كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان وأبى حارثة والرّبيع، قالوا: وخرج عمر وخلف عليّا في المدينة، وخرج معه الصحابة وأغذّوا السير واتّخذ أيلة طريقا؛ حتى إذا دنى منها تنحّى عن الطريق، واتّبعه غلامه، فنزل فبال، ثم عاد فركب بعير غلامه، وعلى رحله فروة مقلوب، وأعطى غلامه مركبه، فلمّا تلقّاه أوائل الناس، قالوا: أين أمير المؤمنين؟ قال: أمامكم - يعنى نفسه - وذهبوا هم إلى أمامهم، فجاوزه حتى انتهى هو إلى أيلة فنزلها وقيل للمتلقّين: دخل أمير المؤمنين أيلة ونزلها. فرجعوا إليه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، قال: لما قدم عمر بن الخطاب أيلة، ومعه المهاجرون والأنصار دفع قميصا له كرابيس قد انجاب مؤخّره عن قعدته من طول السير إلى الأسقفّ، وقال: اغسل هذا وارقعه، فانطلق الأسقفّ بالقميص، ورقعه، وخاط له آخر مثله، فراح به إلى عمر، فقال: ما هذا؟ قال الأسقفّ: أمّا هذا فقميصك قد غسلته ورقعته، وأما هذا فكسوة لك منّي. فنظر إليه عمر ومسحه، ثم لبس قميصه، وردّ عليه ذلك القميص، وقال: هذا أنشفهما العرق.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطيّة وهلال، عن رافع بن عمر، قال: سمعت العباس بالجابية يقول لعمر: أربع من عمل بهنّ استوجب العدل: الأمانة في المال، والتسوية في القسم، والوفاء بالعدة، والخروج من العيوب؛ نظّف نفسك وأهلك.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان والربيع وأبي حارثة بإسنادهم، قالوا: قسم عمر الأرزاق، وسمّى الشواتي والصوائف، وسدّ فروج الشأم ومسالحها، وأخذ يدور بها، وسمّى ذلك في كلّ كورة، واستعمل عبد الله بن قيس على السواحل من كلّ كورة، وعزل شرحبيل، واستعمل معاوية، وأمّر أبا عبيدة وخالدا تحته، فقال له شرحبيل: أعن سخطة عزلتني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، إنك لكما أحبّ ولكني أريد رجلا أقوى من رجل، قال: نعم، فاعزرني في الناس لا تدركني هجنة، فقام في الناس، فقال: أيّها الناس، إني والله ما عزلت شرحبيل عن سخطة، ولكني أردت رجلا أقوى من رجل. وأمّر عمرو بن عبسة على الأهراء، وسمى كلّ شئ، ثم قام في الناس بالوداع.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي ضمرة وأبي عمرو، عن المستورد، عن عدي بن سهيل، قال: لما فرغ عمر من فروجه وأموره قسم المواريث، فورّث بعض الورثة من بعض، ثم أخرجها إلى الأحياء من ورثة كلّ امرئ منهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي: وخرج الحارث بن هشام في سبعين من أهل بيته، فلم يرجع منهم إلا أربعة، فقال المهاجر بن خالد بن الوليد:
من يسكن الشأم يعرّس به ** والشأم إن لم يفننا كارب
أفنى بنى ريطة فرسانهم ** عشرون لم يقصص لهم شارب
ومن بني أعمامهم مثلهم ** لمثل هذا أعجب العاجب
طعنا وطاعونا مناياهم ** ذلك ما خطّ لنا الكاتب
قال: وقفل عمر من الشأم إلى المدينة في ذي الحجة، وخطب حين أراد القفول، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ألا أني قد ولّيت عليكم وقضيت الذي علي في الذي ولّاني الله من أمركم، إن شاء الله قسطنا بينكم فيئكم ومنازلكم ومغازيكم، وأبلغنا ما لديكم، فجنّدنا لكم الجنود، وهيّأنا لكم الفروج، وبوّأناكم ووسّعنا عليكم ما بلغ فيئكم وما قاتلتم عليه من شأمكم، وسمّينا لكم أطماعكم، وأمرنا لكم بأعطياتكم، وأرزاقكم ومغانمكم فمن علم شئ ينبغي العمل به فبلّغنا نعمل به إن شاء الله، ولا قوّة إلّا بالله. وحضرت الصلاة، وقال الناس: لو أمرت بلالًا فأذّن! فأره فأذّن، فما بقي أحد كان أدرك رسول الله وبلال يؤذّن له إلّا بكى حتى بلّ لحيته، وعمر أشدّهم بكاء، وبكى من لم يدركه ببكائهم، ولذكره .
ذكر خبر عزل خالد بن الوليد

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان وأبى حارثة، قالا: فمازال خالد على قنّسرين حتى غزا غوته التي أصاب فيها، وقسم فيها ما أصاب لنفسه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي المجالد مثله. قالوا: وبلغ عمر أنّ خالدا دخل الحمام، فتدلّك بعد النورة بثخين عصفر معجون بخمر؛ فكتب إليه: بلغني أنك تدلّكت بخمر؛ وإنّ الله قد حرّم ظاهر الخمر وباطنه، كما حرّم ظاهر الإثم وباطنه، وقد حرّم مسّ الخمر إلّا أن تغسل كما حرّم شربها، فلا تمسّوها أجسادها فإنّها نجس، وإن فعلتم فلا تعودوا.
