ذكر فتح السوس

اختلف أهل السير في أمرها؛ فأمّا المدائني فإنه - فيما حدثني عن أبو زيد - قال: لما انتهى فلّ جلولاء إلى يزدجرد وهو بحلوان، دعا بخاصّته والموبذ، فقال: إنّ القوم لا يلقون جمعا إلّا فلّوه، فما ترون؟ فقال: الموبذ: نرى أن تخرج فتنزل إصطخر؛ فإنها بيت المملكة، وتضمّ إليك خزائنك، وتوجّه الجنود. فأخذ برأيه، وسار إلى أصبهان دعا سياه، فوجّهه في ثلاثمائة، فيهم سبعون رجلا من عظمائهم، وأمره أن ينتخب من كلّ بلدة ويمرّ بها من أحبّ، فمضى سياه وأتبعه يزدجرد، حتى نزلوا إصطخر وأبو موسى محاصر السوس، فوجّه سياه إلى السوس، والهرمزان إلى تستر، فنزل سياه الكلبانيّة، وبلغ أهل السوس أمر جلولاء ونزول يزدجرد إصطخر منهزما، فسألوا أبا موسى الأشعري الصلح، فصالحهم، وسار إلى رامهرمز وسياه بالكلبانيّة، وقد عظم أمر المسلمين عنده، فلم يزل مقيما حتى صار أبو موسى إلى تستر، فتحوّل سياه، فنزل بين رامهرمز وتستر، حتى قدم عمّار بن ياسر، فدعا سياه الرؤساء الذين كانوا خرجوا معه من أصبهان؛ فقال: قد علمتم أنا كنا نتحدث أنّ هؤلاء القوم أهل الشقاء والبؤس سيغلبون على هذه المملكة، وتروث دوابّهم في إيوانات إصطخر ومصانع الملوك، ويشدّون خيولهم بشجرها، وقد غلبوا على ما رأيتم، وليس يلقون جندا إلّا فلّوه، ولا ينزلون بحصن إلّا فتحوه، فانظروا لأنفسكم. قالوا: رأينا رأيك، قال: فليكفني كلّ رجل منكم حشمه والمنقطعين إليه، فإني أرى أن ندخل في دينهم. ووجّهوا شيرويه في عشرة من الأساورة إلى أبي موسى يأخذ شروطا على أن يدخلوا في الإسلام. فقدم شيرويه على أبي موسى، فقال: إنّا قد رغبنا في دينكم، فنسلم على أن نقاتل معكم العجم، ولا نقاتل معكم العرب؛ وإن قاتلنا أحد من العرب منعتمونا منه، وننزل حيث شئنا، ونكون فيمن شئنا منكم، وتلحقونا بأشراف العطاء، ويعقد لنا الأمير الذي هو فوقك بذلك. فقال أبو موسى: بل لكم ما لنا، وعليكم ما علينا، قالوا: لا نرضى.
وكتب أبو موسى إلى عمر بن الخطاب، فكتب إلى أبى موسى: أعطهم ما سألوك. فكتب أبو موسى لهم، فأسلموا، وشهدوا معه حصار تستر؛ فلم يكن أبو موسى يرى منهم جدّا ولا نكاية، فقال لسياه: يا أعور، ما أنت وأصحابك كما كنّا نرى! قال: لسنا مثلكم في هذا الدين ولا بصائرنا كبصائركم، وليس لنا فيكم حرم نحامى عنهم، ولم تلحقنا بأشراف العطاء ولنا سلاح وكراع وأنتم حّسر. فكتب أبو موسى إلى عمر في ذلك، فكتب إليه عمر: أن ألحقهم على قدر البلاء في أفضل العطاء وأكثر شئ أخذه أحد من العرب. ففرض لمائة منهم في ألفين ألفين، ولستّة منهم في ألفين، وخمسمائة لسياه وخسرو - ولقبه مقلاص - وشهريار، وشهرويه، وأفروذين.
فقال الشاعر:
ولمّا رأى الفاروق حسن بلائهم ** وكان بما يأتي من الأمر أبصرا
فسنّ لهم ألفين فرضا وقد رأى ** ثلاثمئين فرض عكّ وحميرا
قال: فحاصروا حصنا بفارس، فانسلّ سياه في آخر الليل في زي العجم حتى رمى بنفسه إلى جنب الحصن، وتضح ثيابه بالدّم، وأصبح أهل الحصن، فرأوا رجلا في زيّهم صريعا، فظنّوا أنه رجل منهم أصيبوا به، ففتحوا باب الحصن ليدخلوه، فثار وقاتلهم حتى خلّوا عن باب الحصن وهربوا، ففتح الحصن وحده، ودخله المسلمون، وقوم يقولون: فعل هذا الفعل سياه بتستر، وحاصروا حصنا، فمضى خسرو إلى الحصن، فأشرف عليه رجل منهم يكلّمه، فرماه خسرو بنشّابة فقتله.
