فتح مروروذ والطالقان والفارياب والجوزجان وطخارستان

وفي سنة اثنتين وثلاثين فتح ابن عامر مروروذ والطالقان والفارياب والجوزجان وطخارستان.
ذكر الخبر عن ذلك
قال علي: أخبرنا سلمة بن عثمان وغيره، عن إسماعيل بن مسلم، عن ابن سيرين، قال: بعث ابن عامر الأحنف بن قيس إلى مروروذ، فحصر أهلها، فخرجوا إليهم فقاتلوهم، فهزمهم المسلمون حتى اضطروهم إلى حصنهم، فأشرفوا عليهم، فقالوا: يا معشر العرب، ما كنتم عندنا كما نرى؛ ولو علمنا أنّكم كما نرى لكانت لنا ولكم حال غير هذه؛ فأمهلونا ننظر يومنا، وارجعوا إلى عسكركم. فرجع الأحنف، فلما أصبح غاداهم وقد أعدّوا له الحرب؛ فخرج رجلٌ من العجم معه كتاب من المدينة، فقال: إنّي رسول فأمّنوني، فأمّنوه، فإذا رسول من مرزبان مرو ابن أخيه وترجمانه، وإذا كتاب المرزبان إلى الأحنف، فقرأ الكتاب؛ قال: فإذا هو: إلى أمير الجيش؛ إنا نحمد الله الذي بيده الدول، يغير ما شاء من الملك، ويرفع من شاء بعد الذلة، ويضع من شاء بعد الرفعة.
إنه دعاني إلى مصالحتك وموادعتك ما كان من إسلام جدّي، وما كان رأي من صاحبكم من الكرامة والمنزلة؛ فمرحبًا بكم وأبشروا؛ وأنا أدعوكم إلى الصح فيما بينكم وبيننا؛ على أن أؤدّي إليكم خراجًا ستين ألف درهم؛ وأن تقرّوا بيدي ما كان ملك الملوك كسرى أقطع جدّ أبي حيث قتل الحيّة التي أكلت الناس، وقطعت السبُّل من الأرضين والقرى بما فيها من الرجال، ولا تأخذوا من أحد من أهل بيتي شيئًا من الخراج، ولا تخرج المرزبة من أهل بتي إلى غيركم، فإن جعلت ذلك لي خرجت إليك؛ وقد بعثت إليك ابن أخي ماهك ليستوثق منك بما سألت.
قال: فكتب إله الأحنف: بسم الله الرحمن الرحيم، من صخر بن قيس أمير الجيش إلى باذان مرزبان مرووذ ومن معه من الأساورة والأعاجم. سلام على من اتّبع الهدى، وآمن واتّقى. أما بعد؛ فإن ابن أخيك ماهك قدم علي، فنصح لك جهده، وأبلغ عنك؛ وقد عرضت ذلك على من معي من المسلمين، وأنا وهم فيما عليك سواء؛ وقد أجبناك إلى ما سألت وعرضت على أن تؤدّي عن أكرتك وفلّاحيك والأرضين ستّين ألف درهم إلي وإلى الوالي من بعدي من أمراء المسلمين؛ إلّا ما كان من الأرضين التي ذكرت أنّ كسى الظالم لنفسه أقطع جدّ أبيك لما كان من قتله الحيّة التي أفسدت الأرض وقطعت السُّبل. والأرض لله ولرسوله يورثها من يشاء من عباده، وإنّ عليك نصرة المسلمين وقتال عدوّهم بمن معك من الأساورة؛ إن أحبَّ المسلمون ذلك وأرادوه، وإنّ لك على ذلك نصرة المسلمين على من يقاتل من وارءك من أهل بيتك من ذوي الأرحام؛ وإن أنت أسلمت واتبعت الرسول كان لك من المسلمين العطاء والمنزلة والرزق وأنت أخوهم؛ ولك بذلك ذمتي وذمة أبي وذمم المسلمين وذمم آبائهم. شهد على ما في هذا الكتاب جزء ابن معاوية - أو معاوية بن جزء السعدي - وحمزة بن الهرماس وحميد بن الخيار المازنيّان، وعياض بن ورقاء الأسيدي. وكتب كيسان مولى بني ثعلبة يوم الأحد من شهر الله المحرّم. وختم أمير الجيش الأحنف بن قيس. ونقش خاتم الأحنف: نعبد ه.
قال علي: أخبرنا مصعب بن حيّان، عن أخيه مقاتل بن حيّان، قال: صالح ابن عامر أهل مرو، وبعث الأحنف في أربعة آلاف إلى طخارستان فأقبل حتى نزل موضع قصر الأحنف من مرو روذ، وجمه أهل طخارستان، وأهل الجوزجان والطالقان والفارياب؛ فكانوا ثلاثة زحوف، ثلاثين ألفًا. وأتى الأحنف خيرهم وما جمعوا له، فاستشار الناس فاختلفوا؛ فبين قائل: نرجع إلى مرو، وقائل: نرجع إلى أبر مشهر، وقائل: نقيم نستمدّ، وقائل: نلقاهم فنناجزهم.
