قال علي: وأخبرنا الحسن بن رشيد، عن سليمان بن كثير العمي الخزاعي، قال: جمعقارن للمسلمين جمعًا كثيرًا، فضاق المسلمون بأمرهم، فقال قيس ابن الهيثم لعبد الله بن خازم: ما ترى؟ قال: أرى أنك لا تطيق كثرة من قد أتانا، فاخرج بنفسك إلى ابن عامر فتخبره بكثرة من قد جمعوا لنا، ونقيم نحن في هذه الحصون ونطاولهم حتى تقدم ويأتينا مددكم.
قال: فخرج قيس بن الهيثم، فلما أمعن أظهر ابن خازم عهدًا، وقال: قد ولّاني ابن عامر خراسان؛ فسار إلى قارن، فظفر به، وكتب بالفتح إلى ابن عامر، فأقرّه ابن عامر على خراسان؛ فلم يزل أهل البصرة يغزون من لم يكن صالح من أهل خراسان، فإذا رجعوا خلّفوا أربعة آلاف للعقبة، فكانوا على ذلك مكانت الفتنية.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين

ففيها كانت غزوة معاوية حصن المرأة من أرض الروم من ناحية ملطية في قول الواقدي.
وفيها كانت غزوة عبد الله بن سعد بن أبي سرح إفريقية الثانية حين نقض أهلها العهد.
وفيها قدّم عبد الله بن عامر الأحنف بن قيس إلى خراسان وقد انتقض أهلها، ففتح المروين: مرو الشاهجان صلحًا، ومرو الروذ بعد قتال شديد، وتبعه عبد الله بن عامر، فنزل أبر شهر، ففتحها صلحًا في قول الواقدي.
وأمّا أبو معشر فإنه قال - فيما حدثني أحمد بن ثابت الرازي "، عمّن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عنه، قال: كانت قبرس سنة ثلاث وثلاثين، وقد ذكرنا قول من خالفه في ذلك، والخبر عن قبرس.
وفيها: كان تسيير عثمان بن عفان من سيّر من أهل العراق إلى الشأم.
ذكر تسيير من سير من أهل الكوفة إليها

اختلف أهل السير في ذلك، فأما سيف فإنّه ذكر فيما كتب به إلي السري عن شعيب عنه، عن محمد وطلحة، قالا: كان سعيد بن العاص لا يغشاه إلّا نازلة أهل الكوفة ووجوه أهل الأيام وأهل القادسيّة وقرّاء أهل البصرة والمتسمِّتون، وكان هؤلاء دخلته إذا خلا، فأما إذا جلس للناس فإنه يدخل عليه كلّ أحد، فجلس للناس يومًا، فدخلوا عليه؛ فبينناهم جلوس يتحدثون قال خنيس بن فلان: ما أجود طلحة بن عبيد الله! فقال سعيد ابن العاص: إنّ من له مثل النشاستج لحقيق أن يكون جوادًا؛ والله لو أنّ لي مثله لأعاشكم الله عيشًا رغدًا. فقال عبد الرحمن بن خنيس - وهو حدث: والله لوددت أنّ هذا الملطاط لك - يعني ما كان لآل كسرى على جانب الفرات الذي يلي الكوفة - قالوا: فضّ الله فاك! والله لقد هممنا قك، فقال: خنيس غلام فلا تجازوه، فقالوا: يتمنى له من سوادنا! قال: ويتمنّى لكم أضعافه، قالوا: لا تيمنى لنا ولا له، قال: ما هذا بكم! قالوا: أنت والله أمرته بها، فثار إليه الأشتر وابن ذي الحبكة وجندب وصعصعة وابن الكواء وكميل بن زياد وعمير بن ضائي؛ فأخذوه فذهب أبوه ليمنع منه فضربوهما حتى غشى عليهما، وجعل سعيد يناشدهم ويأبون، حتى قضوا منهما وطرًا، فسمعت بذلك بنو أسد، فجاءوا وفيهم طليحة فأحاطو بالقصر، وركبت القبائل، فعاذوا بسعيد، وقالوا: أفلتنا وخلَّصنا.
فخرج سعيد إلى الناس، فقال: أيّا الناس، قوم تنازعوا وتهاووا، وقد رزق الله العافية. مثم قعدوا وعادوا في حديثهم، وتراجعوا فساءهم وردّهم، وأفاق الرجلان؛ فقال: أبكما حياة؟ قالا: قتلتنا غاشيتك، مقال: لا يغشوني والله أبدًا، فاحفظ علي ألسنتكما ولاتجرّئا علي النسا. ففعلًا ولما انقطع رجاء أولئك النفر من ذلك قعدوا في بيتوهم، وأقبلوا على الإذاعة حتّى لامه أهلالكوفة في أمرهم؛ فقال: هذا أميركم وقد نهاني أن أحرّك شيئًا، فمن أراد منكم أن يحرّك شيئًا فليحرّكه.
