وكان بتلك الجزيرة خيل البرية وحمر وحشية، فاتخذ منها ما يصلح له، وراضها حتى كمل بها غرضه، وعمل عليها من الشرك والجلود أمثال الشكائم والسروج فتاتي له بذلك ما امله من طرد الحيوانات التي صعبت عليه الحيلة في أخذها. وانما تفنن في هذه الأمور كلها ف وقت اشتغاله التشريح، وشهوته في وقوفه على خصائص أعضاء الحيوان، وبماذا تختلف، وذلك في المدة التي حددنا منتهاها بأحد وعشرين عاماً. ثم انه بعد ذلك أخذ في مآخذ أخر من النظر، فتصفح جميع الأجسام التي في عالم الكون والفساد: من الحيوانات على اختلاف أنواعها، والنبات والمعادن وأصناف الحجارة والتراب والماء والبخار والثلج والبرد، والدخان واللهيب والجمر، فرأى لها أصوافاً كثيرة وأفعالاً مختلفة، وحركات متفقة ومضادة، وأنعم النظر في ذلك والتثبت، فرأى أنها تتفق ببعض الصفات وتختلف ببعض، وأنها من الجهة التي تتفق بها واحدة، ومن الجهة التي تختلف فيها متغايرة ومتكثرة فكان تارة ينظر خصائص الأشياء وما يتفرد به بعضها عن بعض، فتكثر عنده كثرة تخرج عن الحصر، وينتشر له الوجود انتشار لا يضبط. كل عضو منها فيرى أنه يحتمل القسمة إلى أجزاء كثيرة جداً، فيحكم على ذاته بالكثرة، وكذلك على ذات كل شيء.
ثم كان يرجع إلى نظر آخر من طريق ثان، فيرى أن أعضاءه، وان كانت كثيرة فهي متصلة كلها بعضها ببعض، لا انفصال بينها بوجه، فهي في الحكم الواحد، وأنها لا تختلف إلا بحسب اختلاف أفعالها، أن ذلك الاختلاف إنما هو بسبب ما يصل إليها من قوة الروح الحيواني، الذي انتهى إليه نظره أولاً، وأن ذلك الروح واحد ذاته، وهو حقيقة الذات، وسائر الأعضاء كلها كالآلات، فكانت تتحد عنده ذاته بهذا الطريق.
ثم أنه كان ينتقل إلى جميع أنواع الحيوانات، فيرى كل شخص منها واحداً بهذا النوع من النظر. ثم كان ينظر إلى نوع منها: كالظباء والخيل وأصناف الطير صنفاً صنفاً، فكان يرى أشخاص كل نوع يشبه بعضه بعضاً في الأعضاء الظاهرة والباطنة الادراكات والحركات والمنازع، ولا يرى بينها اختلافاً إلا في أشياء يسيرة بالإضافة إلى ما اتفقت فيه.
وكان يحكم بان الروح الذي لجميع ذلك النوع شيء واحد، وأنه لم يختلف إلا أنه انقسم على قلوب كثيرة، وأنه لو أمكن أن يجمع جميع الذي افترق في تلك القلوب منه ويجعل في وعاء واحد، لكان كله شيئاً واحداً، بمنزلة ماء واحد، أو شراب واحد، يفرق على أوان كثيرة، ثم يجمع بعد ذلك. فهو في حالتي تفريقه وجمعه شيء واحد، إنما الغرض له التكثر بوجه ما، فكان يرى النوع بهذا النظر واحداً، ويجعل كثرة أشخاصه بمنزلة كثيرة أعضاء الشخص الواحد، التي لم تكن كثرة في الحقيقة.
ثم كان يحضر أنواع الحيوانات كلها في نفسه ويتأملها فيراها تتفق في أنها تحس، وتغتذي، وتتحرك بالإرادة إلى أي جهة شاءت، وكان قد علم أن هذه الأفعال هي أخص أفعال الروح الحيواني، وأن سائر الأشياء التي تختلف بها بعد هذا الاتفاق، ليست شديدة الاختصاص بالروح الحيواني. فظهر له بهذا التأمل، أن الروح الحيواني الذي لجميع جنس الحيوان واحد بالحقيقة، وان كان فيه اختلاف يسير، اختص به نوع دون نوع: بمنزلة ماء واحد مقسوم على أوان كثيرة، بعضه أبرد من بعض.
وهو في أصله واحد وكل ما كان في طبقة واحدة من البرودة، فهو بمنزلة اختصاص ذلك الروح الحيواني بنوع واحد، وان عرض له التكثر بوجه ما. فكان يرى جنس الحيوان كله واحداً بهذا النوع من النظر. ثم كان يرجع إلى أنواع النبات على اختلافها. فيرى كل نوع منها تشبه أشخاصه بعضها بعضاً في الأغصان، والورق، والزهر والثمر، والأفعال فكان يقيسها بالحيوان، ويعلم أن لها شيئاً واحداً فيه: هو لها بمنزلة الروح الحيواني وأنها بذلك الشيء واحد. وكذلك كان ينظر إلى جنس النبات كله، فيحكم باتحاده بحسب ما يراه من اتفاق فعله في أنه يتغذى وينمو.
ثم كان يجمع في نفسه جنس الحيوان وجنس النبات، فيراهما جميعاً متفقين في الاغتذاء والنمو، ألا أن الحيوان يزيد على النبات، بفضل الحس والادراك والتحرك؛ وربما ظهر في النبات شيء شبيه به، مثل تحول وجوه الزهر إلى جهة الشمس، وتحرك عروقه إلى الغذاء، بسبب شيء واحد مشترك بينهما، هو في أحدهما أتمم وأكمل، وفي الآخر قد عاقه عائق ما، وأن ذلك بمنزلة ماء واحد قسم بقسمين، أحدهما جامد والآخر سيال، فيتحد عنده النبات والحيوان. ثم ينظر إلى الأجسام التي لا تحس ولا تغتذي ولا تنمو، من الحجارة، والتراب، والماء، والهواء، واللهب، فيرى أنها أجسام مقدر لها الطول وعرض وعمق وأنها لاتختلف، إلا أن بعضها ذو لون وبعضها لا لون له وبعضها حار والآخر بارد، ونحو ذلك من الاختلافات وكان يرى أن الحار منها يصير بارداً، والبارد يصير حار وكان يرى الماء يصير بخاراً والبخار ماء، والأشياء المحترقة تصير جمراً، ورماداً، ولهيباً، ودخاناً، والدخان إذا وافق في صعوده قبة حجر انعقد فيه وصار بمنزلة سائر الأشياء الأرضية، فيظهر له بهذا التأمل، أن جميعها شيء واحد في الحقيقة، وان لحقتها الكثرة بوجه ما، فذلك مثل ما لحقت الكثرة للحيوان والنبات.
