مني ميتاً".
فحمل الطبيب الطفل الميت ووضعه بين ذراعيها فضمته إلى صدرها وحولت وجهها نحو الحائط وقالت تخاطبه "قد جئت لتأخذني يا ولدي، قد جئت لتدلني على الطريق المؤدية إلى الساحل، ها أنذا يا ولدي فسر أمامي لنذهب من هذا الكهف المظلم".
وبعد دقيقة دخلت أشعة الشمس من بين ستائر النافذة وانسكبت على جسدين هامدين منطرحين على مضجع تخفره هيبة الأمومة وتظلله أجنحة الموت.
فخرج الطبيب باكياً من تلك الغرفة، ولما بلغ القاعة الكبرى تبدلت تهاليل المهنئين بالصراخ والعويل، أما منصور بك غالب فلم يصرخ ولم يتنهد ولم يذرف دمعة ولم يفه بكلمة بل لبث جامداً منتصباً كالصنم قابضاً بيمينه على كأس الشراب.


وفي اليوم التالي كفنت سلمى بأثواب عرسها البيضاء ووضعت في تابوت موشى بالمخمل الناصع، أما طفلها فكانت أقمطة أكفانه وتابوته ذراعي أمه وقبره صدرها الهادئ.
حملوا الجثتين في نعش واحد مشوا ببطء متلف يشابه طرقات القلوب في صدور المنازعين فسار المشيعون وسرت بينهم وهم لا يعرفونني ولا يدرون ما بي.
بلغوا المقبرة فانتصب المطران بولس غالب يرتل ويعزم ووقف الكهان حوله ينغمون ويسبحون.
ولما أنزلوا التابوت إلى أعماق الحفرة همس أحد الواقفين: قائلاً: هذه أول مرة رأيت فيها جسدين يضمهما تابوت واحد".
وقال آخر:
"تأملوا بوجه منصور بك فهو ينظر إلى الفضاء بعينين زجاجيتين كأنه لم يفقد زوجته وطفله في يوم واحد".
وظل الكهان يرتلون ويسبحون حتى فرغ حفار القبور من ردم الحفرة فأخذ المشيعون إذ ذاك يقتربون واحداً واحداً من المطران وابن أخيه يصبرونهما ويواسونهما بمستعذبات الكلام.
أما أنا فبقيت واقفاً منفرداً وحدي وليس من يعزيني على مصيبتي كأن سلمى وطفلها لم يكونا أقرب الناس إليّ.
عاد المشيعون وبقي حفار القبور منتصباً بجانب القبر الجديد وفي يده رفشه ومحفره، فدنوت منه وسألته قائلاً:
"أتذكر أين قبر فارس كرامة؟
فنظر إلي طويلاً ثم أشار نحو قبر "سلمى" وقال:
"في هذه الحفرة قد مددت ابنته على صدره، وعلى صدر ابنته مددت طفلها وفوق الجميع قد وضعت التراب بهذا الرفش".
فأجبته:
"وفي هذه الحفرة أيضاً قد دفنت قلبي أيها الرجل... فما أقوى ساعديك".
ولما توارى حفار القبور وراء أشجار السرو...
خانني الصبر والتجلد
فارتميت على قبر "سلمى"
أبكيها


وارثيها