داخل قلوبهم طاعة راسخة العروق باسقة الفروع متمثلة في حواشي عوامهم متمكنة من قلوب خواضهم فلا يبقى فيهم ريب إلا نفوه ولا يلزمهم حق إلا أدوه وهذا أحدهم‏.‏ والآخر عود من غيضتك ونبعة من أرومتك فتي السن كهل الحلم راجح العقل محمود الصرامة مأمون الخلاف يجرد فيهم سيفه ويبسط عليهم خيره بقدر ما يستحقون وعلى حسب ما يستوجبون وهو فلان أيها المهدي‏.‏ فسلطه - أعزك الله - عليهم ووجهه بالجيوش إليهم ولا تمنعك ضراعة سنه وحداثة مولده فإن الحلم والثقة مع الحداثة خير من الشك والجهل مع الكهولة وإنما أحداثكم أهل البيت فيما طبعكم الله عليه واختصكم به من مكارم الأخلاق ومحامد الفعال ومحاسن الأمور وصواب التدبير وصرامة الأنفس كفراخ عتاق الطير المحكمة لأخذ الصيد بلا تدريب والعارفة لوجوه النفع بلا تأديب فالحلم والعلم والعزم والحزم والجود والتؤدة والرفق ثابت في صدوركم مزروع في قلوبكم مستحكم لكم متكامل عندكم بطبائع لازمة وغرائز ثابتة‏.‏ قال معاوية بن عبد الله‏:‏ أفتاء أهل بيتك أيها المهدي في الحلم على ما ذكر وأهل خراسان في حال عز على ما وصف ولكن إن ولى المهدي عليهم رجلاً ليس بقديم الذكر في الجنود ولا بنبيه الصوت في الحروب ولا بطويل التجربة للأمور ولا بمعروف السياسة للجيوش والهيبة في الأعداء دخل ذلك أمران عظيمان وخطران مهولان أحدهما‏:‏ أن الأعداء يغتمزونها منه ويحتقرونها فيه ويجترئون بها عليه في النهوض به والمقارعة له والخلاف عليه قبل الاختبار لأمره والتكشف لحاله والعلم بطباعه‏.‏ والأمر الآخر‏:‏ أن الجنود التي يقود والجيوش التي يسوس إذا لم يختبروا منه البأس والنجدة ولم يعرفوه بالصوت والهيبة انكسرت شجاعتهم وماتت نجدتهم واستأخرت طاعتهم إلى حين اختبارهم ووقوع معرفتهم وربما وقع البوار قبل الاختبار‏.‏ وبباب المهدي - وفقه الله - رجل مهيب نبيه حنيك صيت له نسب زاك وصوت عال قد قاد الجيوش وساس الحروب وتألف أهل خراسان واجتمعوا عليه بالمقة ووثقوا به كل الثقة فلو ولاه المهدي أمرهم لكفاه الله شرهم‏.‏ قال المهدي‏:‏ جانيت قصد الرمية وأبيت إلا عصبية إذ رأي الحدث من أهل بيتنا كرأي عشرة حلماء من غيرنا‏.‏ ولكن أين تركتم ولي العهد قالوا‏:‏ لم يمنعنا من ذكره إلا كونه شبيه جده ونسيج وحده ومن الدين وأهله بحيث يقصر القول عن أدنى فضله ولكن وجدنا الله عز وجل قد حجب عن خلفه وستر من دون عباده علم ما تختلف به الأيام ومعرفة ما تجري به المقادير من حوادث الأمور وريب المنون المخترمة لخوالي القرون ومواضي الملوك فكرهنا شسوعه عن محلة الملك ودار السلطان ومقر الإمامة والولاية وموضع المدائن والخزائن ومستقر الجنود وموضع الوجوه ومجمع الأموال التي جعلها الله عز وجل قطباً لمدار الملك ومصيدة لقلوب الناس ومثابة لإخوان الطمع وثوار الفتن ودواعي البدع وفرسان الضلال وأبناء المروق‏.