ثم ينظر إلى الشيء الذي اتحد به عند النبات والحيوان، فيرى أنه جسم ما مثل هذه الأجسام: له طول وعرض وعمق، وهو إما حار واما بارد، كواحد من هذه الأجسام التي لا تحس ولا تتغذى، وانما خالفها بأفعاله التي تظهر عنه بالآلات الحيوانية والنباتية لا غير، ولعل تلك الأفعال ليست ذاتية، وانما تسري إليه من شيء آخر ولو سرت إلى هذه الأجسام الآخر، لكانت مثله فكان ينظر إليه بذاته مجرداً عن هذه الأفعال، التي تظهر ببادئ الرأي، أنها صادرة عنه، فكان يرى أنه ليس إلا جسماً من هذه الأجسام، فيظهر له بهذا التأمل، أن الأجسام كلها شيء واحد: حيها وجمادها، متحركها وساكنها، إلا أنه يظهر أن لبعضها أفعالاً بالات، ولا يدري هل تلك الأفعال ذاتية لها، أو سارية أليها من غيرها. وكان في هذه الحال لا يرى شيئاً غير الأجسام فكان بهذا الطريق يرى الوجود كله شيئاً واحداً، وبالنظر الأول كثرة لا تنحصر ولا تتناهى. وبقي بحكم هذه الحالة مدة.
ثم انه تأمل جميع الأجسام حيها وجامدها. وهي التي هي عنده تارةً شيء واحد وتارةً كثيرة كثرة لا نهاية لها، فرأى إن كل واحد منها، لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يتحرك إلى جهة العلو مثل الدخان واللهيب والهواء، إذا حصل تحت الماء واما أن يتحرك إلى الجهة المضادة لتلك الجهة، وهي جهة السفل، مثل الماء، وأجزاء الحيوان و النبات، وأن كل جسم من هذه الأجسام لن يعرى عن إحدى هاتين الحركتين وأنه لا يسكن إلا إذا منعه مانع يعوقه عن طريقه، مثل الحجر النازل يصادف وجه الأرض صلباً، فلا يمكن أن يخرقه، ولو أمكنه ذلك لما انثنى عن حركته فيما يظهر، ولذلك إذا رفعته، وجدته يتحامل عليك بميله إلى جهة السفل، طالباً للنزول. وكذلك الدخان في صعوده، لا ينثني إلا أن يصادف قبة صلبة تحبسه، فحينئذً ينعطف يميناً وشمالاً ثم إذا تخلص من تلك القبة، خرق الهواء صاعداً لأن الهواء لا يمكنه أن يحبسه.
وكان يرى إن الهواء إذا ملئ به زق جلد، وربط ثم غوص تحت الماء طلب الصعود وتحامل على من يمسكه تحت الماء، ولا يزال يفعل ذلك حتى يوافي موضع الهواء، وذلك بخروجه من تحت الماء فحينئذً يسكن ويزول عنه ذلك التحامل والميل إلى جهة العلو الذي كان يوجد منه قبل ذلك. ونظر هل يجد جسماً يعرى عن إحدى هاتين الحركتين أو الميل إلى إحداهما في الوقت ما؟ فلم يجد ذلك في الأجسام التي لديه، وانما طلب ذلك، لانه طمع أن يجده، فيرى طبيعة الجسم من حيث هو جسم، دون أن تقترن به وصف من الأوصاف، التي هي منشأ التكثر. فلما أعياه ذلك ونظر إلى الأجسام التي هي أقل الأجسام حملاً للأوصاف فلم يرها تعرى عن أحد هذين الوصفين بوجه، وهما اللذان يعبر عنهما بالثقل والخفة فنظر إلى الثقل والخفة، هل هما للجسم من حيث هو جسم؟ أو هما لمعنى زائد على الجسمية؟ فظهر له أنهما لمعنى زائد على الجسمية لانهما لو كانا للجسم من حيث هو جسم، لما وجد إلا وهما له.
ونحن نجد الثقيل لا توجد فيه الخفة، والخفيف لا يوجد فيه الثقل، وهما لا محالة جسمان ولكل واحد منهما معنى منفرد به عن الأخر زائد على جسميته. وذلك المعنى، الذي به غاير كل واحد منهما الآخر، ولولا ذلك لكانا شيئاً واحداً من جميع الوجوه.
فتبين له أن حقيقة كل واحد من الثقيل والخفيف، مركبة من معنيين: أحدهما ما يقع فيه الاشتراك منهما جميعاً، وهو معنى الجسمية؛ والآخر ما تنفرد به حقيقة كل واحد منهما على الاخر، وهما أما الثقل في احدهما واما الخفة في الاخر، المقترنان بمعنى الجسمية، أي المعنى الذي يحرك أحدهما الأخر علواً والأخر سفلاً. وكذلك نظر إلى سائر الأجسام من الجمادات والأحياء، فرأى أن حقيقة وجود كل واحد منهما مركبة من معنى الجسمية، ومن شيء أخر زائد على الجسمية: أما واحد، واما أكثر من واحد؛ فلاحت له صور الأجسام على اختلافها وهو أول ما لاح له من العالم الروحاني، اذ هي صور لا تدرك بالحس، وانما تدرك بضرب ما من النظر العقلي.
ولاح له في جملة ما لاح من ذلك، أن الروح الحيواني الذي مسكنه القلب - وهو الذي تقدم شرحه أولاً - لابد له أيضاً من معنى زائد على جسميته يصلح بذلك المعنى لأن يعمل هذه الأعمال الغريبة، التي تختص به من ضروب الاحساسات، وفنون الادراكات وأصناف الحركات، وذلك المعنى هو صورته وفضله الذي انفصل به عن سائر الأجسام، وهو الذي يعبر عنه النظار بالنفس الحيوانية. وكذلك ايضاً للشيء الذي يقوم للنبات مقام الحار الغريزي للحيوان، شيء يخصه هو صورته، وهو الذي يعبر عنه النظار بالنفس النباتية. وكذلك لجميع الأجسام الجمادات: وهي ما عدا الحيوان والنبات مما في عالم الكون والفساد شيء يخصها به، يفعل كل واحد منها فعله الذي يختص به مثل صنوف الحركات وضروب الكيفيات المحسوسة عنها، وذلك الشيء هو صورة كل واحد منها، وهو الذي يعبر النظار عنه بالطبيعة.