وأما سيف فإنه قال في روايته ما كتب به إلىّ السري، عن شعيب، عنه، عن محمد وطلحة وعمرو ودثار أبى عمر، عن أبي عثمان، قالوا: لما نزل أبو سبرة في الناس على السوس، وأحاط المسلمون بها، وعليهم شهريار أخو الهرمزان، ناوشوهم مرّات؛ كلّ ذلك يصيب أهل السوس في المسلمين، فأشرف عليهم يوما الرهبان والقسّيسون، فقالوا: يا معشر العرب، إنّ مما عهد إلينا علماؤنا وأوائلنا؛ أنه لا يفتح السوس إلّا الدجال أو قوم فيهم الدجال، فإن كان الدجال فيكم فستفتحونها، وإن لم يكن فيكم فلا تعنوا بحصارنا. وجاء صرف أبى موسى إلى البصرة، وعمّل على أهل البصرة المقترب مكان أبى موسى بالسّوس، واجتمع الأعاجم بنهاوند والنعمان على أهل الكوفة محاصرا لأهل السوس مع أبى سبرة، وزرّ محاصر أهل نهاوند من وجهه ذلك؛ وضرب على أهل الكوفة البعث مع حذيفة، وأمرهم بموافاته بنهاوند؛ وأقبل النعمان على التهيؤ للسير إلى نهاوند، ثمّ استقلّ في نفسه، فناوشهم قبل مضيّه، فعاد الرهبان والقسّيسون، وأشرفوا على المسلمين، وقاولوا: يا معشر العرب، لا تعنوا فإنه لا يفتحها إلّا الدجال أو قوم معهم الدجال، وصاحوا بالمسلمين وغاظوهم، وصاف بن صيّاد يومئذ مع النعمان في خيله، وناهدهم المسلمون جميعا، وقالوا: نقاتلهم قبل أن نفترق؛ ولمّا يخرج أبو موسى بعد. وأتى صاف باب السوس غضبان، فدقّه برجله، وقال انفتح فطار فتقطّعت السلاسل، وتكسّرت الأغلاق، وتفتّحت الأبواب، ودخل المسلمون، فألقى المشركون بأيديهم، وتنادوا: الصلح الصلح! وأمسكوا بأيديهم، فأجابوهم إلى ذلك بعد ما دخلوها عنوة، واقتسموا ما أصابوا قبل الصلح؛ ثم افترقوا. فخرج النعمان في أهل الكوفة من الأهواز حتى نزل على ماه، وسرّح أبو سبرة المقترب حتى ينزل على جندى سابور مع زرّ، فأقام النعمان بعد دخول ماه، حتى وافاه أهل الكوفة، ثم نهد بهم إلى أهل نهاوند، فلما كان الفتح رجع صاف إلى المدينة، فأقام بها، ومات بالمدينة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطيّة، عمّن أورد فتح السوس، قال: وقيل لأبى سبرة: هذا جسد دانيال في هذه المدينة، قال: ومالنا بذلك! فأقرّه بأيديهم - قال عطيّة بإسناده: إنّ دانيال كان لزم أسياف فارس بعد بختنصّر؛ فلمّا حضرته الوفاة، ولم ير أحدا ممن هو بين ظهريهم على الإسلام؛ أكرم كتاب الله عمّن لم يجبه ولم يقبل منه، فأودعه ربّه، فقال لابنه: ائت ساحل البحر، فاقذف بهذا الكتاب فيه، فأخذه الغلام، وضنّ به، وغاب مقدار ما كان ذاهبا وجائيا؛ وقال: قد فعلت، قال: فما صنع البحر حين هوى فيه؟ قال: لم أره يصنع شيئا، فغضب وقال: والله ما فعلت الذي أمرتك به. فخرج من عنده، ففعل مثل فعلته الأولى، ثم أتاه فقال: قد فعلت، فقال: كيف رأيت البحر حين هوى فيه؟ قال: ماج واصطفق، فغضب أشدّ من غضبه الأوّل، وقال: والله ما فعلت الذي أمرتك به بعد، فعزم ابنه على إلقائه في البحر الثالثة، فانطلق إلى ساحل البحر، وألقاه فيه، فانكشف البحر عن الأرض حتى بدت، وانفجرت له الأرض عن هواء من نور، فهوى في ذلك النور، ثم انطبقت عليه الأرض، واختلط الماء، فلما رجع إليه الثالثة سأله فأخبره الخبر، فقال: الآن صدقت. ومات دانيال بالسّوس؛ فكان هنالك يستسقى بجسده، فلما افتتحها المسلمون أتوا به فأقرّوه في أيديهم، حتى إذا ولّى أبو سبرة عنهم إلى جندى سابور أقام أبو موسى بالسّوس. وكتب إلى عمر فيه؛ فكتب إليه يأمره بتوريته، فكفّنه ودفنه المسلمون. وكتب أبو موسى إلى عمر بأنه كان عليه خاتم وهو عندنا، فكتب إليه أن تختّمه، وفي فصّه نقش رجل بين أسدين.