‏ وقلنا إن وجه المهدي ولى عهده فحدث في جيوشه وجنوده ما قد حدث بجنود الرسل من قبله لم يستطع المهدي أن يعقبه بغيره إلا أن ينهض إليهم بنفسه وهذا خطر عظيم وهول شديد إن تنفست الأيام بمقامه واستدامت الحال بأيامه حتى يقع عرض لا يستغنى فيه أو يحدث أمر لا بد فيه منه صار ما بعده مما هو أعظم هولاً وأجل خطراً له تبعاً وبه متصلاً‏.‏ قال المهدي‏:‏ الخطب أيسر مما تذهبون إليه وعلى غير ما تصفون الأمر عليه‏.‏ نحن - أهل البيت - نجري من أسباب القضايا ومواقع الأمور على سابق من العلم ومحتوم من الأمر قد أنبأت به الكتب وتتابعت عليه الرسل وقد تناهى ذلك بأجمعه إلينا وتكامل بحذافيره عندنا فبه ندبر وعلى الله نتوكل‏.‏ إنه لا بد لولي عهدي عقبي من بعدي أن يقود إلى خراسان البعوث ويتوجه نحوها بالجنود‏.‏ أما الأول فإنه يقدم إليهم رسله ويعمل فيهم حيله ثم يخرج نشطاً إليهم حنقاً عليهم يريد أن لا يدع أحد من إخوان الفتن ودواعي البدع وفرسان الضلال إلا توطأه بحر القتل وألبسه قناع القهر وطوقه طوق الذل ولا أحداً من الذين عملوا في قص جناح الفتنة وإخماد نار البدعة ونصرة ولاة الحق إلا أجرى عليهم ديم فضله وجداول بذله‏.‏ فإذا خرج مزمعاً له مجمعاً عليه لم يسر إلا قليلاً حتى يأتيه أن قد عملت حيله‏.‏ وكدحت كتبه ونفذت مكايده فهدأت نافرة القلوب ووقعت طائرة الأهواء واجتمع عليه المختلفون بالرضا فيميل نظراً لهم وبراً بهم وتعطفاً عليهم إلى عدو قد أخاف سبيلهم وقطع طريقهم ومنع حجاجهم بيت الله الحرام وسلب تجارهم رزق الله الحلال‏.‏ وأما الآخر فإنه يوجه إليهم من يعتقد له الحجة بإعطاء ما يطلبون وبذل ما يسألون فإذا سمت الفرق بقرانها له وجنح أهل النواحي بأعناقهم نحوه فأصغت إليه الأفئدة واجتمعت له الكلمة وقدمت عليه الوفود قصد لأول ناحية بخعت بطاعتها وألقت بأزمتها فألبسها جناح نعمته وأنزلها ظل كرامته وخصها بعظيم حبائه ثم عم الجماعة بالمعدلة وتعطف عليهم بالرحمة‏.‏ فلا تبقى فيهم ناحية دانية ولا فرقة قاصية إلا دخلت عليها بركته ووصلت إليها منفعته فأغنى فقيرها وجبر كسيرها ورفع وضيعها وزاد رفيعها ما خلا ناحيتين‏:‏ ناحية يغلب عليهم الشقاء وتستميلهم الأهواء فتستخف بدعوته وتبطئ عن إجابته وتتثاقل عن حقه فتكون آخر من يبعث وأبطأ من يوجه فيضطمر عليها موجدة ويبتغي لها علة لا يلبث أن يجدها بحق يلزمهم وأمر يجب عليهم فتستلحمهم الجيوش وتأكلهم السيوف ويستحر فيهم القتل ويحيط بهم الأسر ويفنيهم التتبع حتى يخرب البلاد ويوتم الأولاد‏.‏ وناحية لا يبسط لهم أماناً ولا يقبل لهم عهداً ولا يجعل لهم ذمة لأنهم أول من فتح باب الفرقة وتدرع جلباب الفتنة وربض في شق العصا‏.‏ ولكنه يقتل أعلامهم ويأسر قوادهم ويطلب هرابهم في لجج البحار وقلل الجبال وخمر الأردية وبطون الأرض تقتيلاً وتغليلاً وتنكيلاً حتى يدع الديار خراباً والنساء أيامى‏.