فلما وقف بهذا النظر على ان حقيقة الروح الحيواني، الذي كان تشوقه اليه ابداً، مركبة من معنى الجسمية، ومن معنى أخر زائد على الجسمية، وان معنى الجسمية مشترك، ولسائر الأجسام، والمعنى الأخر المقترن به هو وحده، هان عنده معنى الجسمية فاطرحه، وتعلق فكره بالمعنى الثاني، وهو الذي يعبر عنه النفس؛ فتشوق إلى التحقق به فالتزم الفكرة فيه، وجعل مبدأ النظر في ذلك تصفح الأجسام كلها، لا من جهة ما هي أجسام، بل من وجهة ما هي ذوات صور تلزم عنها خواص، ينفصل بها بعضها ببعض. فتتبع ذلك وحصره في نفسه، فرأى جملة من الأجسام، تشترك في صورة ما يصدر عنها فعل ما، أو أفعال ما، ورأى فريقاً من تلك الجملة، مع أنه يشارك الجملة بتلك الصورة، يزيد عليها بصورة أخرى، يصدر عنها ما، ورأى طائفة من ذلك الفريق، مع أنها تشارك الفريق في الصورة الأولى والثانية، تزيد عليه بصوره ثالثة، تصدر عنها أفعال ما خاصة بها. مثال ذلك: إن الأجسام الأرضية، مثل التراب والحجارة والمعادن والنبات والحيوان، وسائر الأجسام الثقيلة، وهي جملة واحدة تشترك في صورة واحدة تصدر عنها الحركة إلى الأسفل، ما لم يعقها عائق عن النزول: ومتى تحركت إلى جهة العلو بالقسر ثم تركت، تحركت بصورتها إلى الأسفل. وفريق من هذه الجملة، وهو النبات والحيوان، مع مشاركة الجملة المتقدمة في تلك الصورة، يزيد عليها صورة أخرى، يصدر عنها التغذي والنمو. والتغذي: هو أن يخلف المتغذي، بدل ما تحلل منه، بان يحيل إلى ما التشبه بجوهره مادة قريبة منه، يجتذبها إلى نفسه.
والنمو: هو الحركة في الأقطار الثلاثة، على نسبة محفوظة في الطول والعرض والعمق.
فهذان الفعلان عامان للنبات والحيوان، وهما لا محالة صادران عن صورة مشتركة لهما، وهي المعبر عنها بالنفس النباتية. وطائفة من هذا الفريق، وهو الحيوان خاصة، مع مشاركته الفريق المتقدم في الصورة الأولى والثانية، تزيد عليه بصورة ثالثة، يصدر عنها الحس والتنقل من حين إلى أخر. ورأى أيضاً كل نوع من أنواع الحيوان، له خاصية ينحاز بها عن سائر الأنواع، وينفصل بها متميزاً عنها. فعلم إن ذلك صادر عن صورة له تخصه هي زائدة عن معنى الصورة المشتركة له ولسائر الحيوان، وكذلك لكل واحد من أنواع النبات مثل ذلك. فتبين له إن الأجسام المحسوسة التي في عالم الكون والفساد، بعضها تلتئم حقيقته من معان كثيرة، زائدة على معنى الجسمية، وبعضها من معان اقل؛ وعلم إن معرفة الأقل أسهل من معرفة الأكثر؛ فطلب أولاً الوقوف على الحقيقة لشيء الذي تلتئم حقيقته من اقل الأشياء، ورأى إن الحيوان والنبات، لا تلتئم حقائقها إلا من معان كثيرة، لتفنن أفعالها؛ فأخر التفكير في صورهما. وكذلك رأى إن أجزاء الأرض بعضها ابسط من بعض، فقصد منها إلى ابسط ما قدر عليه وكذلك رأى إن الماء شيء قليل التركيب، لقلة ما يصدر عن صورته من أفعال، وكذلك راى النار والهواء. وكان قد سبق إلى ظنه أولاً، أن هذه الأربعة يستحيل بعضها إلى بعض، وان لها شيئاً واحداً تشترك فيه، وهو معنى الجسمية، وان ذلك الشيء ينبغي إن يكون خلواً من المعاني التي تميز بها كل واحد من هذه الأربعة عن الأخر، فلا يمكن أن يتحرك إلى فوق ولا إلى اسفل، ولا إن يكون حاراً ولا يكون بارداً، ولا يكون رطباً، ولا يابساً، لان كل واحد من هذه الاوصاف، لا يعم جميع الأجسام، فليست إذن للجسم بما هو جسم.
فإذا أمكن وجود جسم لا صورة فيه زائدة على الجسمية، فليس تكون فيه صفة من هذه الصفات، ولا يمكن إن تكون فيه صفة إلا وهي تعم سائر الأجسام المتصورة، بضروب الصور. فنظر هل يجد وصفاً واحداً يعم جميع الأجسام: حيها وجمادها، فلم يجد شيئاً يعم الأجسام كلها. إلا معنى الامتداد الموجود في جميعها في الأقطار الثلاثة، التي يعبر عنها بالطول، والعرض، والعمق، فعلم هذا المعنى هو للجسم من حيث هو جسم، لكنه لم يتأت له بالحس وجود جسم بهذه الصفة وحدها، حتى لا يكون فيه معنى زائد على الامتداد المذكور ويكون بالجملة خلواً من سائر الصور. ثم تفكر في هذا الامتداد إلى الأقطار الثلاثة، هل هو معنى الجسم بعينه، وليس ثم معنى أخر أو ليس الأمر كذلك، فرأى أن وراء هذا الامتداد معنى أخر، هو الذي يوجد فيه هذا الامتداد، وان الامتداد وحده لا يمكن إن يقوم بنفسه كما إن ذلك الشيء الممتد، لا يمكن أن تقوم دون امتداد. واعتبر ذلك ببعض هذه الأجسام المحسوسة ذوات الصور، كالطين مثلاً، كان له طول وعرض وعمق على قدر ما.
ثم إن تلك الكرة بعينها لو أخذت وردت إلى شكل مكعب أو بيض، لتبدل ذلك الطول وذلك العرض وذلك العمق، وصارت على قدر أخر. غير الذي كانت عليه، والطين واحد بعينه لم يتبدل، غير أنه لا بد له من طول وعرض وعمق على أي قدر كان، ولا يمكن إن يعرى عنها؛ غير أنها لتعاقبها عليه، تبين له أنها معنى على حياله؛ ولكونه لا يعرى بالجملة عنها، تبين له أنها من حقيقة. فلاح له بهذا الاعتبار، إن الجسم، بما هو جسم، مركب على الحقيقة من معنين: أحدهما يقوم منه مقام الطين للكرة في هذا المثال. والأخر: يقوم مقام طول الكرة وعرضها وعمقها، أو المكعب، أو أي شكل كان له. وانه لا يفهم الجسم إلا مركباً من هذين المعنين، وان احدهما لا يستغني عن الأخر. ولكن الذي يمكن أن يتبدل ويتعاقب على أوجه كثيرة، وهو معنى الامتداد يشبه الصورة التي لسائر الأجسام ذوات الصور، والذي يثبت على حال واحدة، وهو الذي ينزل منزلة الطين في المثال المتقدم، يشبه معنى الجسمية التي لسائر الأجسام ذوات الصور.
وهذا الشيء الذي هو بمنزلة الطين في هذا المثال هو الذي يسميه النظار المادة والهيولى وهي عارية عن الصورة جملة. فلما نظره إلى هذا الحد، وفارق المحسوس بعض مفارقة، وأشرف على تخوم العالم العقلي، استوحش وحن إلى ما ألفه من عالم الحس، فتقهقر قليلاً وترك الجسم على الإطلاق، إذ هو أمر لا يدركه الحس، ولا يقدر على تناوله. فاخذ أبسط الأجسام المحسوسة التي شاهدها، وهي تلك الأربعة التي كان قد وقف نظره عليها.
