كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي غسّان سكن ابن عبد الرحمن بن حبيش، قال: اجتمع نفر من أهل الكوفة، فعلموا في عزل الوليد، فانتدب أبو زينب بن عوف وأبو مورّع بن فلان الأسدي للشهادة عليه، نغشوا الوليد، وأكبُّوا عليه؛ فبينا هم معه يومًا في البيت وله امرأتان في المخدع؛ بينهما وبين القوم ستر؛ إحداهما بنت ذي الخمار والأخرى بنت أبي عقيل، فنام الوليد، وتفرّق القوم عنه؛ وثبت مأبو زينب وأبو مورّع، فتناول أحدهما خاتمة، ثم خرجا، فاستيقظ الوليد وامرأتاه عند رأسه؛ فلم ير خاتمه، فسألهما عنه فلم يجدعندهما منه علمًا، قال: فأي القوم تخلّف عنهم؟ قالتا: رجلان لا نعرفهما، ما غشياك إلا منذ قريب.
قال: حليّاهما، فقالتا: معلى أحدهما خميصة، وعلى الآخر مطرف، وصاحب المطرف أبعدهما منك، فقال: الطُّوال؟ قالتا: نعم؛ وصاحب الخميصة أقربهما إليك، فقال: القصير؟ قالتا: نعم؛ وقد رأينا يده على يدك. قال: ذاك أبو زينب، والآخر أبو مورّع؛ وقد أرادا داهية، فليت شعري ماذا يريدان! فطلهما فلم يقدر عليهما؛ وكان وجههما إلى المدينة، فقدما على عثمان؛ ومعهما نفر ممن يعرف عثمان، ممن قد عزل الوليد عن الأعمال، فقالوا له، فقال: من يشهد؟ قالوا: أبو زينب وأبو موِّع، وكاع اللآخران، فقال: كيف رأيتما؟ قالا: كنّا من غاشيته؛ فدخلنا عليه وهو يقيء الخمر، فقالك مايقيء الخمر إلّا شاربها. فبعث إليه، فلما دخل على عثمان رآهما، فقال متمثّلًا:
ما إن خشيت على أمر خلوت به ** فلم أخفك على أمثالها حار
فحلف له الوليد وأخبره خبرهم، فقال: نقيم الحدود ويبوء شاهد الزور بالنّار؛ فاصبر يا أخيَّ! فأمر سعيد بن العاص فجلده، فأورث ذلك عداوة بين ولديهما حتى اليوم؛ وكانت على الوليد خميصة يوم أمر به أن يجلد، فنزعها عنه علي بن أبي طالب عليه السلام.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الطنافمي، عن أبي عبيدة الإيادي، قال: خرج أبو زينب وأبو مورِّع حتى دخلا على الوليد بيته، وعنده امرأتان: بنت ذي الخمار وبنت أبي عقيل؛ وهو نائم، قالت إحداهما: فأكبّ عليه أحدهما فأخذ خاتمه، فسألهما حين استيقظ، فقالتا: ماأخذناه، قال: من بقي آخر القوم؟ قالتا: رجلان؛ مرجل قصير عليه خميصة، ورجل طويل عليه مطرف، ورأينا صاحب الخميصة أكبّ عليك، قال: ذاك أبو زينب. فخرج يطلبهما، فإذا هو وجههما عن ملإ من أصحاب لهما؛ ولا يدري الوليد ما أرادا من ذلك. فقدما على عثمان، فأخبراه الخبر على رءوس الناس، فأرسل إلى الوليد، فقدم، فإذا هو بهما. ودعا بهما عثمان، فقال: بم تشهدان؟ أتشهدان أنكما رأيتماه يشرب الخمر؟ فقالا: لا، وخافا، قال: فكيف؟ قالا: اعتصرناها من لحيته وهو يقيء الخمر، فأمر سعيد بن العاص فجلده، فأورث ذلك عداوة بين أهليهما.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطيّة، عن أبي العريف ويزيد الفقعسي، قالا: كان الناس في الوليد فرقتين: العامّة معه والخاصّة عليه؛ فما زال عليهم من ذلك خشوع حتى كانت صفِّين، فولى معاوية، فجعلوا يقولون: عيَّيب عثمان بالباطل، فقال لهم علي عليه السلام: إنكم وما تعيِّرون به عثمان كالطاعن نفسه ليقتل ردفه، ما ذنب عثمان في رجل قد ضربه بفعله عن عمله وما ذنب عثمان فيما صنع عن أمرنا؟! وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن كريب، عن نافع بن جبير، قال: قال عثمان رضي الله عنه: إذا جلد الرجل الحدّ ثم ظهرت توبته جازت شهادته.
