيه أو حجبهما بشيء لا يبصر حتى نزول ذلك العائق، وكذلك كان يرى انه اذا ادخل إصبعه في أذنيه وسدها لا يسمع شيئاً حتى يزول ذلك العارض، وإذا امسك أنفه بيده لا يشم شيئاً من الروائح حتى يفتح أنفه. فاعتقد من اجل ذلك إن جميع ماله من الادراكات و الأفعال قد تكون لها عوائق تعوقها، فإذا أزيلت العوائق عادت الأفعال.
فلما نظر إلى جميع أعضاء الظاهرة ولم ير فيها آفة ظاهرة - وكان يرى مع ذلك العطلة قد اشتملها ولم يختص بها عضو دون عضو - وقع في خاطرة أن الآفة التي نزلت بها، إنما هي العضو غائب عن العيان مستكن في باطن الجسد، وان ذلك العضو لا يغني عنه في فعله شيء من هذه الأعضاء الظاهرة. فلما نزلت به الآفة عمت المضرة، وشملت العطلة، وطمع لو أنه عثر على ذلك العضو وأزال عنه ما يزال به لاستقامت أحواله وفاض على سائر البدن نفعه، وعادت الأفعال إلى ما كانت عليه.
وكان قد شاهد قبل ذلك في الأشباح الميتة من الوحوش وسواها أن جميع أعضائها مصمتة لا تجويف فيها إلا القحف، والصدر، والبطن. فوقع في نفسه أن العضو الذي بتلك الصفة لن يعدو أحد هذه المواضع الثلاثة، وكان يغلب على ظنه غلبة قوية أنه إنما هو في الموضع المتوسط من هذه المواضع الثلاثة، إذ استقر في نفسه أن جميع الأعضاء محتاجة إليه، وأن الواجب بحسب ذلك أن يكون مسكنه في الوسط.
وكان أيضاً إذا رجع إلى ذاته، شعر بمثل هذا العضو في صدره لانه كان يعترض سائراً اعضائه كاليد، والرجل، والأذن، والانف، والعين، ويقدر مفارقتها، فيتاى له أنه كان يستغني عنها، وكان يقدر في رأسه مثل ذلك ويظن أنه يستغني عنه، فإذا فكر في الشيء الذي يجده في صدره، لم يتأت له الاستغناء عنه طرفة عين.
وكذلك كان عند محاربته للوحوش أكثر ما كان يتقي من صياصيهم على صدره، لشعوره بالشيء الذي فيه. فلما جزم الحكم بان العضو الذي نزلت به الآفة إنما هو في صدورها، اجمع على البحث عليه والتنقير عنه، لعله يظفر به، ويرى آفته فيزيلها ثم انه خاف أنه يكون نفس فعله هذا أعظم من الآفة التي نزلت بها أولاً فيكون سعيه عليها. ثم أنه تفكر: هل رأى من الوحوش وسواها، من ضار في مثل تلك الحال، ثم عاد إلى مثل حاله الأول؟ فلم يجد شيئاً! فحصل له من ذلك، اليأس من رجوعها إلى حالها الأولى إن هو تركها، وبقي له بعض الرجاء في رجوعها إلى تلك الحال إن هو وجد ذلك العضو وأزال الآفة عنه. فعزم على شق صدرها وتفتيش ما فيه، فاتخذ من كسور الأحجار الصلدة وشقوق القصب اليابسة، أشباه السكاكين، وشق بها بين أضلاعها حتى قطع اللحم الذي بين الأضلاع، وأفضى إلى الحجاب المستبطن للأضلاع فراه قوياً، فقوي ظنه مثل ذلك الحجاب لا يكون إلا لمثل ذلك العضو وطمع بأنه إذا تجاوزه ألفى مطلوبه فحاول شقه، فصعب عليه، لعدم الآلات، ولأنها لم تكن إلا من الحجارة والقصب، فاستجدها ثانية واستحدها وتلطف في خرق الحجاب حتى انخرق له، فأفضى إلى الرئة فظن أنها مطلوبه، فما زال يقلبها ويطلب موضع الآفة بها.