قال: فلما أمسى الأحنف خرج يمشي في العسكر، ويستمع حديث الناس، فمرّ بأهل خبار ورجل يوقد تحت خزيرة أو يعجن؛ وهم يتحدثون ويذكرون العدوّ؛ فقال بعضهم: الرأي للأمير أن يسير إذا أصبح؛ حتى يلقي القوم حيث لقيهم - فإنه أرعب لهم - فيناجزهم. فقال صاحب الخزيرة أو العجين: إن فعل ذلك مفقد أخطأ وأخطأتم؛ أتأمرونه أن يلقى حدّ العدوّ مصحرًا في بلادهم، فيلقى جمعًا كثيرًا بعدد قليل، فإن جالوا جولة اصطلمونا! ولكنّ الرأي له أن ينزل بين المرغاب والجبل، فيجعل المرغاب عن يمينه والجبل عن يساره، فلا يلقاه من عدوّه وإن كثروا إلا عدد أصحابه. فرجع الأحنف وقد اعتقد ما قال؛ فضرب عسكره، وأقام فأرسل إليه أهل مرو يعرضون عليه أن يقاتلوا متعه؛ فقال: إني أكره أن أستنصر بالمشركين؛ فأقيموا على ما أعطيناكم؛ وجعلنا بيننا وبينكم؛ فإن ظفرنا فنحن على ما جعلنا لكم؛ وإن ظفروا بنا وقاتلوكم فقاتلوا عن أنفسكم.
قال: فوافق المسلمين صلاة العصر؛ فعالجلهم المشركون فناهضوهم فقاتلوهم؛ وصبر الفريقان حتى أمسوا والأحنف يتمثّل بشعر ابن جؤيّة الأعرجي:
أحقُّ من لم يكره المنيَّه ** حزوّر ليست له ذرَّيه
قال علي: أخبرنا أبو الأشهب العسدي، عن أبيه، قال: لقي الأحنف أهل مرووذ والطالقان والفارياب والجوزجان في المسلمين ليلاُ، فقاتلهم حتى ذهب عامّة الليل، ثم هزمهم ه، فقتلهم المسلمون حتى انتهوا إلى رسكن - وهي على اثني عشر فرسخًا من قصر الأحنف - وكان مرزبان مروروذ، قد تربّص بحمل ما كانوا صالحوه عليه؛ لنظر ما يكون من أمرهم.
قال: فلمّا ظفر الأحنف سرّح رجلين مإلى المرزبان، وأمرهما ألّا يكلّماه حتى يقبضاه. ففعلًا. فعلم أنهم لم يصنعوا ذاك به إلّا وقد ظفروا، فحمل ما كان عليه.
قال علي: وأخبرنا المفضّل الضبي، عن أبيه، قال: سار الأقرع بن حابس إلى الجوزجان؛ بعثه الأحنف في جريدة خيل إلى بقيّة كانت بقيت من الزحوف الذين هزمهم الأحنف، فقاتلهم، فجال المسلمون جولة، مفقتل فرسان من فرسانهم؛ ثم أضفر الله المسلمين بهم فهزموهم وقتلوهم، فقال كثير النهشلي:
سقى مزن السحاب إذا اشتهلّت ** مصارع فتية بالجوزجان
إلى القصرين من رستاق خوط ** أقادهم هناك الأقرعان
وهي طويلة.
ذكر صلح الأحنف مع أهل بلخ

وفي هذه السنة، جرى صلح بين الأحنف وبين أهل بلخ.
ذكر الخبر بذلك
قال علي: أخبرنا زهير بن الهنيد، عن إياس بن المهلّب، قال: سار الأحنف من مروالرّوذ إلى بلخ فحاصرهم، فصالحه أهلها على أربعمائة ألف، فرضى منهم بذلك، واستعمل ابن عمّه؛ وهو أسيد بن المتشمّس ليأخذ منهم ما صالحوه عليه، ومضى إلى خارزم، فأقام حتى هجم عليه الشتاء، فقال لأصحابه: ما ترون؟ قال له حصين: قد قال لك عمرو بن معد يكرب، قال: وما قال؟ قال: قال:
إذا لم تستطع أمرًا فدعه ** وجاوزه إلى ما تستطيع
قال: فأمر الأحنف بالرّحيل، ثمّ انصرف إلى بلخ، وقد قبض ابن عمّه ما صالحهم عليه؛ وكان وافق وهو يجبيهم المهرجان، فأهدوا إليه هدايا من آنية الذهب والفضّة ودنانير ودراهم ومتاع وثياب، فقال ابن عمّ الأحنف: هذا ما صالحناكم عليه؟ قالوا: لا؛ ولكنّ هذا شيء نصنعه في هذا اليوم بمن ولينا نستعطفه به، قال: وما هذا اليوم؟ قالوا: المهرجان، قال: ما أدري ما هذا؟ وإني لأكره أن أردّه؛ ولعله ممن حقّي؛ ولكن أقبضه وأعزله حتى أنظر فيه؛ فقبضه، وقدم الأحنف فأخبره، فسألهم عنه، فقالوا له مثل ما قالوا لابن عمّه، فقال: آتي به الأمير؛ فحمله إلى ابن عامر، فأخبره عنه، فقال: اقبضه يا أبا بحر؛ فهو لك؟ قال: لا حاجة لي فيه، فقال ابن عامر: ضمّه إليك يا مسمار، قال: قال الحسن: فضمّه القرشي وكان مضمًّا.
