قال‏:‏ وانصرف عبد الملك ونحن نعجب من إقدامه على قضاء الحوائج من غير استئذان أمير المؤمنين‏.‏ فلما كان من الغد وقفنا على باب الرشيد ودخل جعفر فلم نلبث أن دعي بأبي يوسف القاضي ومحمد بن الحسن وإبراهيم بن عبد الملك فعقد النكاح وحملت البدر إلى منزل عبد الملك وكتب سجل إبراهيم على مصر‏.‏ وخرج جعفر فأشار إلينا‏.‏ فلما صار إلى منزله ونحن خلفه نزل ونزلنا بنزوله‏.‏ فالتفت إلينا فقال‏:‏ تعلقت قلوبكم بأول أمر عبد الملك فأحببتم معرفة آخره وإني لما دخلت على أمير المؤمنين ومثلت بين يديه ابتدأت القصة من أولها كما كانت فجعل يقول‏:‏ أحسن والله‏!‏ أحسن والله‏!‏ فما صنعت فأخبرته بما سأله وبما أجبته به‏.‏ فجعل يقول في ذلك‏:‏ أحسنت أحسنت‏!‏ وخرج إبراهيم والياً على مصر‏.‏ قدم رجل على ملك من ملوك الأكاسرة فمكث ببابه حيناً لا يصل إليه فتلطف في رقعة أوصلها إليه وفيها أربعة أسطر‏:‏ في السطر الأول‏:‏ الضر والأمل أقدماني عليك‏.‏ والسطر الثاني‏:‏ الفقر لا يكون معه صبر على المطالبة‏.‏ السطر الثالث‏:‏ الانصراف بلا فائدة فتنة وشماتة للعدو‏.‏ والسطر الرابع‏:‏ فإما نعم مثمرة وإما لا مريحة‏.‏ فلما قرأها وقع تحت كل سطر منها بألف مثقال وأمر له بها‏.‏ ودخل رجل من الشعراء على يحيى بن خالد بن برمك فأنشده‏:‏ فقلت شراء قال لا بل وراثة توارثني عن والد بعد والد فأمر له بعشر آلاف‏.‏ ودخل أعرابي على خالد بن عبد الله القسري فأنشده‏:‏ أخالد إن لم أزرك لخلة سوى أنني عاف وأنت جواد أخالد بين الحمد والأجر حاجتي فأيهما تأتي فأنت عماد فأمر له بخمسة آلاف درهم‏.‏ ومن قولنا في هذا المعنى‏.‏ ودخلت على أبي العباس القائد فأنشدته‏:‏ الله جرد للندى والباس سيفاً فقلده أبا العباس ملك إذا استقبلت غرة وجهه قبض الرجاء إليك روح إلياس وجه عليه من الحياء سكينة ومحبة تجري مع الأنفاس وإذا أحب الله يوماً عبده ألقى عليه محبة للناس ثم سألته حاجة فيها بعض الغلظ‏.‏ فتلكأ فيها علي فأخذت سحاية من بين يديه فوقعت فيها على البديهة‏:‏ ما ضر عندك حاجتي ما ضرها عذراً إذا أعطيت نفسك قدرها حاشى لجودك أن يوعر حاجتي ثقتي سهلت لي وعرها لا يجتني حلو المحامد ماجد حتى يذوق من المطالب مرها فقضى الحاجة وسارع إليها‏.‏ وأبطأ عبد الله بن يحيى عن الديوان فأرسل إليه المتوكل يتعرف خبره فكتب إليه‏:‏ عليل من مكانين من الإفلاس والدين ففي هذين لي شغل وحسبي شغل هذين فبعث إليه بألف دينار‏.‏ عبد الله بن منصور قال‏:‏ كنت يوماً في مجلس الفضل بن يحيى‏.‏ فأتاه الحاجب فقال‏:‏ إن بالباب رجلاً قد أكثر في طلب الإذن وزعم أن له يداً يمت بها‏.‏ فقال‏:‏ أدخله‏.‏ فدخل رجل جميل الوجه رث الهيئة‏.‏ فسلم فأحسن‏.‏ فأومأ إليه بالجلوس فجلس‏.‏ فلما علم أنه قد انطلق وأمكنه الكلام قال له‏:‏ ما حاجتك قال له‏:‏ قد أعربت بها رثاثة هيئتي وضعف طاقتي‏.‏ قال‏:‏ أجل فما الذي تمت به قال‏:‏ ولادة تقرب من ولادتك وجوار يدنو من جوارك واسم مشتق من اسمك‏.‏ قال‏:‏ أما الجوار فقد يمكن أن يكون كما قلت وقد يوافق الاسم الاسم ولكن ما علمك بالولادة قال‏:‏ أعلمتني أمي أنها لما وضعتني قيل‏:‏ إنه ولد الليلة ليحيى بن خالد غلام وسمي الفضل فسمتني فضيلاً إعظاماً لاسمك أن تلحقني به‏.‏ فتبسم الفضل وقال‏:‏ كم أتى عليك من السنين قال‏:‏ خمس وثلاثون سنة‏.‏ قال‏:‏ صدقت هذا المقدار الذي أتيت عليه فما فعلت أمك قال‏:‏ توفيت رحمها الله‏.‏ قال‏:‏ فما منعك من اللحوق بنا فيما مضى قال‏:‏ لم ارض نفسي للقائك لأنها كانت في عامية وحداثة تقعدني عن لقاء الملوك‏.‏ قال‏:‏ يا غلام أعطه لكل عام مضى من سنيه ألفاً وأعطه من كسوتنا ومراكبنا ما يصلح له‏.‏ فلم يخرج من الدار إلا وقد طاف به إخوانه وخاصة أهله‏.‏ وكتب حبيب بن أوس الطائي إلى أحمد بن أبي داود‏:‏ اعلم وأنت المرء غير معلم