فكتب أشراف أهل الكوفة وصلحاؤهم إلى عثمان في إخراجهم، فكتب: إذا اجتمع ملؤكم على ذلك فألحقوهم بمعاوية. فأخرجوهم، فذلّوا وانقادوا حتى أتوه - هم بضعة عشر - فكتبوا بذلك إلى عثمان، وكتب عثمان إلى معاوية: إنّ أهل الكوفة قد أخرجوا إليك نفرًا خلقوا للفتنة، فرعهم وقم عليهم؛ فإن آنست منهم رشدًا فأقبل منهم؛ وإن أعيوك فازددهم عليهم فلما قدموا على معاوية رّحّب بهم وأنزلهم كنيسة تسمّى مريم، وأجرى عليهم بأمر عثمان ما كان يجري عليهم بالعراق، وجعل لا يزال يتغدّى ويتعشّى معهم، فقال لهم يومًا: إنكم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفًا وغلبتم الأمم وحويتم مراتبهم ومواريثهم، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشًا؛ وإن قريشًا لو لم تكن عدتم أذلّة كما كنتم، إنّ أئمتكم لكم إلى اليوم جنّة فلا تشذّوا عن جنّتكم؛ وإنّ أئمتكم اليوم يصبرون لكم على الجور، ويحتملون منكم المؤونة؛ والله لتنتهنّ أو ليتلينّكم الله بمن يسومكم؛ ثم لا يحمدكم على الصبر، ثمّ تكونون شركاء لهم فيما جررتم على الرعيّة في حياتكم وبعد موتكم.
فقال رجل من القوم: أمّا ما ذكرت من قريش فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوّفنا؛ وأما ما ذكرت من الجنّة فإنّ الجنّة إذا اخترقت خلص إلينا.
فقال معاوية: عرفتكم الآن، علمت أنّ الذي أغراكم على هذا قلّة العقول، وأنت خطيب القوم، ولا أرى لك عقلًا، أعظم علكي أمر الإسلام، وأذكرك به، وتذكّرني الجاهلية! موقد وعظتك. وتزعم لما يجنُّك أنه يخترق، ولا ينسب ما يخترق إلى الجنّة؛ أخزى الله أقواماُ أعظموا أمركم، ورفعوا إلى خليفتكم! افقهوا - ولا أظنكم تفقهون - أنّ قريشًا لم تعزّ في جاهلية ولا إسلام إلّا بالله عز وجل، لم تكن بأكثر العرب ولا أشدّهم؛ ولكنهم كانوا أكرمهم أحسابًا، وأمحضهم أنسابًا، وأعظمهم أخطارًا؛ وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس بأكل بعضهم بعضًا إلّا بالله الذي لا يستذّل من أعزّ، ولا يوضع من رفع، فبوّأهم حرمًا آمنا يتخطّف الناس من حولهم! هل تعرفون عربًا أن عجمًا أو سودًا أو حمرًا إلّا قد أصابه الدهر في بلده وحرمته بدولة؛ إلّا ما كان من قريش، فإنه لم يردهم أحد من الناس بكيد إلّا جعل الله خدّه الأسفل، حتى أراد الله أن ينتقّذ من أكرم واتّبع دينه من هوان الدنيا وسوء مردّ الآخرة، فارتضى لذلك خير خلفه، ثم ارتضى له أصحابًا فكان خيارهم قريشًا، ثم بنى هذا الملك عليهم، وجعل هذه الخلافة فيهم؛ ولا يصلح ذلك إلّا عليهم؛ فكان الله يحوطهم في الجاهليّة وهم على كفرهم بالله؛ أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه وقد حاطهم في الجاهلية من الموك الذين كانوا يدينونكم؟ أفٍّ لك ولأصحابك! ول أنّ متكلمًا غيرك تكلّم؛ ولكنك ابتدأت. فأمّا أنت يا صعصعة فإن قريتك شرّ قرى عربيّة؛ انتنها نبتًا، وأعمقها واديًا، وأعرفها بالشرّ، وألأمها جيرانًا، لم يسكنها شريف قطّ ولا وضيع إلّا سبّ بها؛ وكانت عليه هجنة، ثم كانوا أقبح العرب ألقابًا، والأمه أصهارًا، نزّاع الأمم؛ وأنتم جيران الخطّ وفعلة فارس، حتى أصابتكم دعوة النبي ونكبتك دعوته؛ وأنت نزيع شطير في عمان، لم تسكن البحرين فتشركهم في دعوة النبي ، فأنتشرّ قومك، حتى إذا أبرزك الإسلام، وخلطك بالناس، وحملك على الأمم التي كانت عليك؛ أقبلت تبغي دين الله عوجًا؛ وتنزع إلى الللآمة والذلّة. ولا يضع ذلك قريشًا، ولن يضرّهم، ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم؛ إنّ الشيطان عمم غير غافل، قد عرفكم بالشرّ من بين أمتكم، فأغرى بكم الناس؛ وهو صارعكم. لقد علم أنه لا يستطيع أن يردّ بكم قضاء قضاه الله، ولا أمرًا أراده الله، ولا تدركون بالشرّ أمرًا أبدًا إلا فتح الله عليكم شرًّا منه وأخزى.
