رجع الحديث إلى حديث سيف. وكتب -يعني عمر- إلى عبد الله بن عبد الله مع ربعي بن عامر، أن استنفر من أهل الكوفة مع النعمان كذا وكذا، فإني قد كتبت إليه بالتوجه من الأهواز إلى ماه، فليوافوه بها، وليسر بهم إلى نهاوند، وقد أمّرت عليهم حذيفة بن اليمان، حتى ينتهي إلى النعمان بن مقرن، وقد كتبت إلى النعمان: إن حدث بك حدث فعلى الناس حذيفة بن اليمان، فإن حدث لحذيفة حدث فعلى الناس نُعيم بن مقرن، ورُدَّ قريب بن ظفر ورد معه السائب بن الأقرع أمينا. وقال: إن فتح الله عليكم فاقسم ما أفاء الله عليهم بينهم، ولا تخدعني ولا ترفع إلي باطلا، وإن نكب القوم فلا تراني ولا أراك. فقدما إلى الكوفة بكتاب عمر بالاستحثاث، وكان أسرع أهل الكوفة إلى ذلك الروادف، ليبلوا في الدين، وليدركوا حظا، وخرج حذيفة بن اليمان بالناس ومعه نعيم حتى قدموا على النعمان بالطزر، وجعلوا بمرج القلعة خيلا عليها النُّسَير. وقد كتب عمر إلى سُلمى بن القيْن وحَرْملة بن مُريطة وزر بن كليب والمقترب الأسود بن ربيعة، وقواد فارس الذين كانوا بين فارس والأهواز، أن اشغلوا فارس عن إخوانكم، وحوطوا بذلك أمتكم وأرضكم، وأقيموا على حدود ما بين فارس والأهواز حتى يأتيكم أمري. وبعث مجاشع بن مسعود السُّلَمي إلى الأهواز، وقال له: انصُل منها على ماه، فخرج حتى إذا كان بغُضَى شجر، أمره النعمان أن يقيم مكانه، فأقام بين غضى شجر ومَرْج القلعة، ونَصَل سُلْمى وحرملة وزر والمقترب، فكانوا في تخوم إصبهان وفارس، فقطعوا بذلك عن أهل نِهاوند أمداد فارس.
ولما قدم أهل الكوفة على النعمان بالطزر جاءه كتاب عمر مع قريب: إن معك حدَّ العرب ورجالهم في الجاهلية، فأدخلهم دون من هو دونهم في العلم بالحرب، واستعن بهم، واشرب برأيهم، وسلْ طليحة وعَمرا وعَمرا ولا تولهم شيئا. فبعث من الطزر طليعة وعمرا وعمرا طليعة ليأتوه بالخبر، وتقدم إليهم ألا يَغِلُوا. فخرج طليحة بن خويلد وعمرو بن أبي سلمى العنزي وعمرو بن معديكرب الزبيدي، فلما ساروا يوما إلى الليل رجع عمرو بن أبي سلمى، فقالوا: ما رجعك؟ قال: كنت في أرض العجم، وقتلتْ أرضٌ جاهلها، وقتل أرضا عالمُها. ومضى طليحة وعمرو حتى إذا كان من آخر الليل رجع عمرو، فقالوا: ما رجعك؟ قال: سرنا يوما وليلة، ولم نر شيئا، وخفت أن يؤخذ علينا الطريق. ونفذ طليحة ولم يحفل بهما. فقال الناس: ارتد الثانية، ومضى طُليحة حتى انتهى إلى نهاوند، وبين الطزر ونهاوند بضعة وعشرون فرسخا. فعلم علمَ القوم، واطلع على الأخبار، ثم رجع حتى إذا انتهى إلى الجمهور كبر الناس، فقال: ما شأن الناس؟ فأخبروه بالذي خافوا عليه، فقال: والله لو لم يكن دين إلا العربية ما كنت لأُجزِر العجم الطماطم هذه العرب العاربة. فأتى النعمان فدخل عليه، فأخبروه الخبر، وأعلمه أنه ليس بينه وبين نهاوند شيء يكرهه، ولا أحد. فنادى عند ذلك النعمان بالرحيل، فأمرهم بالتعبية. وبعث إلى مجاشع بن مسعود أن يسوق الناس، وسار النعمان على تعبيته، وعلى مقدمته نُعيم بن مقرن، وعلى مجنبتيه حذيفة بن اليمان وسويد بن مقرن، وعلى المجرَّدة القعقاع بن عمرو، وعلى الساقة مجاشع، وقد توافى إليه أمداد المدينة، فيهم الغيرة وعبد الله، فانتهوا إلى الإسبيذَهان والقوم وقوف دون واي خُرْد على تعبيتهم وأميرهم الفيرزان، وعلى مجنبتيه الزردُق وبَهْمن جاذَوَيه الذي جعل مكان ذي الحاجب، وقد توافى إليهم بنهاوند كل من غاب عن القادسية والأيام من أهل الثغور وأمرائها، وأعلام من أعلامهم ليسوا بدون من شهد الأيام والقوادس، وعلى خيولهم أنوشق. فلما رآهم النعمان كبّر وكبر الناس معه، فتزلزلت الأعاجم، فأمر النعمان وهو واقف بحط الأثقال، وبضرب الفسطاط، فضُرب وهو واقف، فابتدره أشراف أهل الكوفة وأعيانهم، فسبق إليه يومئذ عدة من أشراف أهل الكوفة، تسابقوا فبنوا له فسطاطا سابقوا أكفاءهم فسبقوهم، وهم أربعة عشر، منهم حذيفة بن اليمان، وعقبة بن عمرو، والمغيرة بن شعبة، وبشير بن الخصاصية، وحنظلة الكاتب بن الربيع، وابن الهوْبر، ورِبعي بن عامر، وعامر بن مطر، وجرير بن عبد الله الحميري، والأقرع بن عبد الله الحميري، وجرير بن عبد الله البجلي، والأشعث بن قيس الكندي، وسعيد بن قيس الهمذاني، ووائل بن حجر، فلم ير بناء فسطاط بالعراق كهؤلاء، وأنشب النعمان بعدما حط من الأثقال القتال، فاقتتلوا يوم الأربعاء ويوم الخميس، والحرب بينهم في ذاك سجال في سبع سنين من إمارة عمر، في سنة تسع عشرة، وإنهم انجحروا في خنادقهم يوم الجمعة، وحصرهم المسلمين، فأقاموا عليهم ما شاء الله والأعاجم بالخيار، لا يخرجون إلا إذا أرادوا الخروج، فاشتد ذلك على المسلمين، وخافوا أن يطول أمرهم، وسرّهم أن يناجزهم عدوهم، حتى إذا كان ذات يوم في جمعة من الجمع تجمع أهل الرأي من المسلمين، فتكلموا، وقالوا: نراهم علينا بالخيار. وأتوا النعمان في ذلك فأخبروه، فوافقوه وهو يُروّي في الذي رَوَّوا فيه. فقال: على رسلكم، لا تبرحوا! وبعث إلى من بقي من أهل النجدات والرأي في الحروب، فتوافوا إليه، فتكلم النعمان ففال: قد ترون المشركين واعتصامهم بالحصون من الخنادق والمدائن، وأنهم لا يخرجون إلا إذا شاءوا، ولا يقدر المسلمون على إنغاضهم وانبعاثهم قبل مشيئتهم، وقد ترون الذي فيه المسلمون من التضايق بالذي هم فيه وعليه من الخيار عليهم في الخروج، فما الرأي الذي به نُحمشهم ونستخرجهم إلى المنابذة وترك التطويل؟
فتكلم عمرو بن ثُبي-وكان أكبر الناس يومئذ سنا، وكانوا إنما يتكلمون على الأسنان- فقال: التحصن عليهم أشد من المطاولة عليكم، فدعهم ولا تحرِجهم وطاولهم، وقاتل من أتاك منهم، فردوا عليه جميعا رأيه. وقالوا: إنا على يقين من إنجاز ربنا موعده لنا.
وتكلم عمرو بن معديكرب، فقال: ناهدهم وكاثرهم ولا تَخَفْهم. فردوا عليه جميعا رأيه وقالوا: إنما تناطح بنا الجدران، والجدران لهم أعوان علينا.