فأول ما نظر إلى الماء فرأى انه إذا خلي وما تقتضيه صورته، ظهر منه برد محسوس، وطلب النزول إلى اسفل فإذا سخن أما بالنار واما بحرارة الشمس، زال عنه البرد أولاً وبقي فيه طلب النزول، فإذا أفرط عليه بالتسخين، زال عنه طلب النزول إلى اسفل. وصار يطلب الصعود إلى فوق. فزال عنه بالجملة الوصفان اللذان كانا أبداً يصدران عن صورته، ولم يعرف من صورته أكثر من صدور هذين الفعلين عنها. فلما زال هذان الفعلان بطل حكم الصورة، فزالت الصورة المائية عن ذلك الجسم عندما ظهرت منه أفعال من شأنها أن تصدر عن صورة أخرى، وحدثت له صورة أخرى، بعد أن لم تكن، وصدر عنه بها أفعال لم يكن من شأنها أن تصدر عنه وهو بصورته الأولى. فعلم بالضرورة أن كل حادث لا بد له من محدث. فارتسم في نفسه بهذا الاعتبار، فاعل للصورة، ارتساماً على العموم دون تفصيل. ثم أنه تتبع الصور التي كان قد عاينها قبل ذلك، صورة صورة، فرأى أنها كلها حادثة، وأنها لا بد لها من فاعل. ثم نظر إلى ذوات، الصور، فلم ير أنها شيء أكثر من استعداد الجسم لان يصدر عنه ذلك الفعل، مثل الماء، فانه إذا افرط عليه التسخين، استعد للحركة إلى فوق وصلح لها.
فذلك الاستعداد هو صورته، إذ ليس ها هنا إلا جسم وأشياء تحس عنه، بعد أن لم تكن؛ فصلوح الجسم لبعض الحركات دون بعض، واستعداده بصورته، ولاح له مثل ذلك في جميع الصور، فتبين له أن الأفعال الصادرة عنها، ليست في الحقيقة لها، وانما هي لفاعل يفعل بها الأفعال المنسوبة إليها؛ وهذا المعنى الذي لاح له، هو قول الرسول الله عليه الصلاة والسلام: "كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به" وفي محكم التنزيل: "بسم الله الرحمن الرحيم" فان تقتلوهم ولكن الله قتلهم؛ وما رميت إذا رميت، ولكن الله رمى! صدق الله العظيم. فلما لاح له من أمر هذا الفاعل، ما لاح على الإجمال دون تفصيل، حدث له شوق حثيث إلى معرفته على التفصيل، ولانه لم يكن بعد فارق عالم الحس، جعل يطلب هذا الفاعل على جهة المحسوسات، وهو لا يعلم بعد هل هو واحد أو كثير؟ فتصفح جميع الأجسام التي لديه، وهي التي كانت فكرته أبداً فيها، فرأها كلها تتكون تارة وتفسد أخرى، وما لم يقف على فساد جملته، وقف على الفساد أجزائه مثل الماء والأرض، فانه راى أجزاءهما تفسد بالنار، وكذلك الهواء رآه يفسد بشدة البرد، حتى بتكون منه الثلج فيسيل ماء. وكذلك سائر الأجسام التي كانت لديه، ولم ير منها شيئاً بريئاً عن الحدوث والافتقار إلى الفاعل المختار، فاطرحها كلها وانتقلت فكرته إلى الأجسام السماوية.
وانتهى إلى هذا النظر على رأس أربعة أسابيع من منشئه، وذلك ثمانية وعشرون عاماً. فعلم إن السماء وما فيها من كواكب الأجسام، لأنها ممتدة في الأقطار الثلاثة: الطول، والعرض، والعمق؛ لا ينفك شيء منها عن هذه الصفة، وكل ما لا ينفك عن هذه الصفة، فهو جسم؛ فهي إذن كلها أجسام. ثم تفكر هل هي ممتدة إلى ما لا نهاية، وذاهبة أبداً في الطول والعرض والعمق إلى ما لا نهاية، أو هي متناهية محدودة بحدود تنقطع عندها، ولا يمكن أن يكون وراءها شيء من الامتداد؟ فتحير بعد ذلك بعض الحيرة. ثم انه بقوة فطرته، وذكاء خاطره، راى أن جسماً لا نهاية له أمر باطل، وشيء لا يمكن، ومعنى لا يعقل، وتقوى هذا الحكم عنده بحجج كثيرة، سنحت له بينه وبين نفسه وذلك أنه قال: أما الجسم السماوي فهو متناه من الجهة التي تليني والناحية التي وقع عليها حسي، فهذا لا شك فيه لأنني أدركه ببصر، وأما الجهة التي تقابل هذه الجهة، وهي التي يداخلني فيها الشك، فاني أيضاً أعلم من المحال أن تمتد إلى غير نهاية، لأني إن تخيلت أن خطين اثنين، يبتدئان من هذه الجهة المتناهية، ويمران في سمك الجسم إلى غير نهاية حسب امتداد الجسم، ثم تخيلت أن أحد هذين الخطين، قطع منه جزء كبير من ناحية طرفه المتناهي، ثم أخذ ما بقي منه شيء واطبق الخط المقطوع منه على الخط الذي لم يقطع منه شيء، وذهب الذهن كذلك معهما إلى الجهة التي يقال إنها غير متناهية، فأما أن نجد خطين أبداً يمتدان إلى غير نهاية ولا ينقص أحدهما عن الأخر، فيكون الذي قطع منه جزء مساوياً للذي لم يقطع منه شيء وهو محال، كما أن الكل مثل الجزء المحال؛ واما أن لا يمتد الناقص معه ابداً، بل ينقطع دون مذهبه ويقف عن الامتدادمعه، فيكون متناهياً، فإذا رد عليه القدر الذي قطع منه أولاً، وقد كان متناهياً، صار كله أيضاً متناهياً، وحينئذ لا يقصر عن الخط الأخر الذي يقطع منه شيء، ولا يفضل عليه فيكون إذن مثله وهو متناه، فذلك أيضاً متناه، فالجسم الذي تفرض فيه هذه الخطوط متناه، وكل جسم يمكن أن تفرض فيه هذه الخطوط، فكل جسم متناه.
