تمنيت من أهوى فلـمـا رأيتـه ذهلت فلم أملك لساناً ولا طرفـا وأطرقت إجلالاً لـه ومـهـابة وحاولت إخفاء الذي بي فلم يخف وكنت معداً للعتاب صـحـائفـاً فلما اجتمعنا ما وجدت ولا حرفا
ثم قال لهما اجبرا قلبي وكلا من طعامي فو الله ما نظرت إليك أيها الغلام إلا حن قلبي إليك وما كنت تبعتك إلا وأنا بغير عقل. فقال عجيب والله إنك محب لنا ونحن أكلنا عندك لقمة فلازمتنا عقبها، وأردت أن تهتكنا ونحن لا نأكل لك أكلاً إلا بشرط أن تحلف أنك لا تخرج وراءنا ولا تتبعنا وإلا لا نعود إليك من وقتنا هذا، فنحن مقيمون في هذه المدينة جمعة حتى يأخذ جدي هدايا للملك فقال بدر الدين لكم علي ذلك، فدخل عجيب هو والخادم في الدكان فقدم لهما زبدية ممتلئة حب رمان، فقال عجيب كل معنا لعل الله يفرج عنا ففرح حسن بدر الدين وأكل معهم حتى امتلأت بطونهما وشبعا على خلاف عادتهما، ثم انصرفا وأسرعا في مشيهما حتى وصلا إلى خيامهما ودخل عجيب على جدته أم والده حسن بدر الدين، فقبلته وتذكرت حسن بدر الدين فتنهدت وبكت ثم أنها أنشدت هذين البيتين: لو لم أرى بأن الشمل يجـتـمـع ما كان لي في حياتي بعدكم طمع أقسمت ما في فؤادي غير حبكـم والله ربي على الأسرار مطلـع ثم قالت لعجيب يا ولدي أين كنت، قال في مدينة دمشق فعند ذلك قامت وقدمت له زبدية لعام من حب الرمان وكان قليل الحلاوة وقالت للخادم اقعد مع سيدك فقال الخادم في نفسه والله ما لنا شهية في الأكل، ثم جلس الخادم وأما عجيب فإنه لما جلس كان بطنه ممتلئاً بما أكل وشرب، فأخذ لقمة وغمسها في حب الرمان وأكلها فوجده قليل الحلاوة لأنه شبعاناً فتضجر وقال أي شيء هذا الطعام الوحش فقالت جدته: يا ولدي أتعيب طبيخي وأنا طبخته ولا أحد يحسن الطبيخ مثلي إلا والدك حسن بدر الدين، فقال عجيب والله يا سيدتي إن طبيخك هذا غير متقن نحن في هذه الساعة رأينا في المدينة طباخاً طبخ رمان ولكن رائحته ينفتح لها القلب، وأما طعامه فإنه يشتهي نفس المتخوم أن يأكل وأما طعامك بالنسبة غليه فإنه لا يساوي كثيراً ولا قليلاً، فلما سمعت جدته كلامه اغتاظت غيظاً شديداً، ونظرت إلى الخادم وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والعشرين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن جدة عجيب لما سمعت كلامه اغتاظت ونظرت إلى الخادم وقالت ويلك هل أنت أفسدت ولدي لأنك دخلت به إلى دكاكين الطباخين فخاف الطواشي وأنكر، وقال ما دخلنا الدكان ولكن جزنا جوازاً فقال عجيب والله لقد دخلنا وأكلنا، وهو أحسن من طعامك فقامت جدته وأخبرت أخا زوجها وأغرته على الخادم فحضر الخادم قدام الوزير، فقال له لم دخلت بولدي دكان الطباخ فخاف الخادم وقال ما دخلنا فقال عجيب بل دخلنا وأكلنا من حب الرمان حتى شبعنا، وسقانا الطباخ شراباً بثلج وسكر فازداد غضب الوزير على الخادم وسأله فأنكر، فقال له الوزير إن كان كلامك صحيحاً فاقعد وكل قدامنا فعند ذلك تقدم الخادم وأراد أن يأكل فلم يقدر ورمى اللقمة وقال يا سيدي إني شبعان من البارحة. فعرف الوزير أنه أكل عند الطباخ فأمر الجواري ن يطرحنه فطرحنه