أنفسهم‏.‏ قال‏:‏ ودخل الحارث بن مسكين على المأمون فسأله عن مسألة فقال‏:‏ أقول فيها كما قال مالك بن أنس لأبيك هارون الرشيد - وذكر قوله فلم يعجب المأمون - فقال‏:‏ لقد تيست فيها وتيس مالك‏.‏ قال الحارث بن مسكين‏:‏ فالسامع يا أمير المؤمنين من التيسين أتيس‏.‏ فتغير وجه المأمون‏.‏ وقام الحارث بن مسكين فخرج وتندم على ما كان من قوله‏.‏ فلم يستقر منزله حتى أتاه رسول المأمون فأيقن بالشر ولبس ثياب أكفانه ثم أقبل حتى دخل عليه فقربه المأمون من نفسه ثم أقبل عليه بوجهه فقال له‏:‏ يا هذا إن الله تبارك وتعالى قد أمر من هو خير منك بإلانة القول لمن هو شر مني فقال لنبيه موسى (ص) إذ أرسله إلى فرعون‏:‏ ‏"‏ فقولا له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى ‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أبوء بالذنب وأستغفر الرب‏.‏ قال‏:‏ عفا الله عنك انصرف إذا شئت‏.‏ وأرسل أبو جعفر إلى سفيان الثوري فلما دخل عليه قال‏:‏ عظني أبا عبد الله قال‏:‏ وما عملت يا أمير المؤمنين فيما علمت فأعظك فيما جهلت فما وجد له المنصور جواباً‏.‏ ودخل أبو النضر سالم مولى عمر بن عبد الله على عامل للخليفة فقال له‏:‏ أبا النضر إنا تأتين كتب من عند الخليفة فيها وفيها ولا نجد بداً من إنفاذها فما ترى قال له أبو النضر‏:‏ قد أتاك كتاب الله تعالى قبل كتاب الخليفة فأيهما اتبعت كنت من أهله‏.‏ ونظير هذا القول ما رواه الأعمش عن الشعبي‏:‏ أن زياداً كتب إلى الحكم بن عمرو الغفاري وكان على الصائفة‏:‏ إن أمير المؤمنين معاوية كتب إلي يأمرني أن أصطفي له الصفراء والبيضاء فلا تقسم بين الناس ذهباً ولا فضة واقسم ما سوى ذلك‏.‏ فكتب إليه‏:‏ إني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين والله لو أن السموات والأرض كانتا رتقاً على عبد فاتقى الله لجعل له منهما مخرجاً‏.‏ ثم نادى في الناس فقسم فيهم ما اجتمع له من الفيء‏.‏ ومثله قول الحسن حين أرسل إليه ابن هبيرة وإلى الشعبي فقال له‏:‏ ما ترى أبا سعيد في كتب تأتينا من عند يزيد بن عبد الملك فيها بعض ما فيها فإن أنفذتها وافقت سخط الله وإن لم أنفذها خشيت على دمي فقال له الحسن‏:‏ هذا عندك الشعبي فقيه أهل الحجاز‏.‏ فرقق له الشعبي وقال له‏:‏ قارب وسدد فإنما أنت عبد مأمور‏.‏ ثم التفت ابن هبيرة إلى الحسن وقال‏:‏ ما تقول يا أبا سعيد فقال الحسن‏:‏ يا ابن هبيرة خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله‏.‏ يا ابن هبيرة إن الله مانعك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله‏.‏ يا ابن هبيرة لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فانظر ما كتب إليك فيه يزيد فاعرضه على كتاب الله تعالى فما وافق كتاب الله تعالى فأنفذه وما خالف كتاب الله فلا تنفذه فإن الله أولى بك من يزيد وكتاب الله أولى بك من كتابه‏.‏ فضرب ابن هبيرة بيده على كتف الحسن وقال‏:‏ هذا الشيخ صدقني ورب الكعبة‏.‏ وأمر للحسن بأربعة آلاف درهم وأمر للشعبي بألفين‏.‏ فقال الشعبي‏:‏ رققنا فرفق لنا‏.‏ ونظير هذا قول الأحنف بن قيس لمعاوية حين شاوره في استخلاف يزيد فسكت عنه‏.