فإذا فرضنا أن جسماً غير متناه، فقد فرضنا باطلاً ومحالاً. فلما صح عنده بفطرته الفائقة التي لمثل هذه الجهة، أن جسم السماء متناه، أراد أن يعرف على أي شكل هو، وكيفية انقطاعه بالسطوح التي تحده. فنظر أولاً إلى الشمس والقمر وسائر الكواكب، فرأها كلها تطلع من جهة المشرق، وتغرب من جهة المغرب، فما كان يمر على سمت رأسه، رأه يقطع دائرة عظمى، وما مال عن سمت رأسه إلى الشمال أو إلى الجنوب، رأه يقطع دائرة أصغر من تلك. وما كان أبعد عن سمت الرأس إلى أحد الجانبين، كانت دائرته أصغر من دائرة ما هو أقرب. حتى كانت أصغر الدوائر التي تتحرك عليها الكواكب، دائرتين اثنتين: إحداهما حول القطب الجنوبي، وهي مدار سهيل، والاخرى حول القطب الشمالي، وهي المدار الفرقدين. ولما كان مسكنه على خط الاستواء الذي وصفناه أولاً، كانت هذه الدوائر كلها على سطح آفة. ومتشابهة في الجنوب والشمال وكان القطبان معاً ظاهرين له، وكان يترقب إذا طلع كوكب من الكواكب على دائرة كبيرة، وطلع كوكب آخر على دائرة صغيرة، وكان طلوعهما معاً، فكان يرى غروبهما معاً. واطرد له في ذلك جميع الكواكب وفي جميع الأوقات، فتبين له بذلك أن الفلك على شكل الكرة، وقوى ذلك في اعتقاده، ما رآه من رجوع الشمس والقمر وسائر الكواكب إلى المشرق، بعد مغيبها بالمغرب، وما رآه أيضاً من أنها تظهر لبصره على قدر واحد من العظم في حال طلوعها وتوسطها وغروبها، وأنها لو كانت حركتها على غير شكل الكرة لكانت لا محالة في بعض الأوقات، أقرب إلى بصره منها في وقت آخر، ولو كانت كذلك، لكانت مقاديرها واعظامها تختلف عند بصره فيراها في حال القرب أعظم مما يراها في حال البعد، لاختلاف أبعادها عن مركزه حينئذ بخلافها على الأول.
فلما لم يكن شيء من ذلك؛ تحقق عنده كروية الشكل. وما زال يتصفح حركة القمر، فيراها آخذه من المغرب إلى المشرق وحركات الكواكب السيارة كذلك، حتى تبين له قدر كبير من علم الهيئة، وظهر له أن حركتها لا تكون إلا بأفلاك كثيرة، كلها مضمنة في فلك واحد، هو أعلاها. وهو الذي يحرك الكل من المشرق إلى المغرب في اليوم والليلة. وشرح كيفية انتقاله. ومعرفة ذلك يطول؛ وهو مثبت في الكتب، ولا يحتاج منه في غرضنا إلا للقدر الذي أردناه. فلما انتهى إلى هذه المعرفة، ووقف على أن الفلك بجملته وما يحتوي عليه، كشيء واحد متصل بعضه ببعض، وأن جميع الأجسام التي كان ينظر فيها أولاً: كالأرض والماء والهواء والنبات والحيوان وما شاكلها، هي كلها في ضمنه وغير خارجة عنه، وأنه كله أشبه شيء بشخص من أشخاص الحيوان؛ وما فيه من الكواكب المنيرة هي بمنزلة حواس الحيوان؛ وما فيه من ضروب الأفلاك، المتصل بعضها ببعض، هي بمنزلة أعضاء الحيوان؛ وما في داخله من الكون والفساد هي بمنزلة ما في جوف الحيوان من أصناف الفضول والرطوبات، التي كثيراً ما يتكون فيها أيضاً حيوان، كما يتكون في العالم الأكبر. فلما تبين له أنه كله كشخص واحد في الحقيقة، واتحدت عنده أجزاؤه الكثيرة بنوع من النظر الذي اتحدت به عنده الأجسام التي في عالم الكون والفساد، تفكر في العالم بجملته، هل هو شيء حدث بعد إن لم يكن، وخرج إلى الوجود بعد العدم؟ أو هو أمر كان موجوداً فيما سلف، ولم يسبقه العدم بوجه من الوجوه؟ فتشك في ذلك ولم يترجح عنده أحد الحكمين على الآخر. وذلك أنه كان إذا أزمع على اعتقاد القدم، اعترضه عوارض كثيرة، من استحالة وجود ما لا نهاية له، بمثل الذي استحال عنده به وجود جسم لا نهاية وكذلك أيضاً كان يرى أن هذا الوجود لا يخلو من الحوادث، فهو لا يمكن تقدمه عليها، وما لا يمكن أن يتقدم على الحوادث، فهو أيضاً محدث. وإذا أزمع على اعتقاد الحدوث، اعترضته عوارض أخرى، وذلك أنه كان يرى أن معنى حدوثه، بعد أن لم يكن لا يفهم إلا على أن الزمان تقدمه، والزمان من جملة العالم وغير منفك عنه، فإذن لا يفهم تأخر العالم عن الزمان. وكذلك أيضاً كان يقول: إذا كان حادثاً، فلا بد له من محدث؛ وهذا المحدث الذي أحدثه، لم أحدثه الآن ولم يحدثه قبل ذلك، الطارئ طرأ عليه ولا شيء هناك غيره، أم لتغير حدث في ذاته؟ فان كان فما الذي احدث ذلك التغيير؟ وما زال يتفكر في ذلك عدة سنين.
فتتعارض عنده الحجج، ولا يترجح عنده أحد الاعتقادين على الآخر. فلما أعياه ذلك، جعل يتفكر ما الذي يلزم عن كل واحد من الاعتقادين، فلعل اللازم عنهما يكون شيئاً واحداً. فرأى انه إن اعتقد حدوث العالم خروجه إلى الوجود بعد العدم، فاللازم عن ذلك ضرورة، انه لا يمكن أن يخرج إلى الوجود بنفسه، وانه لا بد له من فاعل يخرجه إلى الوجود، وان ذلك الفاعل لا يمكن إن يدرك بشيء من الحواس، لانه لو أدرك بشيء من الحواس لكان جسماً من الأجسام، ولو كان جسماً من الأجسام لكان من جملة العالم، وكان حادثاً واحتاج إلى محدث، ولو كان ذلك المحدث الثاني أيضاً جسماً، لحتاج إلى محدث ثالث، والثالث إلى رابع، ويتسلسل ذلك إلى غير نهايةً وهو باطل. فإذن لابد للعالم من فاعل ليس بجسم، وإذا لم يكن جسماً فليس إلى إدراكه لشيء من الحواس سبيل، الآن الحواس الخمس لا تدرك إلا الأجسام، وإذا لا يمكن أن يحس فلا يمكن أن يتخيل، لان التخيل ليس شيئاً إلا إحضار صور المحسوسات بعد غيبتها، وإذا لم يكن جسماً فصفات الأجسام كلها تستحيل عليه، وأول صفات الأجسام هو الامتداد في الطول والعرض والعمق، وهو منزه عن ذلك، وعن جميع ما يتبع هذا الوصف من صفات الأجسام. وإذا كان فاعلاً للعالم فهو لا محالة قادر عليه وعالم به "بسم الله الرحمن الرحيم" إلا يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير؟ صدق الله العظيم. وراى أيضاً انه إن اعتقد قدم العالم، وان العدم لم يسبقه، وانه لم يزل كما هو، فان اللازم عن ذلك أن حركته قديمة لا نهاية لها من جهة الابتداء، إذ لم يسبقها سكون يكون مبدؤها منه، وكل حركة فلابد لها من محرك ضرورة، والمحرك أما أن يكون قوة سارية في جسم من الأجسام - أما جسم المتحرك نفسه، واما جسم أخر خارج عنه - واما أن تكون قوة ليست سارية ولا شائعة قي جسم. وكل قوى سارية في جسم وشائعه فيه، فانها تنقسم بانقسامه، وتتضاعف بتضاعفه، مثل الثقل بالحجر مثلاً. المحرك إلى الأسفل.
