صلَّى صيب ثلاثًا ثمَّ أسلها ** على ابن عفان ملكًا غير مقصور
خلافة من أبي بكر لصاحبه ** كانوا أخلَّاء مهدي ومأمور
وكان المسور بن مخرمة يقول: ما رأيت رجلًا بذّ قومًا فيما دخلوا فيه بأشدّ مما بذّهم عبد الرحمن بن عوف.
قال أبو جعفر: وأما المسور بن مخرمة، فإنّ الرواية عندنا عنه ما حدثني سلم بن جنادة أبو السائب، قال: حدثنا سليمان بن عبد العزيز ابن أبي ثابت بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، قال: حدثنا أبي، عن عبد الله بن جعفر، عن أبيه، عن السمور بن مخرمة - وكانت أمه عاتكة ابنة عوف - في الخبر الذي قد مضى ذكري أوله في مقتل عمر بن الخطّاب؛ قال: ونزل في قبيره - يعني في قبر عمر - الخمسة، يعني أهل الشورى. قال: ثم خرجوا بريدون بيوتهم؛ فناداهم عبد الرحمن: إلى أين؟ هلمّوا! فتبعوه، وخرج حتى دخل بيت فاطمة ابنة قيس الفهريّة، أخت الضحّاح بن قيس الفهري - قال بعض أهل العلم: بل كانت زوجته؛ وكانت نجودًا، يريد ذات رأي - قال: فبدأ عبد الرحمن بالكلام فقال: يا هؤلاء؛ إنّ عندي رأيًَّا؛ وإنّ لكم نظرًا؛ فاسمعوا تعلّموا، وأجيبوا تفقهوا؛ فإن حابيًا خير من ذاهق؛ وإن جرعة من شروب بارد أنفع من عذب موب؛ أنتم أئمة يهتدي بكم؛ وعلماء يصدر إليكم؛ فلا تفلّوا المدى بالّاختلاف بينكم، ولا تغمدوا السيوف عن أعدائكم؛ فتوتروا ثأركم، وتؤلتوا أعمالكم؛ لكلّ أجل كتاب؛ ولكل بيت إمام بأمره يقومون، وبنهيه يرعون. قلّدوا أمركم واحدًا منكم تمشوا الهويني وتلحقوا الطلب؛ لولا فتنة عمياء، وضلالة حيراء؛ يقول أهلها ما يرون، وتحلّهم الحبو كرى. ما عدت نياتكم معرفتكم، ولا أعمالكم نياتكم. احذروا نصيحة الهوى، ولسان الفرقة؛ فإنّ مالحيلة في المنطق أبلغ من السيوف في الكلم؛ علِّقوا أمركم وحب الذراع فيما حلّ، مأمون الغيب فيما نزل، رضًا منكم وكلكم رضًّا، ومقترعًا منكم وكلّكم منتهى، لا تطيعوا مفسدًا ينتصح؛ ولاتخالفوا مرشدًا ينتصر؛ أقول قولى هذا وأستغفر الله لي ولكم.
ثم تلكم عثمان بن عفان، فقال: الحمد لله الذي اتّخذ محمّدًا نبيًّا، وبعثه رسولا، صدقه وعده، ووهب له نصره على كلّ من بعد نسبًا، أو قرب رحمًا؛ ؛ جعلنا الله له تابعين وبأمره مهتدين؛ فهو لنا نور؛ ونحن بأمره نقوم. عند تفرّق الأهواء؛ ومجادلة الأعداء؛ جعلنا الله بفضله أئمة وبطاعته أمراء، لا يخرج أمرنا منّا، ولا يدخل علينا غيرنا إلا من سفه الحقّ؛ ونكل عن القصد، وأحر بها يا بن عوف أن تترك، وأحذر بها أن تكون إن خولف أمرك وترك ودعاؤك؛ فأنا أوّل ممجيب لك، وداع إليك، وكفيل بما أقول زعيم؛ وأستغفر الله لي ولكم.
ثم تكلم الزبير بن العوام بعده، فقال: أمّا بعد؛ فإنّ داعي الله لا يجهل، ومجيبه لا يخذل، عند تفرّق الأهواء ولي الأعناق، ولن يقصّر عمّا قلت إلا غوىّ، ولن يترك ما دعوت إليه إلّا شقي، لولا حدود لله فرضت؛ وفرائض لله حدث؛ تراح على أهلها؛ وتحيا لا تموت؛ لكان الموت من الإمارة نجاة، والفرار من الولاية عصمة؛ ولكن لله علينا إجابة الدعوة، وإظهار السنّة؛ لئلا نموت ميتة عمِّية؛ ولا نعمي عمي جاهليّة؛ فأنا مجيبك إلى ما دعوت، ومعينك على ما أمرت، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأستغفر الله لي ولكم.
