عشائرهم‏.‏ وقالت الحكماء‏:‏ أسوس الناس لرعيته من قاد أبدانها بقلوبها وقلوبها بخواطرها وخواطرها بأسبابها من الرغبة والرهبة‏.‏ وقال أبرويز لابنه شيرويه‏:‏ لا توسعن على جندك سعة يستغنون بها عنك ولا تضيقن عليهم ضيقاً يضجون به منه ولكن أعطهم عطاء قصداً وامنعهم منعاً جميلاً وابسط لهم في الرجاء ولا تبسط لهم في العطاء‏.‏ ونحو هذا قول المنصور لبعض قواده‏:‏ صدق الذي قال‏:‏ أجع كلبك يتبعك وسمنه يأكلك‏.‏ فقال له أبو العباس الطوسي‏:‏ أما تخشى يا أمير المؤمنين إن أجعته أن يلوح له غيرك برغيف فيتبعه وكتب أبرويز إلى ابنه شيرويه من الحبس‏:‏ اعلم أن كلمة منك تسفك دما وأخرى منك تحقن دماً وأن سخطك سيف مسلول على من سخطت عليه وأن رضاك بركة مستفيضة على من رضيت عنه وأن نفاذ أمرك مع ظهور كلامك‏.‏ فاحترس في غضبك من قولك أن يخطئ ومن لونك أن يتغير ومن جسدك أن يخف فإن الملوك تعاقب حزماً وتعفو حلماً‏.‏ واعلم أنك تجل من الغضب وأن ملكك يصغر عن رضاك فقدر لسخطك من العقاب كما تقدر لرضاك من الثواب‏.‏ وخطب سعيد بن سويد بحمص فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أيها الناس إن للإسلام حائطاً منيعا وبابا وثيقاً فحائط الإسلام الحق وبابه العدل‏.‏ ولا يزال الإسلام منيعاً ما اشتد السلطان‏.‏ وليست شدة السلطان قتلاً بالسيف ولا ضرباً بالسوط ولكن قضاء بالحق وأخذاً بالعدل‏.‏ وقال عبد الله بن الحكم‏:‏ إنه قد يضطغن على السلطان رجلان‏:‏ رجل أحسن في محسنين فأثيبوا وحرم ورجل أساء في مسيئين فعوقب وعفي عنهم‏.‏ فينبغي للسلطان أن يحترس منهما‏.‏ وفي كتاب التاج‏:‏ أن أبرويز كتب لابنه شيرويه يوصيه بالرعية‏:‏ و ليكن من تختاره لولايتك امرأ كان في ضعة فرفعته أو ذا شرف كان مهملاً فاصطنعته‏.‏ ولا تجعله امرأً أصبته بعقوبة فاتضع لها ولا امرأً أطاعك بعد ما أذللته ولا أحداً ممن يقع في قلبك أن إزالة سلطانك أحب إليه من ثبوته‏.‏ وإياك أن تستعمله ضرعاً غمراً كثيراً إعجابه بنفسه قليلاً تجربته في غيره ولا كبيراً مدبراً قد أخذ الدهر من عقله كما أخذت السن من جسمه‏.‏ بسط المعدلة ورد المظالم الشيباني قال‏:‏ حدثنا محمد بن زكريا عن عباس بن الفضل الهاشمي عن قحطبة بن حميد قال‏:‏ إني لواقف على رأس المأمون يوماً وقد جلس للمظالم فكان آخر من تقدم إليه - وقد هم بالقيام - امرأة عليها هيئة السفر وعليها ثياب رثة فوقفت بين يديه فقالت‏:‏ السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته‏.‏ فنظر المأمون إلى يحيى بن أكثم‏.‏ فقال لها يحيى‏:‏ وعليك السلام يا أمة الله تكلمي بحاجتك‏.