فكتب إليه خالد: إنّا قتلناها فعادت غسولا غير خمر. فكتب إليه عمر: إنّي أظن آل المغيرة قد ابتلوا بالجفاء، فلا أماتكم الله عليه! فانتهى إليه ذلك.
وفي هذه السنة - أعني سنة سبع عشرة - أدرب خالد بن الوليد وعياض بن غنم في رواية سيف عن شيوخه.
ذكر من قال ذلك
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان وأبى حارثة والمهلّب، قالوا: وأدرب سنة سبع عشرة خالد وعياض، فسارا فأصابا أموالا عظيمة، وكانا توجّها من الجابية، مرجع عمر إلى المدينة، وعلى حمص أبو عبيدة وخالد تحت يديه على قنّسرين، وعلى دمشق يزيد بن أبي سفيان، وعلى الأردنّ معاوية، وعلى فلسطين علقمة بن مجزّز، وعلى الأهراء عمرو بن عبسة، وعلى السواحل عبد الله بن قيس، وعلى كلّ عمل عامل. فقامت مسالح الشأم ومصر والعراق على ذلك إلى اليوم لم تجز أمّة إلى أخرى عملها بعد؛ إلّا أن يقتحموا عليهم بعد كفر منهم، فيقدّموا مسالحهم بعد ذلك، فاعتدل ذلك سنة سبع عشرة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي المجالد وأبى عثمان والربيع وأبى حارثة، قالوا: ولما قفل خالد وبلغ الناس ما أصابت تلك الصائبة انتجعه رجال، فانتجع خالد رجال من أهل الآفاق، فكان الأشعث بن قيس ممّن انتجع خالدا بقنّسرين، فأجازه بعشرة آلاف. وكان عمر لا يخفى عليه شئ في علمه، كتب إليه من العراق بخروج من خرج، ومن الشأم بجائزة من أجيز فيها - فدعا البريد، وكتب معه إلى أبى عبيدة أن يقيم خالدا ويعقله بعمامته، وينزع عنه قلونسوته حتى يعلمهم من أين إجازة الأشعث؛ أمن ماله أم من إصابة أصابها؟ فإن زعم أنها من إصابة أصابها فقد أقرّ بخيانة، وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف. وأعزله على كلّ حال، وأضمم إليك عمله. فكتب أبو عبيدة إلى خالد، فقدم عليه، ثم جمع الناس وجلس لهم على المنبر، فقام البريد فقال: يا خالد، أمن مالك أجزت بعشرة آلاف أم من إصابة؟ فلم يجبه حتى أكثر عليه، وأبو عبيدة ساكت لا يقول شيئا، فقام بلال إليه، فقال: إنّ أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا، ثم تناول قلنسوته فعقله بعمامته وقال: ما تقول! أمن مالك أم من إصابة؟ قال: لا بل من مالي، فأطلقه وأعاد قلنسوته ثم عمّمه بيده، ثم قال: نسمع ونطيع لولاتنا، ونفخّم ونخدم موالينا. قالوا: وأقام خالد متحيّرا لا يدري أمعزول أم غير معزول؟ وجعل أبو عبيدة لا يخبره حتى إذا طال على عمر أن يقدم ظنّ الذي قد كان. فكتب إليه بالإقبال، فأتى خالد أبا عبيدة، فقال: رحمك الله، ما أردت إلى ما صنعت! كتمتني أمرا كنت أحبّ أن أعلمه قبل اليوم! فقال أبو عبيدة: إنّي والله ما كنت لأروعك ما وجدت لذلك بداّ، وقد علمت أن ذلك يروعك. قال: فرجع خالد إلى قنّسرين، فخطب أهل علمه وودّعهم وتحمّل، ثم أقبل إلى حمص فخطبهم وودعهم، ثمّ خرج نحو المدينة حتى قدم على عمر، فشكاه وقال: لقد شكوتك إلى المسلمين؛ وبالله أنّك في أمري غير مجمل يا عمر، فقال عمر: من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسّهمان، ما زاد عن الستين ألفا فهو لك ما زاد على الستين ألفا فلك. فقوّم عمر عروضه فخرجت إليه عشرون ألفا، فأدخلها بيت المال. ثم قال: يا خالد، والله إنك علىّ لكريم، وإنك إلي لحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شئ.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن المستورد، عن أبيه، عن عدىّ بن سهيل، قال: كتب عمر إلى الأمصار: إني لم أعزل خالدا عن سخطة ولا خيانة، ولكنّ الناس فتنوا به، فخفت أن يوكّلوا إليه ويبتلوا به، فأحببت أن يعلموا أنّ الله هو الصانع، وألا يكونوا بعرض فتنة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشّر، عن سالم، قال: لما قدم خالد على عمر قال عمر متمثّلا:
صنعت فلم يصنع كصنعك صانع ** وما يصنع الأقوام فالله يصنع
فأغرمه شيئا، ثمّ عوّضه، وكتب فيه إلى الناس بهذا الكتاب ليعذره عندهم وليبصّرهم.