ونزل عليه بالضرب الوجيع فاستغاث وقال يا سيدي إني شبعان من البارحة ثم منع عنه الضرب وقال لم أنطلق بالحق، فقال اعلم أننادخلنا دكان الطباخ وهو يطبخ حب الرمان فغرف لنا منه والله ما أكلت عمري مثله ولا رأيت أقبح من هذا الذي قدامنا فغضبت أم حسن بدر الدين، وقالت لا بد أن تذهب إلى هذا الطباخ وتجيء لنا بزبدية حب الرمان من الذي عنده وتريه لسيدك حتى يقول أيهما أحسن وأطيب، فقال الخادم: نعم ففي الحال أعطته زبدية ونصف دينار فمضى الخادم حتى وصل إلى الدكان وقال للطباخ نحن تراهنا على طعامك في بيت سيدنا لأن هناك حب رمان طبخه أهل البيت فهات لنا بهذا النصف دينار وأدر بالك في طهيه وأتقنه فقد أكلنا الضرب الموجع على طبيخك. فضحك حسن بدر الدين وقال والله أن هذا الطعام لا يحسنه أحد إلا أنا ووالدتي وهي الآن في بلاد بعيدة ثم أنه عرف الزبدية وأخذها وختمها بالمسك وماء الورد فأخذها الخادم وأسرع بها حتى وصل إليهم فأخذتها والدة حسن وذاقتها ونظرت حسن طعمها فعرفت طباخها فصرخت ثم وقعت مغشياً عليها فبهت الوزير من ذلك، ثم رشوا عليها ماء الورود بعد ساعة أفاقت وقالت إن كان ولدي في الدنيا فما طبخ حب الرمان هذا إلا هو وهو ولدي حسن بدر الدين لا شك ولا محالة لأن هذا طعامه وما أحد يطبخه غيره إلا أنا لأني علمته طبيخه.
فلما سمع الوزير كلامها فرح فرحاً شديداً، وقال واشوقاه إلى رؤية ابن أخي أترى تجمع الأيام شملنا وما نطلب الاجتماع به إلا من الله تعالى، ثم إن الوزير قام من وقته وساعته وصاح على الرجال الذين معه وقال يمضي منكم عشرون رجلاً إلى دكان الطباخ ويهدمونها ويكتفونه بعمامته ويجرونه غصباً إلى مكاني من غير إيذاء يحصل له، فقالوا له نعم ثم إن الوزير ركب من وقته وساعته إلى دار السعادة واجتمع بنائب دمشق وأطلعه على الكتب التي معه من السلطان فوضعها على رأسه بعد تقبيلها وقال من هو غريمك، قال رجل طباخ ففي الحال أمر حجابه أن يذهبوا إلى دكانه فذهبوا فرأوها مهدومة وكل شيء فيها مكسور لأنه لما توجه إلى دار السعادة فعلت جماعته ما أمرهم به وصاروا منتظرين مجيء الوزير من دار السعادة وحسن بدر الدين يقول في نفسه يا ترى أي شيء رأوا في حب الرمان حتى صار لي هذا الأمر فلما حضر الوزير من عند نائب دمشق وقد أذن غريمه وسفره به فلما دخل الخيام طلب الطباخ فأحضروه مكتفاً بعمامته. فلما نظر حسن بدر الدين إلى عمه بكى بكاء شديداً وقال يا مولاي ما ذنبي عندكم فقال له أنت الذي طبخت حب الرمان قال نعم فهل وجدتم فيه شيئاً يوجب ضرب الرقبة فقال هذا أقل جزائك فقال له يا سيدي أما توقفني على ذنبي، فقال له الوزير: نعم في هذه الساعة ثم إن الوزير صرخ على الغلمان وقال هاتوا الجمال وأخذوا حسن بدر الدين معهم وأدخلوه في صندوق وقفلوا عليه وساروا ولم يزالوا سائرين إلى أن أقبل الليل فحطوا وأكلوا شيئاً من الطعام وأخرجوا حسن بدر الدين فأطعموه وأعادوه إلى الصندوق ولم يزالوا كذلك حتى وصلوا إلى مكان فأخرجوا حسن بدر الدين من الصندوق وقال له هل أنت طبخت حب الرمان، قال نعم يا سيدي. فقال الوزير قيدوه فقيدوه