قال علي: وأخبرنا عمرو بن محمد المرّي، عن أشياخ من بني مرّة، أنّ الأحنف استعمل على بلخ بشر بن المتشمّس.
قال علي: وأخبرنا صدقة بن حميد، عن أبيه، قال: بعث ابن عامر - حين صالح أهل مرو، وصالح الأحنف أهل بلخ - خليد بن عبد الله الحنفيَّ إلى هراة وباذغيس؛ فافتتحهما، ثم كفروا بعد فكانوا مع قارن.
قال علي: وأخبرنا مسلمة، عن داود، قال: ولما رجع الأحنف إلى ان عامر قال الناس لابن عامر: ما فتح على أحد ما مقد فتح عليك؛ فارس وكرمان وسجستان وعامّة خراسان! قال: لا جرم، لأجعلنّ شكري لله على ذلك أن أخرج محرمًا معمرًا من موقفي هذا. فأحرم بعمرة من نيسابور؛ فلما قدم على عثمان لامه على إحرامه من خراسان، وقال: ليتك تضبط ذلك من الوقت الذي يحرم منه الناس! قال علي: أخبرنا مسلمة، عن السكن بن قتادة العريني، قال: استخلف ابن عامر على خراسان قيس بن الهيثم، وخرج ابن عامر منها في سنة اثنتين وثلاثين. قال: فجمع قارن جمعًا كثيرًا من ناحية الطبسين وأهل باذغيس وهراة وقهستان، فأقبل في أربعين ألفًا، فقال لعبد الله بن خازم: ما ترى؟ قال: أرّى أن تخلّي البلاد فإني أميرها؛ ومعي عهد من ابن عامر؛ إذا كانت حرب بخراسان فأنا أميرها - وأخرج كتابًا قد افتعله عمدًا - فكره قيس مشاغبته، وخلّاه والبلاد؛ وأقبل إلى ابن عامر، فلامه ابن عامر، وقال: تركت البلاد حربًا وأقبلت! قال: جاءني بعهد منك. فقالت له أمّه: قد نهيتك أن تدعهما في بلد، فإنه يشغبعليه.
قال: فسار ابن خازم إلى قارن في أربعة آلاف وأمر الناس فحملوا الودك؛ فلما قرب من عسكره أمر الناس، فقال: ليدرج كلُّ رجل منكم على زجّ رمحه ما كان معه من خرقة أو قطن أو صوف؛ ثم أوسعوه من الودك ممنسمن أو دهن أو زيت أو إهالة. ثم سار حتى إذا أمسى قدّم مقدّمته ستمائة، ثم اتّبعهم، وأمر الناس فأشعلوا النيران في أطراف الرماح، وجعل يقتبس بعضهم من بعض. قال: وانتهت مقدّمته إلى عسكر قارن، فأتوهم نصف الليل؛ ولهم حرس، فناوشوهم، وهاج الناس على دهش، وكانوا آمنين في أنفسهم من البيات، ودنا ابنخازم منهم، فرأوا النيران بمنة ويسرة، وتتقدّم وتتأخرّ، وتتخفض وترتفع؛ فلا يرون أحدًا. فهالهم ذلك، ومقدّمة ابن خازم يقاتلونهم؛ ثم غشيهم ابن خازم بالمسلمين، فقتل قارن، وانهزم العدوّ فأتبعوهم يقتلونهم كيف شاءوا، وأصابوا سبيًا كثيرًا؛ فزعم شيخ من بني تميم، قال: كانت أمّ الصلت بن حريث من سبي قارن، وأمّ زياد بن الربيع منهم، وأمّ عون أبي عبد الله بن عون الفقيه منهم.
قال علي: حدثنا مسلمة، قال: أخذ ابن خازم عسرك قارن بما كان فيه، وكتب بالفتح إلى ابن عامر؛ فرضي وأقرّه على خراسان، فلبث عليها حتى انقضى أمر الجمل، فأقبل إلى البصرة، فشهد وقعة ابن الحضرمي، وكان معه في دار سبيل.