وتكلم طليحة فقال: قد قالا ولم يصيبا ما أرادا، وأما أنا فأرى أن تبعث خيلا مؤدية، فيحدقوا بهم، ثم يرموا لينشبوا القتال، ويحمشوهم، فإذا استحمشوا واختلطوا بهم وأرادوا الخروج أرزوا إلينا استطرادا، فإنا لم نستطرد لهم في طول ما قاتلانهم، وإنا إذا فعلنا ذلك ورأوا ذلك منها طمعوا في هزيمتنا ولم يشكوا فيها، فخرجوا فجادونا وجاددناهم، حتى يقضي الله فيهم وفينا ما أحب.
فأمر النعمان القعقاع بن عمرو -وكان على المجردة- ففعل، وأنشب القتال بعد احتجاز من العجم، فأنغضهم فلما خرجوا نكص، ثم نكص، ثم نكص، واغتنمها الأعاجم، ففعلوا كما ظن طليحة وقالوا: هي هي، فخرجوا فلم يبق أحد إلا من يقوم لهم على الأبواب، وجعلوا يركبونهم حتى أرَز القعقاع إلى الناس، وانقطع القوم عن حصنهم بعض الانقطاع، والنعمان بن مقرن والمسلمون على تعبيرهم في يوم جمعة في صدر النهار، وقد عهد النعمان إلى الناس عهده، وأمرهم أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوهم حتى يأذن لهم، ففعلوا واستتروا بالجحف من الرمي، وأقبل المشركون عليهم يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراحات، وشكا بعض الناس ذلك إلى بعض، ثم قالوا للنعمان: ألا ترى ما نحن فيه! ألا ترى ما لقي الناس، فما تنتطر بهم! ائذن للناس في قتالهم، فقال لهم النعمان: رويدا رويدا! قالوا له ذلك مرارا، فأجابهم بمئل ذلك مرارا: رويدا رويدا، فقال المغيرة: لو أن هذا الأمر إلي علمت ما أصنع! فقال: رويدا ترى أمرك، وقد كنت تلي الأمر فتحسن، فلا يخذلنا الله ولا إياك، ونحن نرجو في المكث الذي ترجو في الحثّ. وجعل النعمان ينتظر بالقتال إكمال ساعات كانت أحب إلى رسول اللهفي القتال أن يلقى فيها العدو، وذلك عند الزوال وتفيؤ الأفياء ومهب الرياح. فلما كان قريبا من تلك الساعة تحشحش النعمان، وسار في الناس على بِرذون أحوى قريب من الأرض، فجعل يقف على كل راية ويحمد الله ويثني عليه، ويقول: قد علمتم ما أعزكم الله به من هذا الدين، وما وعدكم من الظهور، وقد أنجز لكم هَوادِيَ ما وعدكم وصدوره، وإنما بقي أعجازه وأكارعه، والله منجز وعده، ومتبع آخر ذلك أوله. واذكروا ما مضى إذ كنتم أذلة، وما استقبلتم من هذا الأمر وأنتم أعزة، فأنتم اليوم عباد الله حقا وأولياؤه، وقد علمتم انقطاعكم من إخوانكم من أهل الكوفة، والذي لهم في ظفركم وعزكم، والذي عليه في هزيمتكم وذلكم، وقد ترون من أنتم بإزائه من عدوكم، وما أخطرتم وما أخطروا لكم، فأما ما أخطروا لكم فهذه الرثة وما ترون من هذا السواد، وأما ما أخطرتم لهم فدينكم وبيضتكم، ولا سواء ما أخطرتم وما أخطروا، فلا يكونُنّ على دنياهم أحمى منكم على دينكم، واتقى الله عبدٌ صدق الله وأبلى نفسه فأحسن البلاء، فإنكم بين خيرين منتظرين، إحدى الحسنيين، من بين شهيد حي مرزوق، أو فتح قريب وظفر يسير. فكفى كل رجل ما يليه، ولم يكل قِرنه إلى أخيه، فيجتمع عليه قرنه وقرن نفسه، وذلك من الملأمة، وقد يقاتل الكلب عن صاحبه، فكل رجل منكم مسلط على ما يليه، فإذا قضيت أمري فاستعدوا، فإني مكبر ثلاثا، فإذا كبرت التكبيرة الأولى فليتهيأ من لم يكن تهيأ، فإذا كبرت الثانية فليشد عليه سلاحه، وليتأهب للنهوض، فإذا كبرت الثالثة، فإني حامل إن شاء الله فاحملوا معًا. اللهم أعز دينك، وانصر عبادك، واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك!
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 7 (0 من الأعضاء و 7 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)