فانه إن قسم الحجر نصفين. وان زيد عليه أخر مثله، زاد في الثقل أخر مثله، فان أمكن أن يتزايد الحجر إلى غير نهاية، كتزايد هذا الثقل إلى غير نهاية، وان وصل الحجر إلى حد ما من العظم ووقف، وصل الثقل إلى ذلك الحد ووقف، لكنه قد تبرهن أن كل جسم فانه لا محالة متناه، فإذن كل قوة في الجسم فهي لا محالة متناهية. فان وجدناها قوة تفعل فعلاً لا نهاية له، فهي قوة ليست في جسم، وقد وجدنا الفلك يتحرك أبداً حركة لانهاية لها ولا انقطاع إذ فرضناه قديماً لا ابتداء له فالواجب على ذلك أن تكون القوة التي تحرك ليست في جسمه، ولا في جسم خارج عنه. فهي إذا لشيء بريء عن الأجسام، وغير موصوف بشيء من أوصاف الجسمية، وقد كان لاح له في نظره الأول في عالم الكون والفساد إن حقيقة وجود كل جسم، إنما هي من جهة صورته التي هي استعداده لضروب الحركات، وان وجوده الذي له من جهة مادته وجود ضعيف لا يكاد يدرك؛ فان وجود العالم كله إنما هو من جهة استعداده لتحريك هذا المحرك البريء عن المادة، وعن صفات الأجسام، المنزه عن أن يدركه حس، أو يتطرق إليه خيال، سبحانه، وإذا كان فاعلاً لحركات الفلك على اختلاف أنواعها، فعلاً لا تفاوت فيه ولا فتور فيه ولا قصور، فهو لا محالة قادر عليها وعالم بها.
فانتهى نظره بهذا الطريق إلى ما انتهى إليه بالطريق الأول، ولم يضره في ذلك تشككه في قدم العالم أو حدوثه، وصح له على الوجهين جميعاً وجود فاعل غير الجسم، ولا متصل بجسم ولا منفصل عنه، ولا داخل فيه، ولا خارج عنه، إذ: الاتصال، والانفصال، والدخول، هي كلمات من صفات الأجسام، وهو منزه عنها. ولما كانت المادة في كل جسم مفتقرة إلى الصورة، إذ لا تقوم إلا بها ولا تثبت لها حقيقة دونها، وكانت الصورة لا يصح وجودها إلا من فعل هذا الفاعل تبين له افتقار جميع الموجودات في وجودها إلى هذا الفاعل وأنه لا قيام لشيء منها إلا به فهو إذن علة لها، وهي معلومة له، سواء كانت محدثة الوجود، بعد أن سبقها العدم، أو كانت الابتداء لها من جهة الزمان، ولم يسبقها العدم قط، فانها على كلا الحالتين معلولة، ومفتقرة إلى الفاعل، متعلقة الوجود به، ولولا دوامه لم تدم، ولولا وجوده لم توجد، ولولا قدمه لم تكن قديمة، وهو في ذاته غني عنها وبريء منها! وكيف لا يكون كذلك وقد تبرهن أن قدرته غير متناهية، وأن جميع الأجسام وما يتصل بها أو يتعلق بها، ولو بعض التعلق، هو متناه منقطع. فإذن العالم كله بما في السماوات والأرض والكواكب، وما بينها، وما فوقها، وما تحتها، فعله وخلقه؛ ومتأخر عليه بالذات، وان كانت غير ماخرة عليها بالزمان. كما انك إذا أخذت في قبضتك جسماً من الأجسام، ثم حركت يدك، فان ذلك الجسم لا محالة يتحرك تابعاً لحركة يدك، حركة متأخرة عن حركة يدك، تأخراً بالذات؛ وان كانت لم تتأخر بالزمان عنها، بل كان ابتداؤهما معاً، فكذلك العالم كله، معلول ومخلوق لهذا الفاعل بغير زمان "بسم الله الرحمن الرحيم" إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون صدق الله العظيم. فلما راى إن جميع الموجودات فعله، تصفحها من بعد ذا تصفحاً على طريق الاعتبار في قدرة فاعلها؛ والتعجب من غريب صنعته، ولطيف حكمته، ودقيق علمه فتبين له في اقل الأشياء الموجودة، فضلاً عن أكثرها من أثار الحكمة، وبدائع الصنعة، ما قضى منه كل العجب، وتحقق عنده إن ذلك لا يصدر إلا عن فاعل مختار في غاية الكمال وفوق الكمال "بسم الله الرحمن الرحيم" لا يغرب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا اصغر من ذلك ولا أكبر صدق الله العظيم.
ثمتأمل في جميع أصناف الحيوان، كيف "بسم الله الرحمن الرحيم" أعطى كل شيء خلقه، ثم هداه صدق الله العظيم لاستعماله، فلولا أنه هداه لاستعمال تلك الأعضاء التي خلقت له في وجوه المنافع المقصود بها، لما انتفع بها الحيوان، وكانت كلاً عليه، فعلم بذلك أنه أكرم الكرماء، وارحم الرحماء. من فيض ذلك الفاعل المختار - جل جلاله - ومن وجوده، ومن فعله، فعلم أن الذي هو في ذاته أعظم منها، وأكمل، واتمم وأحسن، وأبهى وأجمل وأدوم، وأنه لا نسبة لهذه إلى تلك. فما زال يتتبع صفات الكمال كلها، فيراها له وصادرة عنه، ويرى أنه أحق بها من كل ما يوصف بها دونه. وتتبع صفات النقص كلها فرآه بريئاً منها، ومنزهاً عنها؛ وكيف لا يكون بريئاً منها وليس معنى النقص إلا العدم المحض، أو ما يتعلق بالعدم؟ وكيف يكون العدم تعلق أو تلبس، بمن هو الموجود المحض، الواجب الوجود بذاته، المعطي لكل ذي وجود وجوده، فلا وجود إلا هو: فهو الوجود، وهو الكمال، وهو التمام، وهو الحسن، وهو البهاء، وهو القدرة، وهو العلم، وهو هو، و "بسم الله الرحمن الرحيم" كل شيء هالك إلا وجهه صدق الله العظيم. فانتهت به المعرفة إلى هذا الحد، على رأس خمسة أسابيع من منشئه، وذلك خمسة وثلاثون عاماً، وقد رسخ في قلبه من هذا الفاعل، ما شغله عن الفكرة في كل شيء إلا فيه، وذهل عما كان فيه تصفح الموجودات والبحث عنها، حتى صار بحيث لا يقع بصره على شيء من الأشياء، إلا ويرى فيه أثر الصنعة، ومن حينه، فينتقل بفكره على الفور إلى الصانع ويترك المصنوع، حتى اشتد شوقه إليه، وانزعج قلبه بالكلية عن العالم الأدنى المحسوس، وتعلق بالعالم الأرفع المعقول. فلما حصل له العلم بهذا الموجود الرفيع الثابت الوجود الذي لا سبب لوجود جميع الأشياء، أراد أن يعلم بأي شيء حصل له هذا العالم، وبأي قوة أدرك هذا الموجود: فتصفح حواسه كلها وهي: السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس، فرأى أنها لا تدرك شيئاً إلا جسماً، أو ما هو في الجسم، وذلك أن السمع لا يدرك المسموعات، وهي ما يحدث من تموج الهواء عند تصادم الأجسام، والبصر إنما يدرك الألوان، والشم يدرك الروائح، والذوق يدرك الطعوم، واللمس يدرك الأمزجة والصلابة واللين، والخشونة والملاسة، وكذلك القوة الخيالية لا تدرك شيئاً إلا أن يكون له طول وعرض وعمق؛ وهذه المدركات كلها من صفات الأجسام، وليس لهذه الحواس أدراك شيء سواها، وذلك لأنها قوى شائعة في الأجسام، ومنقسمة بانقسامها، فهي لذلك لا تدرك إلا جسماً منقسماً، لان هذه القوة إذا كانت شائعة في شيء منقسم، فلا محالة أنها إذا أدركت شيئاً من الأشياء، فانه ينقسم بانقسامها؛ فإذن كل قوة في جسم، فانها لا محالة لا تدرك إلا جسماً أو ما هو جسم.