وكتب إليَّ مالسري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي كبران، عن مولاة لهم - وأثنى عليها خيرًا - قالت: كان الوليد أدخل على الناس خيرًا، حتى جعل يقسِّم للولائد والعبيد، ولقد تفجّع عليه الأحرار والمماليك، كان يسمع الولائد وعليهنّ الحداد يقلن:
يا ويلتا قد عزل الوليد ** وجاءنا مجوِّعًاسعيد
ينقص في الصاع ولا يزيد ** يجوِّع الإماء والعبيد
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن بن القاسم، قال: كان الناس يقولون حين عزل الوليد وأمِّر سعيد:
لا يبعد الملك إذ ولَّت شمائله ** ولا الرياسة لما راس كتَّاب
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة بإسنادهما، قالا: قدم سعيد بن العاص في سنة سبع من إمارة عثمان، وكان سعيد بن العاص بقيّة العاص بن أميّة، وكان أهله كثيرًا تتابعوا، فلما فتح الله الشأم قدمها، فأقام مع معاوية، وكان يتيمًا نشأ في حجر عثمان، فتذكّر عمر قريشًا، وسأل عنه فيما يتفقّد من أمور الناس، فقيل: يا أمير المؤمنين، هو بدمشق، عهد العاهد به وهو مأموم بالموت. فأرسل إلى معاوية: أن ابعث إلي سعيد بن العاص قال: يمنقل، فبعث به إليه وهو دنف، فما بلغ المدينة حتى أفاق، فقال: يا بن أخي؛ قد بلغني عنك بلاء وصلاح، فازدد يزدك الله خيرًا. وقال: هل لك من زوجة؟ قال: لا؛ قال: يا أبا عمرو، ما منعك من هذا الغلام أن تكون زوّدته؟ قال: قد عرضت عليه فأبى، فخرج يسير في البرّ، فانتهى إلى ماء، فلقى عليه أربع نسوة، فقمن له، فقال: مالكنّ؟ ومن أنتن؟ فقلن: بنات سفيان بن عويف - ومعهنّ أمهنّ - فقالت: أمّهنّ: هلك رجالنا، وإذا هلك الرجال ضاع النساء، فضعهنّ في أكافئهنّ، فزوّج سعيدًا إحداهنّ وعبد الرحمن بن عوف الأخرى والوليد بن عقبة الثالثة؛ وأتاه بنات مسعود بن نعيم النَّهشلي، فقلن: قد هلك رجالنا، وبقي الصبيان، فضعنا في أكفائنا، فزوج سعيدًا إحداهنّ، وجبير بن مطعم إحداهن، فشارك سعيد هؤلاء وهؤلاء، وقد كان عمومته ذوي بلاء في الإسلام، وسابقة حسنة، وقدمة مع رسول الله ؛ فلم يمت عمر حتى كان سعيد من رجال الناس.
فقدم سعيد الكوفة في خلافة عثمان أميرًا، وخرج معه من مكة - أو المدينة - الأشتر وأبو خشّة الغفاري وجندب بن عبد الله وأبو مصعب بن جثّامة - وكانوا فيمن شخص معالوليد يعيبونه، فرجعوا مع هذا - فصعد سعيد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: والله لقد بعثت إليكم وإني لكاره؛ ولكنّي لم أجد بدًّا إذ أمرت أن أتّمر ألا إنّ الفتنة قد أطلعت خطمها وعينيها؛ ووالله لأضربنّ وجهها حتى أقمعها أو تعييني؛ وإني لرائد نفسي اليوم. ونزل. وسأل عن أهل الكوفة، فأقيم على حال أهلها.
فكتب إلى عثمان بالذي انتهى إليه: إنّ أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم، وغلب أهل الشرف منهم والبيوتات والسابقة والقدمة؛ والغالب على تلك البلاد روادف ردفت، وأعراب لحقت؛ حتى ما ينظر إلى ذي شرف ولا بلاء من نازلتها ولا نابتتها.