وكان أولاً نصفها الذي هو في الجانب الواحد. فلما راها مائلة إلى جهة واحدة، وكان قد اعتقد أن ذلك العضو لا يكون إلا في الوسط في عرض البدن، كما في الوسط في طوله. فمازال يفتش في وسط الصدر حتى ألفى القلب وهو مجلل بغشاء في غاية القوة مربوط بعلائق في غاية الوثاقة، والرثة مطيفة به من الجهة التي بدأ بالشق منها، فقال في نفسه: إن كان لهذا العضو من الجهة الأخرى مثل ما له من الجهة فهو في حقيقة الوسط، ولا محالة أنه مطلوبي. لا سيما مع ما أرى له حسن الوضع، وجمال الشكل، وقلة التشتت، وقوة اللحم، وأنه محجوب بمثل هذا الحجاب الذي لم أر مثله لشيء من الأعضاء. فبحث عن الجانب الآخر من الصدر، فوجد فيه الحجاب المستبطن للأضلاع، ووجد الرئة كمثل ما وجد من هذه الجهة.
فحكم بان ذلك العضو هو مطلوبه، فحاول هتك حجابه، وشق شغافه، فبكد واستكراه ما، قدر على ذلك، بعد استفراغ مجهوده. وجرد القلب فراه مصمتاً من كل جهة، فنظر هل يرى فيه آفة ظاهرة؟ فلم ير فيه شيئاً! فشد على يده، فتبين له أن فيه تجويفاً، فقال: لعل مطلوبي الأقصى إنما هو في داخل هذا العضو، وأنا حتى الآن لم أصل إليه. فشق عليه، فألقى فيه تجويفين اثنين احدهما من الجهة اليمنى والآخر من الجهة اليسرى، والذي من الجهة اليمنى مملوء بعقد منعقد، والذي من الجهة اليسرى خال لا شيء به.
فقال: لن يعدو مطلوبي أن يكون مسكنه أحد هذين البيتين. ثم قال: أما هذا البيت الأيمن، فلا أرى فيه إلا هذا الدم المنعقد. ولا شك أنه لم ينعقد حتى صار الجسد كله إلى هذا الحال - إذ كان قد شاهد الدماء متى سالت وخرجت انعقدت وجمدت ولم يكن هذا إلا دماً كسائر الدماء - وأنا أرى أن هذا الدم موجود في سائر الأعضاء لا يختص به عضو دون أخر، وأنا ليس مطلوبي شيئاً بهذه الصفة إنما مطلوبي الشيء الذي يختص به هذا الموضع الذي أجدني لا أستغني عنه طرفة العين، واليه كان انبعاثي من أول. واما هذا الدم فكم مرة جرحتني الوحوش في المحاربة فسال مني كثير منه فما ضرني ذلك ولا افقدني شيئاً من أفعالي، فهذا بيت ليس فيه مطلوبي. وأما هذا البيت الأيسر فأراه خالياً لاشيء فيه، وما أرى ذلك لباطل، فاني رأيت كل عضو من الأعضاء إنما لفعل يختص به، فكيف يكون هذا البيت على ما شاهدت من شرفه باطلاً؟ ما أرى إلا أن مطلوبي كان فيه! فارتحل عنه وأخلاه. وعند ذلك، طرأ على هذا الجسد من العطلة ما طرأ، ففقد الإدراك وعدم الحراك. فلما رأى أن الساكن في ذلك البيت قد ارتحل قبل انهدامه وتركه وهو بحاله، تحقق أنه أحرى أن لا يعود إليه بعد أن حدث فيه من الخراب والتخريق ما حدث. فصار عنده الجسد كله خسيساً لا قدر له بالإضافة إلى ذلك الشيء الذي اعتقد في نفسه أنه يسكنه مدة ويرحل عنه بعد ذلك.