البصرة في ثلاثة أيام‏.‏ فقال له بعض جلسائه‏:‏ أصلح الله الأمير فلو ركبت النيروز لسرت إليها في يوم واحد‏.‏ فلما دخل عليه أهل البصرة لم يروا كيف يكلمونه ولا ما يلقونه من القول أيهنئونه أم يعزونه حتى دخل عليه عبد الله بن الأهتم فاستشرف الناس له وقالوا‏:‏ ما عسى أن يقال للمنهزم فسلم ثم قال‏:‏ مرحباً بالصابر المخذول الذي خذله قومه الحمد لله الذي نظر لنا عليك ولم ينظر لك علينا فقد تعرضت للشهادة جهدك ولكن علم الله تعالى حاجة أهل الإسلام إليك فأبقاك لهم بخذلان من معك لك‏.‏ فقال أمية بن عبد الله‏:‏ ما وجدت أحداً أخبرني عن نفسي غيرك‏.‏ إذا صوت العصفور طار فؤاده وليث حديد الناب عند الثرائد أتي الحجاج بدواب أمية قد وسم على أفخاذها عدة فأمر الحجاج أن يكتب تحت ذلك‏:‏ للفرار‏.‏ وقال أبو دلامة‏:‏ كنت مع مروان أيام الضحاك الحروري فخرج فارس منهم فدعا إلى البراز فخرج إليه رجل فقتله ثم ثان فقتله ثم ثالث فقتله فانقبض الناس عنه وجعل يدنو ويهدر كالفحل المغتلم‏.‏ فقال مروان‏:‏ من يخرج إليه وله عشرة آلاف قال‏:‏ فلما سمعت عشرة آلاف هانت علي الدنيا وسخوت بنفسي في سبيل عشرة آلاف وبرزت إليه فإذا عليه فرو قد أصابه المطر فارمعل ثم أصابته الشمس فاقفعل وله عينان تتقدان كأنهما جمرتان‏.‏ فلما رآني فهم الذي أخرجني فأقبل نحوي وهو يرتجز ويقول‏:‏ وخارج أخرجه حب الطمع فر من الموت وفي الموت وقع ‏"‏ من كان ينوي أهله فلا رجع ‏"‏ فلما رأيته قنعت رأسي ووليت هارباً ومروان يقول‏:‏ من هذا الفاضح لا يفتكم فدخلت في غمار الناس‏.‏ وقيل لأعرابي‏:‏ ألا تغزو العدو قال‏:‏ وكيف يكونون لي عدواً وما أعرفهم ولا يعرفوني وقيل لآخر‏:‏ ألا تغزو العدو قال‏:‏ والله إني لأبغض الموت على فراشي فكيف أخب إليه راكضاً‏.‏ ومما قيل في الفرارين والجبناء من الشعر قول حسان بن ثابت يعير الحارث بن هشام بفراره يوم بدر وقد تقدم ذكر ذلك‏:‏ إن كنت كاذبة الذي حدثتني فنجوت منجى الحارث هشام ترك الأحبة لم يقاتل دونهم ونجا برأس طمرة ولجام ملأت به الفرجين فارمدت به وثوى أحبته بشر مقام وقال بعض العراقيين في رجل أكول جبان‏:‏ إذا صوت العصفور طار فؤاده وليث حديد الناب عند الثرائد وقال فيه‏:‏ ضعيف القلب رعديد عظيم الخلق والمنظر رأى في النوم عصفوراً فوارى نفسه أشهر وقال آخر‏:‏ لو جرت خيل نكوصاً لجرت خيل ذفافه وقال آخر‏:‏ خرجنا نريد مغاراً لنا وفينا زياد أبو صعصعة فستة رهط به خمسة وخمسة رهط به أربعة ولم يقل أحد في وصف الجبن والفرار مثل قول الطرماح في بني تميم‏:‏ تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ولو سلكت طرق المكارم ضلت ولو أن برغوثاً على ظهر قملة رأته تميم يوم زحف لولت ولو جمعت يوماً تميم جموعها على ذرة معقولة لاشمعلت وليس يعاب الشجاع والبهمة البطل بالفرة الواحدة تكون منه خاصة لا عامة وقليلة لا عادة كما قال زفر بن الحارث وفر يوم مرج راهط عن أبيه وأخيه فقال‏:‏ أيذهب يوم واحد إن أسأته بصالح أيامي وحسن بلائيا ولم تر مني زلة قبل هذه فراري وتركي صاحبي ورائيا وفر عمر بن معد يكرب من عباس بن مرداس السلمي وأسر أخته ريحانة‏.