‏ فقال‏:‏ ما لك لا تقول فقال‏:‏ إن صدقناك أسخطناك وإن كذبناك أسخطنا الله فسخط أمير المؤمنين أهون علينا من سخط الله‏.‏ فقال له‏:‏ صدقت‏.‏ وكتب أبو الدرداء إلى معاوية أما بعد‏:‏ فإنه من يلتمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس‏.‏ وكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية‏:‏ أما بعد فإنه من يعمل بمساخط الله يصر حامده من الناس ذاماً له والسلام‏.‏ أبو الحسن المدائني قال‏:‏ خرج الزهري يوماً من عند هشام فقال‏:‏ ما رأيت مثل أربع كلمات تكلم به اليوم إنسان عند هشام‏.‏ قيل له‏:‏ و ما هن قال‏:‏ دخل رجل على هشام فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين احفظ عني أربع كلمات فيهن صلاح ملكك واستقامة رعيتك فقال هاتهن‏.‏ فقال‏:‏ لا تعدن عدة لا تثق من نفسك بإنجازها‏.‏ قال‏:‏ هذه واحدة فهات الثانية‏.‏ قال‏:‏ لا يغرنك المرتقى وإن كان سهلاً إذا كان المنحدر وعراً‏.‏ قال‏:‏ هات الثالثة‏.‏ قال‏:‏ إن للأعمال جزاء فاتق العواقب‏.‏ قال هات الرابعة‏.‏ قال‏:‏ واعلم أن للأمور بغتات فكن على حذر‏.‏ قعد معاوية بالكوفة يبايع الناس على البراءة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له رجل‏:‏ يا أمير المؤمنين نطيع أحياءكم ولا نتبرأ من موتاكم فالتفت إلى المغيرة فقال له‏:‏ هذا رجل فاستوص به خيراً‏.‏ وقال عبد الملك بن مروان للحارث بن عبد الله بي أبي ربيعة‏:‏ ما كان يقول الكذاب في كذا وكذا - يعني ابن الزبير - فقال‏:‏ ما كان كذاباً‏.‏ فقال له يحيى بن الحكم‏:‏ من أمك يا حار قال‏:‏ هي التي تعلم‏.‏ قال له عبد الملك‏:‏ اسكت فهي أنجب من أمك‏.‏ دخل الزهري على الوليد بن عبد الملك فقال له‏:‏ ما حديث يحدثنا به أهل الشام قال‏:‏ يحدثوننا أن الله إذا استرعى عبداً رعيته كتب له الحسنات ولم يكتب له السيئات‏.‏ قال‏:‏ باطل يا أمير المؤمنين أنبي خليفة أكرم على الله أم خليعة غير نبي قل‏:‏ بل نبي خليفة‏.‏ قال‏:‏ فإن الله تعالى يقول لنبيه داور عليه السلام‏:‏ ‏"‏ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله‏.‏ إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ‏"‏‏.‏ فهذا وعيد يا أمير المؤمنين لنبي خليفة فما ظنك بخليفة غير نبي قال‏:‏ إن الناس ليغووننا عن ديننا‏.‏ الأصمعي عن إسحاق بن يحيى عن عطاء بن يسار قال‏:‏ قلت للوليد بن عبد الملك‏:‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ وددت أني خرجت من هذا الأمر كفافاً لا علي ولا لي‏.‏ فقال‏:‏ كذبت‏.‏ فقلت‏:‏ أو المشورة قال النبي (ص)‏:‏ ما ندم من استشار ولا خاب من استخار‏.‏ وقدر أمر الله تبارك وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بمشاورة من هو دونه في الرأي والحزم فقال‏:‏ ‏"‏ وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ‏"‏‏.‏ ولما هممت ثقيف بالارتداد بعد موت النبي (ص) استشاروا عثمان بن أبي العاص وكان مطاعاً فيهم فقال لهم‏:‏ لا تكونوا آخر العرب إسلاماً وأولهم ارتداداً‏.‏ فنفعهم الله برأيه‏.‏ وسئل بعض الحكماء‏:‏ أي الأمور أشد تأييداً للفتى وأيتها أشد إضراراً به فقال‏:‏ أشدها تأييداً له ثلاثة‏:‏