فمدت يدها وألقتها بين أصابعه فضمها بلطف ثم زاد قائلاً "لقد شبعت من السنين يا ولدي. قد عشت طويلاً وتلذذت بكل ما تثمره الفصول وتمتعت بكل ما تبرزه الأيام والليالي. قد لاحقت الفراش صبياً وعانقت الحب فتىً وجمعت المال كهلاً وكنت في هذه الأدوار سعيداً مغبوطاً... فقدت أمك يا سلمى قبل أن تبلغي الثالثة ولكنها أبقتك لي كنزاً ثميناً فكنت تنمين بسرعة نمو الهلال، وتنعكس على وجهك ملامح أمك مثلما تنعكس أشعة النجوم في حوض ماء هادئ، وتظهر أخلاقها ومزاياها بأعمالك وأقوالك ظهور الحلي الذهبية من وراء النقاب الرقيق، فتعزيت بك يا ولدي لأنك كنت مثلها جميلة وحكيمة... والآن قد صرت شيخاً طاعناً وراحة الشيوخ بين أجنحة الموت الناعمة، فتعزي يا ولدي لأنني بقيت لأراك امرأة كاملة وافرحي لأني سأبقى بك حياً بعد موتي. إن ذهابي الآن مثل ذهابي غداً أو بعده، لأن أيامنا مثل أوراق الخريف تتساقط وتتبدد أمام وجه الشمس، فإن أسرعت بي إلى الأبدية فلأنها علمت بأن روحي قد اشتاقت إلى لقاء أمك..".
لفظ الكلمات الأخيرة بنغمة مفعمة بحلاوة الحنين والرجاء ولاحت على وجهه المنقبض أشعة شبيهة بذلك النور الذي ينبثق من أجفان الأطفال. ثم مد يده بين المساند المحيطة برأسه وانتشل صورة صغيرة قديمة يمنطقها إطار من الذهب قد نعمت حدوده ملامس الأيدي ومحت نقوشه قبل الشفاه. ثم قال بدون أن يحول عينيه عن الرسم "اقتربي يا سلمى اقتربي مني يا ولدي لأريك خيال أمك، تعالي وانظري ظلها على صفحة من الورق".
فدنت سلمى ماسحة الدموع من مقلتيها كيلا تحول بين ناظرها والرسم الضئيل، وبعد أن أحدقت به طويلاً كأنه مرآة تعكس معانيها وشكل وجهها، قربته من شفتيها وقبلته بلهفة مراراً متوالية ثم صرخت قائلة "يا أماه، يا أماه، يا أماه" ولم تزد على هذه الكلمة بل عادت ووضعت الرسم على شفتيها المرتعشتين كأنها تريد أن تثبت فيه الحياة بأنفاسها الحارة.
إن أعذب ما تحدثه الشفاه البشرية هو لفظة (الأم) وأجمل مناداة هي (يا أمي) كلمة صغيرة كبيرة مملوءة بالأمل والحب والانعطاف وكل ما في القلب البشري من الرقة والحلاوة والعذوبة. الأم هي كل شيء في هذه الحياة، هي التعزية في الحزن، والرجاء في اليأس، والقوة في الضعف، هي ينبوع الحنو والرأفة والشفقة والغفران، فالذي يفقد أمه يفقد صدراً يسند إليه رأسه ويداً تباركه وعيناً تحرسه.
كل شيء يرمز ويتكلم عن الأمومة فالشمس هي أم هذه الأرض ترضعها حرارتها وتحضنها بنورها ولا تغادرها عند المساء إلا بعد أن تنومها على نغمات أمواج البحر وترنيمة العصافير والسواقي، وهذه الأرض هي أم للأشجار والأزهار تلدها وترضعها ثم تفطمها والأشجار والأزهار تصير بدورها أمهات حنونات للأثمار الشهية والبذور الحية. وأم كل شيء في الكيان هو الروح الكلية الأزلية الأبدية المملوءة بالجمال والمحبة.
وسلمى كرامة لم تكن تعرف أمها لأنها ماتت وهي طفلة وقد شهقت متأثرة عندما رأت رسمها ونادتها "يا أماه" أسرت إرادتها لأن لفظة الأم تختبئ في قلوبنا مثلما تختبئ النواة في قلب الأرض وتنبثق من بين شفاهنا في ساعات الحزن والفرح كما يتصاعد العطر من قلب الوردة في الفضاء الصافي الممطر.