‏ وفيها يقول عمرو‏:‏ أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع وفر عن بني عبس وفيهم زهير بن جذيمة العبسي وولده شأس بن زهير وقيس بن زهير أجاعلة أم الثوير خزاية علي فراري إذ لقيت بني عبس لقيت أبا شأس وشأساً ومالكاً وقيساً فجاشت من لقائهم نفسي لقونا فضموا جانبينا بصادق من الطعن مثل النار في الحطب اليبس ولما دخلنا تحت فيء رماحهم خبطت بكفي أطلب الأرض باللمس وليس يعاب المرء من جبن يومه إذا عرفت منه الشجاعة بالأمس وقال أيضاً‏:‏ ولقد أجمع رجلي بها حذر الموت وإني لفرور ولقد أعطفها كارهة حين للنفس من الموت هرير كل ما ذلك مني خلق وبكل أنا في الروع جدير وابن صبح سادراً يوعدني ما له في الناس ما عشت مجير وقال الحارث لامرأته وذلك أنها نظرت إليه وهو يحد حربة يوم فتح مكة فقالت له‏:‏ ما تصنع بهذه قال‏:‏ أعددتها لمحمد وأصحابه‏.‏ فقالت‏:‏ ما أرى يقوم لمحمد وأصحابه شيء‏!‏ قال‏:‏ والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم قم أنشأ يقول‏:‏ فلما لقيهم خالد بن الوليد يوم الخندمة انهزم الرجل فلامته امرأته فقال‏:‏ إنك لو شهدت يوم الخندمة إذ فر صفوان وفر عكرمة وأبو يزيد قائم كالموتمة ولحقتنا بالسيوف المسلمة يفلقن كل ساعد وجمجمة ضرباً فلا تسمع إلا غمغمة لهم نهيت خلفنا وهمهمة لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة وكان أسلم بن زرعة وجهه عبيد الله بن زياد لحرب أبي بلال الخارجي في ألفين وأبو بلال في أربعين رجلاً فشدوا عليه شدة رجل واحد فانهزم هو وأصحابه فما دخل على ابن زياد عنفه في ذلك وقال‏:‏ أتمضي في ألفين وتنهزم‏.‏ عن أربعين‏!‏ فخرج عنه وهو يقول لأن يذمني ابن زياد حياً خير من أن يمدحني ميتاً‏.‏ وفي رواية أخرى‏:‏ أن يشتمني الأمير وأنا حي أحب إلي من أن يدعو لي وأنا ميت‏.‏ فقال شاعر الخوارج‏:‏ أألفا مؤمن لستم كذاكم ولكن الخوارج مؤمنونا هم الفئة القليلة قد علمتم على الفئة الكثيرة ينصرونا ومثل ذلك قول عبد الله بن مطيع بن الأسود العدوي وكان فر يوم الحرة من جيش مسلم بن أنا الذي فررت يوم الحرة والشيخ لا يفر إلا مرة فاليوم أجزى فرة بكره لا بأس بالكرة بعد الفره فلم يزل يقاتل حتى قتل‏.‏ وأحسن ما قيل في الفرار كله ما قال قيس بن الخطيم‏:‏ إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا صدود الخدود وازورار المناكب أجالدهم يوم الحديقة حاسراً كأن يدي بالسيف مخراق لاعب وقر عتيبة بن الحارث بن شهاب يوم ثبرة عن ابنه حزوة وقال‏:‏ يا حسرتا لقد لقيت حسرة يالتميم غشيتني غمره نعم الفتى غادرته بثبرة نجيت نفسي وتركت حزرة هل يترك الحر الكريم بكره وفر أبو خراش الهذلي من فائد وأصحابه ورصدوه بعرفات فقال‏:‏ رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع فقلت -