ثم قام وتركهم؛ فتذامروا. فتقاصرت إليهم أنفسهم، فلمّا كان بعد ذلك أتاهم فقال: إني قد أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم؛ لا والله لا ينفع الله بكم أحدًا ولا يضرّه؛ ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرّة؛ ولكنكم رجال نكير. وبعد، فإن أردتم النجاة فألزموا جماعتكم؛ وليسعكم ما وسع الدَّهماء، ولا يبطرنّكم الإنعام، فإن البطر لا يعتري الخيار؛ اذهبوا محيث شئتم، فإني كاتب إلى أمير المؤمنين فيكم.
فلمّا خرجوا دعاهم فقال: إني معيد عليكم. إنّ رسول الله كان معصومًا فولّاني، وأدخلني في أمره، ثم استخلف أبو بكر رضي الله عنه فولّاني، ثمّ استخلف عمر فولّاني، ثم استخلف عثمان فولّاني.
فلم أل لأحد منهم مولم يولِّني إلا وهو راضٍ عني؛ وإنما طلب رسول الله للأعمال أهل الجزاء عن المسلمين والغناء؛ ولم يطلب لها أهل اللاجتهاد والجهل بها والضعف عنها؛ وإن الله ذو سطوات ونقمات يمكر بمن مكر به، فلا تعرضوا لأمر وأنتم تعلمون من أنفسكم غير ما تظهرون؛ فإنّ الله غير تارككم حتى يختبركم ويبدي لناس سارئركم؛ وقد قال عزّ وجل: " الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنَّا وهم لا يفتنون ".
وكتب معاوية إلى عثمان: إنه قدم علي أقوام ليست لهم عقول ولا أديان، أثفلهم الإسلام، وأضجرهم العدل؛ لا يريدون الله بشيء، ولا يتكلّمون بحجّة؛ إنما همّهم الفتنة وأموال أهل الذمة؛ والله مبتليهم ومختبرهم، ثم فاضحهم ومخزيهم؛ وليسوا بالذين ينكون أحدًا إلا مع غيرهم، فإنه سعيدًا ومن قبله عنهم؛ فإنهم ليسوا لأكثر من شغب أو نكير.
وخرج القوم من دمشق فقالوا: لا ترجعوا إلى الكوفة، فإنهم يسمتون بكم، وميلوا بنا إلى الجزيرة، ودعوا العراق والشام. فأووا إلى الجزيرة، وسمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد - وكان معاوية قد ولّاه حمص وولى عامل الجزيرة حرّان والرّقة - فدعا بهم، فقال: يا آلة الشيطان، لا مرحبًا بكم ولا أهلًا! قد رجع الشيطان محشورًا وأنتم بعد نشاط؛ خسرر الله عبد الرحمن إن لم يؤدّ بكم حتى يحسركم. يا معش من لا أدري أعرب أم عجم، لكي لا تقولوا لي ما يبلغني أنكمتقولون لمعاوية؛ أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن من قد عجمته العاجمات، أنا ابن فاقيء الردة، والله لئن بلغني يا صعصعة ابن ذلّ أنّ أحدًا ممن معي دق أنفك ثم أمصّك لأطيرنّ بك طيرة بعيدة المهوى. فأقامهم أشهرًا كلّما ركب أمشاهم، فإذا مرّ به صعصعة قال: يابن الحطيئة، أعلمت أنّ من لم يصلحه الخير أصلحه الشر! مالك لا تقول كما كان يبلغني أنّك تقول لسعيد ومعاوية! فيقول ويقولون: نتوب إلى الله، أقلنا أقالك الله! فما زالوا به حتى قال تاب الله عليكم.
وسرّح الأشتر إلى عثمان، وقال لهم: ما شئتم، إن شئتم فاخرجوا، وإن شئتم فأقيموا. وخرج الأشتر، فأتى عثمانب التوبة والندم ولانزوع عنه وعن أصحابه فقال: سلمكم الله. وقدم سعيد بن العاص، فقال عثمان للأشتر: احلل حيث شئت، فقال: مع عبد الرحمن بن خالد؟ وذكر من فضله، ذاك إليكم، فرجعإلى عبد الرحمن.