ثم تكلّم سعد بن أبي وقاص، فقال: الحمد لله بديئًا كان، وآخرًا يعود، أحمده لما نجّاني من الضلالة، وبصّرني من الغواية، فبهدي الله فاز من نجا، وبرحمته أفلح من زكا، وبمحمد بن عبد الله أنارت الطرق، واستقامت السبل، وظهر كلّ حق، ومات كلّ باطل؛ إياكم أيها النفر وقول الزور، وأمنيّة أهل الغرور، فقد سلبت الأمانيُّ قومًا قبلكم ورثوا ما ورثتم، ونالوا ما نلتم؛ فاتّخذهم الله عدوًّا، ولعنهم لعنًا كبيرًا.
قال الله عزّ وجل: " لمن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ". إنّي نكبت قرني فأخذت سهمي الفالج، وأخذت لطلحة بن عبيد الله ما ارتضيت لنفسي؛ فأنا به كفيل، وبما مأعطيت عنه زعيم، والأمر إليك يا بن عوف؛ بجهد النفس، وقصد النُّصح، وعلى الله قصد السبيل، وإليه الرجوع، وأستغفر الله لي ولكم؛ وأعوذ بالله من مخالفتكم.
ثم تكلّم علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فقال: الحمدُ لله الذي بعث محمدًا منّا نبيًّا، وبعثه إلينا رسولًا، فنحن بيت النبوّة، ومعدن الحكمة؛ وأمان أهل الأرض، ونجاة لمن طلب، لنا حقّ إن نعطه نأخذه؛ وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل ولو طال السري؛ لو عهد إلينا رسول الله عهدًا لأنفدنا عهده؛ ولو قال لنا قولًا لجادلنا عليه حتى نموت. لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حقّ وصلة رحم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اسمعوا كلامي، وعوا منطقي؛ عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا المجمع تنتضي فيه السيوف، وتخان فيه العهود؛ حتى تكونوا جماعة، ويكون بعضكم أئمة لأهل الضلالة، وشيعةً لأهل الجهالة، ثم أنشأ يقول:
فإن تك جاسم هلكت فإنِّي ** بما فعلت بنوعبد بن ضخم
مطيع في الهوادر كلّ عي ** بصير بالنوى من كلِّ نجم
فقال عبد الرحمن: أيكم بطيب نفسًا أن يخرج نفسه من هذا مالأمر ويولّيه غيره؟ قال: فأمسكوا عنه، قال: فإني أخرج نفسي وابن عمتي، فقلده القوم الأمر، وأحلفهم عند المنبر؛ فحلفوا ليبايعنّ من بايع، وإن بايع بإحدى يديه الأخرى. فأقام ثلاثًا في داره التي عند المسجد التي يقال لها اليوم رحبة القضاء - وبذلك سمّيت رحبة القضاء - فأقام ثلاثًا يصلِّي بالناس صهيب.
قال: وبعث عبد الرحمن إلى علي، فقال له: إن لم أبايعك فأشر علي "؛ فقال: عثمان، ثم بعث إلى عثمان، فقال: إن لم أبايعك، فمن تشير علي؟ قال: علي، ثم قال لهما: انصرفا. فدعا الزبير، فقال: إن لم أبايعك؛ فمن تشير علي، قال: عثمان، ثم دعا سعدًا، فقال: من تشيرعلي فأمّا أنا وأنت فلا نريدها، فمن تشير علي؟ قال: عثمان. فلمَّأ كانت الليلة الثالثة، قال: يا مسور، قلت: لبيّك، قال: إنك لنائم؛ والله ما اكتحلت يغماض منذ ثلاث. اذهب فادع لي عليًّا وعثمان؛ قال: قلت: يا خال، بأيّهما أبدأ؟ قال: بأيّهما شئت، قال: فخرجت فأتيت عليًّا - وكان هواي فيه - فقلت: أجب خالي، فقال: بعثك معي إلى غيري؟ قلت: نعم، قال: إلي من؟ قلت: إلى عثمان، قال: فأيّنا أمرك أن تبدأ به؟ قلت: قثد سألته فقال: بأيّهما شئت، فبدأت بك، وكان هواي فيك. قال: فخرج معي حتى أتينا المقاععد، فجلس معليها علي، ودخلت على عثمان فوجدته يوتر مع الفجر، فقلت: أجب خالي، فقال: بعثك معي إلى غيري؟ قلت: نعم، إلى علي، قال: بأيّنا أمرك أن تبدأ؟ قلت: سألته فقال: بأيّهما شئت؛ وهذا علي على المقاعد، فخرج معي حتى دخلنا جميعًا على خالي وهو في القبلة قائم يصلّي، فانصرف لمَّا رآنا، ثم التفت إلى علي وعثمان، فقال: إنّي قد سألت عنكما وعن غيركما، فلم أجد الناس يعدلون بكما؛ هل أنت علي يا علي مبايعي على كتاب الله وسنّة نبيّه وفعل أبي بكر وعمر؟ فقال: اللهمّ لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي. فالتفت إلى عثمان، فقال: هل أنت مبايعي على كتب الله وسنّة نبيّه وفعل أبي كبر وعمر؟ قال: اللهمّ نعم، فأشار بيده إلى كتفيه، وقال: إذا شئتما! فنهضنا حتى دخلنا المسجد، وصاح صائح: الصلاة جامعة - قال عثمان: فتأخّرت والله حياء لما رأيت من إسراعه إلى علي؛ فكنت فيى خر المسجد - قال: وخرج عبد الرحم بن عوف وعليه عمامته التي عمَّمه بها رسول الله ، متقلّدًا سيفه؛ حتى ركب المنبر، فوقف وقوفًا طويلًا، ثم دعا بما لم يسمعه الناس.