فكتب إلى عثمان: أمّا بعد؛ ففضَّل أهل السابقة والقدمة ممن فتح الله عليه تلك البلاد، وليكن من نزلها بسببهم تبعًا لهم؛ إلّا أن يكونوا تثاقلوا عن الحقّ، وتركوا القيام به وقام به هؤلاء. واحفظ لكِّ منزلته، وأعطهم جميعًا بقسطهم من الحقّ، فإنّ المعرفة بالناس بها يصاب العدل.
فأرسل سعيد إلى وجوه الناس من أهل الأيّام والقادسيّة، فقا: انتم وجوه من وراءكم، والوجه ينبيء عن الجسد؛ فأبلغونا حاجة ذي الحاجة وخلّة ذي الخلّة. وأدخل معهم من يحتمل من ماللواحق والرّوادف؛ وخلص بالقرّاء والمتسمِّتين في سمره، فكأنما كانت الكوفة يبسًا شملته نار؛ فانقطع إلى ذلك الضرب ضربهم، وفشت القالة والإذاعة.
فكتب سعيد إلى عثمان بذلك، فنادى منادي عثمان: الصلاة جامعة! فاجتمعوا، فأخبرهم بالذي كتب به إلى سعيد، وبالذي كتب به إليه فيهم؛ وبالذي جاءه من القالة والإذاعة، فقالوا: أصبت فلا تسعفهم في ذلك؛ ولا تطعمهم فيما ليسوا له بأهل، فإنه إذا نهض في الأمور من ليس لها بأهل لم يحتملها وأفسدها.
فقال عثمان: يا أهل المدينة استعدّوا واستمسكوا، فقد دبّت إليكم الفتن.
ونزل. فأوى إلى منزله، وتمثّل مثله ومثل هذا الضرب الذين شرعوا في الخلاف:
أبني عبيد قد أتى أشياعكم ** عنكم مقاتلكم وشعر الشاعر
فإذا أتتكم هذه فتلبَّسوا ** إنَّ الرِّماح بصيرة بالحاسر
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن هشام بن عروة، قال: كان عثمان أروى الناس للبيت والبيتين والثلاثة إلى الخمسة.
كتب إليَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن سعيد بن عبد الله الجمحي، عن عبيد الله بن عمر، قال: سمعته وهو يقول لأبي: إنّ عثمان جمع أهل المدينة، فقال: يا أهل المدينة؛ إنّ الناس يتمخّضون بالفتنة، وإني والله لأتخلّصنّ لكم الذي لكم حتى أنقله إليكم إن رأيتم ذلك؛ فهل ترونه حتى يأتي من شهد مع أهل العراق الفتوح فيه، فيقيم معه في بلاده؟ فقام أولئك، وقالوا: كيف تنقل لنا ما أفاء الله علينا من الأرضين يا أمير المؤمنين؟ فقال: نبيعها ممّن شاء بما كان له بالحجاز. ففرحوا وفتح الله عليهم به أمرًا لم يكن في حسابهم؛ فافترقوا وقد فرّجه الله عنهم به. وكان طلحة ابنعبيد الله قد استجمع له عامّة سهمان خيبر إلى ما كان له سوى ذلك، فاشترى طلحة منه من نصيب من شهد القادسيّة والمدائن من أهل المدينة ممن أقام ولم يهاجر إلى العراق النَّشاستج بما كان لهبخيبر وغيرها من تلك الأموال، واشترى منه ببئر أريس شيئًا كان لعثمان بالعراق، واشترى منه مروان بن الحكم بمال كان له أعطاه إيّاه عثمان نهر مروان - وهو يومئذ أجمة - واشترى منه رجال من القبائل بالعراق بأموال كانت لهم في جزيرة العرب من أهل المدينة ومكّة والطائف واليمن وحضرموت؛ فكان ممّا اشترى منه الأشعث بمال كان له في حضرموت ما كان له بطيز ناباذ. وكتب عثمان إلى أهل الآفاق في ذل وبعدّة جربان الفيء، والفيء الذي يتداعاه أهل الأمصار، فهو ما كان للملوك نحو كسرى وقيصر ومن تابعهم من أهل بلادهم. فأجلى عنه، فأتاهم شيء عرفوه. وأخذ بقدر عدّة من شهدها من أهل المدينة، وبقدر نصيبهم، وضمّ ذلك إليهم، فباعوه بما يليهم من الأموال بالحجاز ومكّة واليمن وحضرموت، يرد على أهلها الذين شهدوا الفتوح من بين أهل المدينة.