وقد تبين إن هذا الموجود الواجب الوجود، بريء من صفات الأجسام من جميع الاتجاهات، فإذن لا سبيل إلى إدراكه إلا بشيء ليس بجسم، ولا هو قوة في جسم، ولا تعلق له وجه من الوجوه بالأجسام، ولا هو داخل فيها ولا خارج عنها، ولا متصل بها ولا منفصل عنها. وقد كان تبين له أن أدركه بذاته، ورسخت المعرفة به عنده، فتبين له بذلك أن ذاته التي أدركه بها أمر غير جسماني، ولا يجوز عليه شيء من صفات الأجسام، وان كل ما يدركه من ظاهر ذاته من الجسمانية فانها ليست حقيقة ذاته، وانما حقيقة ذاته ذلك الشيء الذي أدرك به الموجود المطلق الواجب الوجود. فلما علم أن ذاته ليست هذه المتجسمة التي يدركها بحواسه، ويحيط بها أديمه، هان عنده بالجملة جسمه، وجعل يتفكر في تلك الذات الشريفة، التي أدرك بها ذلك الموجود الشريف الواجب الوجود، ونظر في ذاته تلك الشريفة، هل يمكن أن تبيد أو تفسد وتضمحل، أو هي دائمة البقاء؟ فرأى إن الفساد والاضمحلال إنما هو من صفات الأجسام بأن تخلع صورة وتلبس صورة أخرى، مثل الماء إذا صار هواء، والهواء إذا صار ماء، والنبات إذا صار تراباً، والتراب إذا صار نباتاً، هذا هو معنى الفساد.
وأما الشيء الذي ليس بجسم، ولا يحتاج في قوامه إلى جسم، وهو منزه بالجملة عن الجسمانية، فلا يتصور فساده البتة. فلما ثبت له أن ذاته الحقيقة لا يمكن فسادها، أراد إن يعلم كيف يكون حالها إذا اطرح البدن وتخلت عنه، وقد كان تبين له أنها لا تطرحه إلا إذا لم يصلح آلة لها، فتصفح جميع القوى المدركة، فرأى أن كل واحدة منها تارةً تكون مدركة بالقوة، وتارةً تكون مدرة بالفعل: مثل العين في حال تغميضها أو أعراضها عن البصر، فانها تكون مدركة بالقوة - ومعنى مدركه بالقوة أنها لا تدرك الآن وتدرك في المستقبل - وفي حال فتحها واستقبالها للمبصر، تكون مدركه بالفعل - ومعنى مدركة بالفعل أنها الآن تدرك - وكذلك كل واحدة من هذه القوى تكون مدركة بالقوة وتكون مدركة بالفعل، وكل واحدة من هذه القوى إن كانت لم تدرك قط بالفعل، فهي ما دامت بالقوة لا تتشوق إلى إدراك الشيء المخصوص بها لأنها لم تتعرف به بعد، مثل من خلق مكفوف البصر؛ وان كانت قد أدركت بالفعل تارةً، ثم صارت بالقوة، فانها ما دامت بالقوة تشتاق إلى الإدراك بالفعل لأنها قد تعرفت إلى المدرك، وتعلقت به، وحنت إليه، مثل من كان يصيراً ثم عمي فانه لا يزال يشتاق إلى المبصرات. وبحسب ما يكون الشيء المدرك أتم وأبهى وأحسن، يكون الشوق أكثر؛ والتألم لفقده اعظم، ولذلك كان تألم من يفقد بصره بعد الرؤية أعظم من تألم من يفقد شمه، إذ الأشياء التي يدركها البصر أتم وأحسن من التي يدركها الشم، فان كان في الأشياء شيء لا نهاية لكماله، ولا غاية لحسنه وجماله وبهائه، وهو فوق الكمال والبهاء والجمال، وليس في الوجود كمال، ولا حسن، ولا بهاء، ولا جمال إلا صادر من جهته، وفائض من قبله، فمن فقد إدراك ذلك الشيء بعد إن تعرف به، فلا محالة أنهما ما دام فاقد له، يكون في ألام لا نهاية لها، كما أن من كان مدركاً له على الدوام، فانه يكون في لذة لا انفصام لها، وغبطة لا غاية لها ورائها، وبهجة وسرور لا نهاية لهما. وقد تبين له أن الموجود الواجب الوجود.
متصف بأوصاف الكمال كلها، ومنزه عن الصفات النقص وبريء منها. وتبين له أن الشيء الذي به يتوصل إلى أدركه أمر لا يشبه الأجسام، ولا يفسد لفسادها؛ فظهر له بذلك أن من كانت له مثل هذه الذات، المعدة لمثل هذا الإدراك؛ فانه إذا أطرح البدن بالموت؛ فإما أن يكون قبل ذلك - في مدة تصريفه للبدن - لم يتعرف قط بهذا الموجود الواجب الوجود؛ ولا اتصل به؛ ولا سمع عنه؛ فهذا إذا فارق البدن لا يشتاق إلى ذلك الموجود ولا يتألم لفقده. واما جميع القوى الجسمانية، فانها تبطل ببطلان الجسم؛ فلا تشتاق أيضاً إلى مقتضيات تلك القوى، ولا تحن إليها، ولا تتألم لفقدها. وهذه حال البهائم غير الناطقة كلها: سواء كانت من صورة الإنسان أو لم تكن. واما إن يكون قبل ذلك - في مدة تصريفه للبدن - قد تعرف بهذا الموجود، وعلم ما هو عليه من الكمال والعظمة والسلطان والحسن إلا انه أعرض عنه واتبع هواه، حتى وافته منيته وهو على تلك الحال، فيحرم المشاهدة، وعنده الشوق إليها فيبقى في عذاب طويل، وألام لا نهاية لها. فأما من يتخلص من تلك الآلام بعد جهد طويل، ويشاهد ما تشوق إليه قبل ذلك، واما أن يبقى في آلامه بقاءً سرمدياً، بحسب استعداده لكل واحد من الوجهين لحياته الجسمانية.