ثم تكلّم، فقال أيّها الناس؛ إني قد سأتلكم سرًّا وجهرًا عن إمامكم؛ فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين: إما علي وإما عثمان؛ فقم غلي " يا علي، فقام إلي علي، فوقف تحت المنبر؛ فأخذ عبد الرحمن بيده، فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيّه وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم لا؛ ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي؛ قال: فأرسل يده ثم نادى: قم إلي يا عثمان؛ فأخذ بيده - هو في موقف علي الذي كان فيه - فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنّة منبيّه وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهمّ نعم؛ قال: فرفع رأسه إلى سقف المسجد، ويده في يد عثمان، ثم قال: اللهمّ اسمع واشهد؛ اللهمّ إنِّي قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان. قال: وازدحم الناس يبايعون عثمان حتى غشوه عند المنبر، فقعد عبد الرحمن مقعدالنبي من المنبر، وأقعد عثمان على الدرجة الثانية، فجعل الناس يبايعون، وتلكأ علي، فقال عبد الرحمن: " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرًا عظيمًا "؛ فرجع علي يشقّ الناس؛ حتى بايع وهو يقول: خدعة وأيَّما خدعة! قال عبد العزيز: وإنما سبب قول علي خدعة؛ أن عمرو بن العاص كان قال لقي عليًّا في ليالي الشورى، فقال: إنّ عبد الرحمن رجل مجتهد، وإنّه متى أعطيته العزيمة ان أزهد له فيك؛ ولكن الجهد والطاقة؛ فإنه أرغب له فيك. قال: ثم لقى عثمان، فقال: إنّ عبد الرحمن رجل مجتهد، وليس والله يبايعك إلّا بالعزيمة، فاقبل؛ فلذلك قال علي: خدعة.
قال: ثم انصرف بعثمان إلى بيت فاطمة ابنة قيس، فجلس والناس معه، فقام المغيرة بن شعبة خطيبًا، فقال: يا أبا محمد، الحمد لله الذي وفقك؛ والله ما كان لها غير عثمان - وعلي جالس - فقال عبد الرحمن: يا بن الدباغ؛ ما أنت وذاك! والله ما كنت أبايع أحدًا إلّا قلت فيه هذه المقالة! قال: ثم جلس عثمان في جانب المسجد؛ ودعا بعبيد الله بن عمر - وكان محبوسًا في دار سعد بن أبي وقاص، وهو الذي نزع السيف من يده بعد قتله جفينة والهرمزان وبانة أبي لؤلؤة، وكان يوقل: والله لأقتلنّ رجالًا ممن شرك في دم أبي - يعرّض بالمهاجرين والأنصار - فقام إليه سعد، فنزعالسيف من يده؛ وجذب شعره حتى أضجعه إلى الأرض، وحبسه في داره حتى أخرجه عثمان إليه؛ فقال عثمان لجماعة من المهاجرين والأنصار: أشيروا علي في هذا الذي فتق في الإسلام ما فتق، فقال علي: أرى أن تقتله، فقال بعض المهاجرين: قتل عمر أمس ويقتل ابنة اليوم! فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين؛ إنّ الله قد أعافك أن يكون هذا الحدث كان ولك على المسلمين سلطان؛ إنما كان هذا الحدث ولا سلطان لك؛ قال عثمان: أنا وليّهم، وقد جعلتها ديةً، واحتملتها في مالي.