‏ وهذا أمر لا نعرف في كتبناً وقتاً ولا نصحح منع غير ما قلنا تفسيراً‏.‏ وأما موسى ولي عهدي فهذا أوان توجهه إلى خراسان وحلوله بجرجان وما قضى الله له من الشخوص إليها والمقام فيها خير للمسلمين مغبة وله بإذن الله عاقبة من المقام بحيث يغمر في لجج بحورنا ومدافع سيولنا ومجامع أمواجنا فيتصاغر عظيم فضله ويتذأب مشرق نوره ويتقلل كثير ما هو كائن منه‏.‏ فمن يصحبه من الوزراء ومن يختار له من الناس قال محمد بن الليث‏:‏ أيها المهدي إن ولى عهدك أصبح لأمتك وأهل ملتك علماً قد تثنت نحوه أعناقها ومدت سمته أبصارها‏.‏ وقد كان لقرب داره منك ومحل جواره لك‏:‏ عطل الحال غفل الأمر واسع العذر‏.‏ فأما إذا انفرد بنفسه وخلا بنظره وصار إلى تدبيره فإن من شأن العامة وأمراء الأمة أن تتفقد مخارج رأيه وتستنصت لمواقع آثاره وتسأل عن حوادث أحواله في بره ومرحمته وإقساطه ومعدلته وتدبيره وسياسته ووزرائه وأصحابه ثم يكون ما سبق إليهم أغلب الأشياء عليهم فلا يفتأ المهدي - وفقه الله - ناظراً له فيما يقوي عمد مملكته ويسدد أركان ولايته ويستجمع رضا أمته بأمر هو أزين لحاله وأظهر لجماله وأفضل مغبة لأمره وأجل موقعاً في قلوب رعيته وأحمد حالاً في نفوس أهل ملته‏.‏ ولا أوقع مع ذلك باستجماع الأهواء له وأبلغ في استعطاف القلوب عليه من مرحمة تظهر من فعله ومعدلة تنتشر من أثره ومحبة للخير وأهله‏.‏ وإن يختار المهدي - وفقه الله - من خيار أهل كل بلدة وفقهاء أهل كل مصر أقواماً تسكن العامة إليهم إذا ذكروا وتأنس الرعية بهم إذا وصفوا ثم تسهل لهم عمارة سبل الإحسان وفتح باب المعروف كما قد كان فتح له وسهل عليه‏.‏ قال المهدي‏:‏ صدقت ونصحت‏.‏ ثم بعث في ابنه موسى فقال‏:‏ أي بني إنك قد أصبحت لسمت عيون العامة نصباً ولمثنى أعطاف الرعية غاية فحسنتك شاملة وإساءتك نامية وأمرك ظاهر‏.‏ فعليك بتقوى الله عز وجل وطاعته فاحتمل سخط الناس فيهما ولا تطلب رضاهم بخلافهما فإن الله عز وجل كافيك من أسخطه إيثارك رضاه وليس بكافيك من يسخطه عليك إيثارك رضا من سواه‏.‏ ثم اعلم أن لله تعالى في كل زمن عترة من رسله وبقايا من صفوة خلقه وخبايا لنصرة حقه يجدد حبل الإسلام بدعواهم ويشيد أركان الدين بنصرتهم ويتخذهم لأولياء دينه أنصاراً وعلى إقامة عدله أعوانا يسدون الخلل ويقيمون الميل ويدفعون عن الأرض الفساد‏.‏ وإن أهل خراسان أصبحوا أيدي دولتنا وسيوف دعوتنا الذين نستدفع المكاره بطاعتهم ونصرف نزول العظائم بمناصحتهم وندافع ريب الزمان بعزائمهم ونزاحم ركن الدهر ببصائرهم‏.‏ فهم عماد الأرض إذا أرجفت كنفها وحتوف الأعداء إذا برزت صفحتها وحصون الرعية إذا تضايقت الحال بها‏.‏ قد مضت لهم وقائع صادقات ومواطن صالحات أخمدت نيران الفتن وقصمت