ذكر مصالحة المسلمين أهل جندي سابور

وفيها - أعني سنة سبع عشرة - كانت مصالحة المسلمين أهلَ جُنْدَيْ سابور.
ذكر الخبر عن أمرهم وأمرها
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبى عمرو وأبى سفيان والمهلّب، قالوا: لما فرغ أبو سبرة من السوس خرج في جنده حتى نزل على جندى سابور، وزرّ بن عبد الله بن كليب محاصرهم؛ فأقاموا عليها يغادنهم ويراوحونهم القتال؛ فما زالوا مقيمين عليها حتى رمى إليهم بالأمان من عسكر المسلمين، وكان فتحها وفتح نهاوند في مقدار شهرين، فلم يفجأ المسلمين إلّا وأبوابها تفتح، ثمّ خرج السرح، وخرجت الأسواق، وانبثّ أهلها، فأرسل المسلمون: أن مالكم؟ قالوا: رميتم إلينا بالأمان فقبلناه، وأقررنا لكم بالجزاء على أن تمتعونا. فقالوا: ما فعلنا، فقالوا: ما كذبنا، فسأل المسلمون فيما بينهم؛ فإذا عبد يدعى مكنفا كان أصله منها؛ هو الذي كتب لهم. فقالوا: إنما هو عبد، فقالوا: إنا لا نعرف حرّكم من عبدكم، قد جاء أمان فنحن عليه قد قبلناه، ولم نبدّل؛ فإن شئتم فاغذروا. فأمسكوا عنهم، وكتبوا بذلك إلى عمر، فكتب إليهم: إنّ الله عظّم الوفاء، فلا تكونون أوفياء حتى تفوا، ما دمتم في شكّ أجيزوهم، وفوا لهم. فوفوا لهم، وانصرفوا عنهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: أذن عمر في الانسياج سنة سبع عشرة في بلاد فارس، وانتهى في ذلك إلى رأي الأحنف بن قيس، وعرف فضله وصدقه، وفرّق الأمراء والجنود، وأمّر على أهل البصرة أمراء؛ وأمّر على أهل الكوفة أمراء، وأمّر هؤلاء وهؤلاء بأمره، وأذن لهم في الانسياح سنة سبع عشرة، فساحوا في سنة ثمان عشرة، وأمر أبا موسى أن يسير من البصرة إلى منقطع ذمّة البصرة؛ فيكون هنالك حتى يحدث إليه؛ وبعث بألوية من ولى مع سهيل بن عدىّ حليف بنى عبد الأشهل، فقدم سهيل بالألوية، ودفع لواء خراسان إلى الأحنف ابن قيس، ولواء أردشيرخرّه وسابور إلى مجاشع بن مسعود السلمى، ولواء إصطخر إلى عثمان بن أبي العاص الثقفي، ولواء فسا ودرابجرد إلى سارية بن زنيم الكناني، ولواء كرمان مع سهيل بن عدىّ، ولواء سجستان إلى عاصم ابن عمرو - وكان عاصم من الصحابة - ولواء مكران إلى الحكم بن عمير الغلبي. فخرجوا في سنة سبع عشرة، فعسكروا ليخرجوا إلى هذه الكور فلم يستتب مسيرهم، حتى دخلت سنة ثمان عشرة، وأمدّهم عمر بأهل الكوفة؛ فأمدّ سهيل بن عدىّ بعبد الله بن عبد الله بن عتبان، وأمدّ الأحنف بعلقمة ابن النضر، وبعبد الله بن أبي عقيل، وبربعىّ بن عامر، وبابن أمّ غزال. وأمدّ عاصم بن عمرو بعبد الله بن عمير الأشجعي، وأمدّ الحكم بن عمير بشهاب بن المخارق المازني. قال بعضهم: كان فتح السوس ورامهرمز وتوجيه الهرمزان إلى عمر من تستر في سنة عشرين.
أخبار متفرقة
وحجّ بالناس في هذه السنة - أعني سنة سبع عشرة - عمر بن الخطاب؛ وكان عامله على مكة عتّاب بن أسيد، وعلى اليمن يعلى بن أميّة، وعلى اليمامة والبحرين عثمان بن أبي العاص وعلى عمان حذيفة بن محصن، وعلى الشام من قد ذكرت أسماءهم قبل، وعلى الكوفة وأرضها سعد بن أبي وقّاص، وعلى قضائها أبو قرّة، وعلى البصرة وأرضها أبو موسى الأشعري - وقد ذكرت فيما مضى الوقت الذي عزل فيه عنها، والوقت الذي ردّ فيه إليها أميرا. وعلى القضاء - فيما قيل - أبو مريم الحنفي. وقد ذكرت من كان على الجزيرة والموصل قبل.