‏ فقالت‏:‏ يا خير منتصف يهدى له الرشد ويا إماماً به قد أشرق البلد تشكو إليك - عميد القوم - أرملة عدى عليها فلم يترك لها سبد وابتز مني ضياعي بعد منعتها ظلما وفرق مني الأهل والولد فأطرق المأمون حيناً ثم رفع رأسه إليها وهو يقول‏:‏ في دون ما قلت زال الصبر والجلد عني وأقرح مني القلب والكبد هذا أذان صلاة العصر فانصرفي وأحضري الخصم في اليوم الذي أعد فالمجلس السبت - إن يقض الجلوس لنا ننصفك منه - وإلا المجلس الأحد قال‏:‏ فلما كان يوم الأحد جلس فكان أول من تقدم إليه تلك المرأة فقالت‏:‏ السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته‏.‏ فقال‏:‏ وعليك السلام ثم قال‏:‏ أين الخصم فقالت‏:‏ الواقف على رأسك يا أمير المؤمنين - وأومأت إلى العباس ابنه - فقال‏:‏ يا أحمد بن أبي خالد خذ بيده فأجلسه معها مجلس الخصوم‏.‏ فجعل كلامها يعلو كلام العباس‏.‏ فقال لها أحمد بن أبي خالد‏:‏ يا أمة الله إنك بين يدي أمير المؤمنين وإنك تكلمين الأمير فاخفضي من صوتك‏.‏ فقال المأمون‏:‏ دعها يا أحمد فإن الحق أنطقها والباطل أخرسه‏.‏ ثم قضى لها برد ضيعتها إليها وظلم العباس بظلمه لها وأمر بالكتاب لها إلى العامل الذي ببلدها أن يوغر لها ضيعتها ويحسن معاونتها وأمر لها بنفقة‏.‏ العتبي قال‏:‏ إني لقاعد عند قاضي هشام بن عبد الملك إذ أقبل إبراهيم ابن محمد بن طلحة وصاحب حرس هشام حتى قعدا بين يديه فقال‏:‏ إن أمير المؤمنين جراني في خصومة بينه وبين إبراهيم‏.‏ فقال القاضي شاهديك على الجراية‏.‏ فقال‏:‏ أتراني قلت على أمير المؤمنين ما لم يقل وليس بيني وبينه إلا هذه السترة‏!‏ قال‏:‏ لا ولكنه لا يثبت الحق لك ولا عليك إلا ببينة‏.‏ قال‏:‏ فقام الحرسي فدخل على هشام فأخبره‏.‏ فلم نلبث أن تقعقعت الأبواب وخرج الحرسي وقال‏:‏ هذا أمير المؤمنين‏.‏ وخرج هشام فلما نظر إليه القاضي قام فأشار إليه وبسط له مصلى فقعد عليه وإبراهيم بين يديه‏.‏ وكنا حيث نسمع بعض كلامهم ويخفى عنا بعضه قال‏:‏ فتكلما وأحضرا البينة فقضى القاضي على هشام بن عبد الملك‏.‏ فتكلم إبراهيم بكلمة فيها بعض الخرق فقال‏:‏ الحمد لله الذي أبان للناس ظلمك‏.‏ فقال له هشام‏:‏ هممت أن أضربك ضربة ينتثر منها لحمك عن عظمك‏.‏ قال‏:‏ أما والله لئن فعلت لتفعلنه بشيخ كبير السن قريب القرابة واجب الحق‏.‏ فقال هشام‏:‏ يا إبراهيم استرها علي‏.‏ قال‏:‏ لا ستر الله علي إذا ذنبي يوم القيامة إن سترتها‏.‏ قال‏:‏ فإني معطيك عليها مائة ألف‏.‏ قال إبراهيم‏:‏ فسترتها عليه أيام حياته ثمناً لما أخذت منه وأذعتها بعد مماته تزيينا له‏.‏ قال‏:‏ وورد على الحجاج بن يوسف سليك بن سلكة فقال‏:‏ أصلح الله الأمير أرعني سمعك واغضض عني بصرك واكفف عني غربك‏.‏ فإن سمعت خطأ أو زللا فدونك والعقوبة‏.‏ قال‏:‏ قل‏.‏ فقال‏:‏ عصى عاص من عرض العشيرة فحلق على اسمي وهدم منزلي وحرمت عطائي‏.‏ قال‏:‏ هيهات‏!‏ أو ما سمعت قول الشاعر‏:‏ جانيك من يجني عليك وقد تعدي الصحاح مبارك الجرب ولرب مأخوذ بذنب عشيرة ونجا المقارف صاحب الذنب فقال‏:‏ أصلح الله الأمير إني سمعت الله عز وجل يقول غير هذا‏.‏ قال‏:‏ وما ذاك قال‏:‏