وأعادوه إلى الصندوق وساروا إلى أن وصلوا إلى مصر وقد نزلوا في الزيدانية فأمر بإخراج حسن بدر الدين من الصندوق وأمر بإحضار نجار وقال اصنع لهذا لعبة خشب فقال حسن بدر الدين وما تصنع بها فقال أصلبك وأسمرك فيها ثم أدور بك المدينة كلها، فقال على أي شيء تفعل بي ذلك فقال الوزير على عدم إتقان طبيخك حب الرمان كيف طبخته وهو ناقص فلفلاً فقال له وهل لكونه ناقص فلفلاً تصنع معي هذا كله أما كفاك حبسي وكل يوم تطعمون بأكلة واحدة فقال له الوزير من أجل كونه ناقصاً فلفلاً ما جزاؤك إلى القتل، فتعجب حسن بدر الدين، وحزن على روحه وصار يتفكر في نفسه فقال له الوزير في أي شيء تتفكر، فقال له في العقول السخيفة التي مثل عقلك فإنه لو كان عندك عقل ما كنت فعلت معي هذه الفعال لأجل نقص الفلفل فقال له الوزير يجب علينا أن نؤدبك حتى لا تعود لمثله. فقال حسن بدر الدين إن الذي فعلته معي أقل شيء فيه أدبي فقال لا بد من صلبك وكل هذا والنجار يصلح الخشب وهو ينظر إليه ولم يزالوا كذلك إلى أن أقبل الليل فأخذه عمه ووضعه في الصندوق وقال في غد يكون صلبك، ثم صبر عليه حتى عرف أنه نام فقام وركب وأخذ الصندوق قدامه ودخل المدينة وسار إلى أن دخل بيته ثم قال لابنته ست الحسن: الحمد لله الذي جمع شملك بابن عمك قومي وافرشي البيت مثل فرشة ليلة الجلاء فأمرت الجواري بذلك، فقمن وأوقدن الشمع وقد أخرج الوزير الورقة التي كتب فيها أمتعة البيت ثم قرأها وأمر أن يضعوا كل شيء في مكانه حتى أن الرائي إذا رأى ذلك لا يشك في أنها ليلة الجلاء بعينها، ثم أن الوزير أمر أن تحط عمامة حسن بدر الدين في مكانها الذي حطها فيه بيده وكذلك السروال والكيس الذي تحت الطراحة ثم أن الوزير أمر ابنته تتحف نفسها كما كانت ليلة الجلاء وتدخل المخدع وقال لها: إذ دخل عليك ابن عمك فقولي له قد أبطأت علي في دخولك بيت الخلاء ودعيه يبيت عندك وتحدثي معه إلى النهار وكتب هذا التاريخ.
ثم أن الوزير أخرج بدر الدين من الصندوق بعد أن فك القيد من رجليه وخلع ما عليه من الثياب وصار بقميص النوم وهو رفيع من غير سروال. كل هذا وهو نائم لا يعرف بذلك ثم انتبه بدر الدين من النوم فوجد نفسه في دهليز نير، فقال في نفسه هل أنا في أضغاث أحلام أو في اليقظة، ثم قام بدر الدين فمشى قليلاً إلى باب ثان ونظر وغذا هو في البيت الذي انجلت فيه العروسة، ورأى المخدع والسرير ورأى عمامته وحوائجه، فلما نظر ذلك بهت وصار يقدم رجلاً ويؤخر أخرى وقال في نفسه هل هذا في المنام أو في اليقظة وصار يمسح جبينه ويقول وهو متعجب والله إن هذا مكان العروسة التي انجلت فيه علي، فإني كنت في صندوق، فبينما هو يخاطب نفسه وإذا بست الحسن رفعت طرف الناموسية وقالت له يا سيدي أما تدخل فإنك أبطأت علي في بيت الخلاء فلما سمع كلامها ونظر إلى وجهها وضحك وقال إن هذه أضغاث أحلام، ثم دخل وتنهد وتفكر فيما جرى له وتحير في أمره وأشكلت عليه قضيته ولما رأى عمامته وسرواله والكيس الذي فيه الألف دينار، قال: الله أعلم أني في أضغاث أحلام، وصار من فرط التعجب متحيراً، وهناك أدرك شهرزاد الصباح..