واما من تعرف بهذا الموجود الواجب الوجود، قبل أن يفارق البدن، واقبل بكليته عليه والتزم الفكرة في جلاله وحسن بهائه، ولم يعرض عنه حتى وافته منيته، وهذا على حال من الإقبال والمشاهدة بالفعل. فهذا إذا فارق البدن بقي في لذة لا نهاية لها، وغبطة وسرور وفرح دائم، لاتصال مشاهدته لذلك الموجود الواجب الوجود، وسلامة تلك المشاهدة من الكدر والشوائب؛ ويزول عنه ما تقتضيه هذه القوى الجسمانية من الأمور الحسية التي هي - بالإضافة إلى تلك الحال - ألام وشرور وعوائق. فلما تبين له أن كمال ذاته ولذتها إنما هو بمشاهدة ذلك الموجود الواجب الوجود على الدوام، مشاهدة بالفعل أبداً، حتى لا يعرض عنه طرفة عين لكي توافيه منيته، وهو في حال المشاهدة بالفعل، فتتصل لذته دون أن يتخللها ألم. ثم جعل يتفكر كيف يتأتى له دوام هذه المشاهدة بالفعل، حتى لا يقع منه أعراض فكان يلازم الفكرة في ذلك الموجود كل ساعة، فما هو إلا يسنح لبصره محسوس ما من المحسوسات، أو يخرق سمعه صوت بعض الحيوان، أو يتعرضه خيال من الخيالات، أو يناله ألم في أحد اعضائه، أو يصيبه الجوع أو العطش أو البرد أو الحر، أو يحتاج القيام لدفع فضوله؛ فتختل فكرته، ويزول عما كان فيه، ويتعذر عليه الرجوع إلى ما كان عليه من حال المشاهدة، إلا بعد جهد. وكان يخاف أن تفاجأه منيته وهو في حال الأعراض، فيفضي إلى الشقاء الدائم، وألم الحجاب.
فساءه حاله ذلك، وأعياء الدواء. فجعل يتصفح أنواع الحيوانات كلها، وينظر أفعالها وما تسعى فيه، لعله يتفطن في بعضها أنها شعرت بهذا الموجود، وجعلت تسعى نحوه، فيتعلم منها ما يكون في سبب نجاته. فرآها كلها إنما تسعى في تحصيل غذائها، ومقتضى شهواتها من المطعوم والمشروب والمنكوح، والاستظلال والاستدفاء، وتجد في ذلك ليلها ونهارها إلى حين مماتها وانقضاء مدتها. ولم ير شيئاً منها ينحرف عن هذا الرأي، ولا يسعى لغيره في وقت من الأوقات، فبان له بذلك أنها لم تشعر بذلك الموجود ولا اشتاقت إليه، ولا تعرفت إليه بوجه من الوجوه، وأنها كلها صائرة إلى العدم، أو إلى حال شبيه بالعدم. فلما حكم على ذلك بالحيوان، علم أن الحكم على النبات أولى، إذ ليس للنبات من الادراكات إلا بعض ما للحيوان. وإذا كان الأكمل إدراكاً لم يصل إلى هذه المعرفة، فالأنقص إدراكاً أحرى أن لا يصل، مع انه رأى أيضاً أن أفعال النبات كلها لا تتعدى الغذاء والتوليد. ثم انه بعد ذلك نظر إلى الكواكب والأفلاك فرآها كلها منتظمة الحركات، جارية على نسق؛ ورآها شفافة ومضيئة بعيدة عن قبول التغيير والفساد، فحدس حدساً قوياً أن لها ذوات سوى أجسامها، تعرف ذلك الموجود الواجب الوجود، وأن تلك الذوات العارفة ليست بأجسام، ولا منطبعة في أجسام مثل ذاته، هو، العارفة، وكيف لا يكون لها مثل تلك الذوات البريئة عن الجسمانية، ويكون لمثله على ما به من الضعف وشدة الاحتياج إلى الأمور المحسوسة، وأنه من جملة الأجسام الفاسدة؟ ومع ما به من النقص، فلم يعقه ذلك عن أن تكون ذاته بريئة عن الأجسام لا تفسد، فتبين له بذلك أن الأجسام السماوية أولى بذلك، وعلم أنها تعرف ذلك الموجود الواجب الوجود وتشاهد على الدوام بالفعل، لأن العوائق التي قطعت به هو عن الدوام المشاهدة من العوارض المحسوسة، لا يوجد مثلها للأجسام السماوية.
ثم انه تفكر: لم اختص هو من بين سائر أنواع الحيوانات بهذه الذات التي أشبه بها الأجسام السماوية. وقد كان تبين له أولاً من آمر العناصر واستحالة بعضها إلى بعض، وأن جميع ما على وجه الأرض لا يبقى على صورته؛ بل الكون والفساد متعاقبان عليه أبداً، وأن أكثر هذه الأجسام مختلطة مركبة من أشياء متضادة، ولذلك تؤول إلى الفساد، وانه لا يوجد منه شيء صرفاً، وما كان منها قريباً من أن يكون صرفاً خالصاً لا شائبة فيه، فهو بعيد عن الفساد جداً مثل الذهب والياقوت، وأن الأجسام البسيطة صرفة، ولذلك هي بعيدة عن الفساد، والصور لا تتعاقب عليها. وتبين له هنالك أن جميع الأجسام التي في عالم الكون والفساد، منها ما تتقوم حقيقتها بصورة واحدة زائدة على معنى الجسمية - وهذه هي الاسطقسات الأربع - ومنها ما تتقوم حقيقتها أكثر من ذلك كالحيوان والنبات. فما كان قوام حقيقته بصور أقل، كانت أفعاله أقل، وبعده عن الحياة أكثر، فان عدم الصورة جملة لم يكن فيه إلى الحياة طريق، وصار في حال شبيه بالعدم، وما كان قوام حقيقته بصور أكثر، كانت أفعاله أكثر، ودخوله في حال الحياة أبلغ؛ وان كانت تلك الصورة بحيث لا سبيل إلى مفارقتها لمادتها التي اختصت بها كانت الحياة حينئذ كامل الظهور والكمال والقوة. فالشيء العديم للصورة جملة هو الهيولى والمادة، ولا شيء من الحياة فيها وهي شبيهة بالعدم، والشيء المتقوم بصورة واحدة هي الاسطقسات الأربع وهي في أول مراتب الوجود في عالم الكون والفساد ومنها تتركب الأشياء ذوات الصور الكثيرة. وهذه الاسطقسات ضعيفة الحياة جداً، إذ ليست تتحرك إلا حركة واحدة، وانما كانت ضعيفة الحياة لان لكل واحد منها ضداً ظاهر العناد يخالفه في مقتضى طبيعته، ويطلب أن يغير صورته.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)