فاستخلف الناس، وجعل أهل الحجي بنهونه فلا يسمع منهم، وكانت نفجة، فخرج يزيد، وأمر مناديًا ينادي: من شاء أن يلحق بيزيد ابن قيس لرد سعيد وطلب أمير غيره فليفعل. وبقي حلماء الناس وأشرافهم ووجوههم في المسجد، وذهب من سواهم، وعمرو بن حريث يومئذ الخليفة، فصعد المنبرفحمد الله وأثنى عليه، وقال: اذكروانعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا، بعد أن كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، فلاتعودوا في شرّ قد استنقذكم الله عز وجل منه. أبعد الإسلام وهديه وسنّته لا تعرفون حقًّا، ولا تصيبون بابه! فقال القعقاع بن عمرو: أتردّ السيل عن عبابه! فاردد الفرات عن أدراجه، هيهات! لا واه لا تسكّن الغوغاء إلا المشرفيّة ويوشك أن تنتضي، ثم يعجّون عجيج العتدان ويتمنّون ما هم فيه فلا يردّه الله عليهم أبدًا. فاصبر؛ فقال: أصبر، وتحوّل إلى منزله، وخرج يزيد ابن قيس حتى نزل الجرعة، ومعه الأشتر، وقد كان سعيد تلبّث في الطريق، فطلع عليهم سعيد وهم مقيمون له معسكرون، فقالوا: لا حاجة لنا بك. فقال: فما اختلفتم الآن؛ إنما كان يكفيكم أن تبعثوا إلى أمير المؤمنين رجلًا وتضعوا إلي رجلًا. وهل يخرج الألف لهم عقول إلى رجل! ثمان صرف عنهم وتحسَّسوا بمولى له على بعير قد حسر، فقال: والله ما كان ينبغي لسعيد أن يرجع. فضرب الأشتر عنقه، ومضى سعيد حتى قدم على عثمان، فأخبره الخبر، فقال: ما يريدون؟ قال: أبا موسى؛ قال: قد أثبتنا أبا موسى عليهم، ووالله لا نجعل لأحد عذرًا، ولا نترك لهم حجّة، ولنصبرنّ كما أمرنا حتى نبلغ مما يريدون. ورجع من قرب علمه من الكوفة، ورجع جرير من قرقيسياء وعتيبة من حلوان. وقام أبو موسى فتكلّم بالكوفة فقال: أيَّها الناس، لا تنفروا في مثل هاذ، ولا تعودوا لمثله، الزموا جماعتكم والطاعة؛ وإيَّاكم والعجلة، اصبروا، فكأنكم بأمير. قالوا: فصلّ بنا، قال لا، إلا على السمع والطاعة لعثمان بن عفان؛ قالوا: على السمع والطاعة لعثمان.
حدثني جعفر بن عبد الله المحمدي، قال: حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة وعلي بن حسين بن عيسى. قالا: حدثنا حسين بن عيسى، عن أبيه، عن هارون بن سعد، عن العلاء بن عبد الله بن زيد العنبري، أنّه قال: اجتمع ناس من المسلمين، فتذاكروا أعمال عثمان وما صنع، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا إليه رجلًا يكلّمه، ويخبره بإحداثه، فأرسلوا إليه عامر ابن عبد الله التميمي ثم العنبري - وهو الذي يدعى عامر بن عبد قيس - فأتاه، فدخل عليه، فقال له: إنّ ناسًا من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك. فوجدوك قد ركبت أمورًاعظامًا، فاتّق الله عز وجل وتب إليه، وانزع عنها. قال له عثمان: انظر إلى هذا، فإنّ الناس يزعمون أنه قارىء.
ثم هو يجيء فيكلّمني في المحقّرات، فو الله ما يدري أين الله! قال عامر: أنا لا أدري أين الله! قال: نعم، والله ما تدري أين الله؛ قال عامر: بلى والله إني لأدري أنّ الله بالمرصاد لك.
فأرسل عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان، وإلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وإلى سعيد بن العاص، وإلى عمرو بن العاص بن وائل السهمي، وإلى عبد الله بن عامر؛ فجمعهم ليشاورهم في أمره وما طلب إليه، وما بلغه عنهم، فلما اجتمعوا عنده قال لهم: إنّ لكلّ امرىء وزراء ونصحاء، وإنّكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي، وقد صنع الناس ما قد رأيتم، وطلبوا إلي أن أعزل عمّالي، وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبّون، فاجتهدوا رأيكم، وأشيروا علي.
فقال له عبد الله بن عامر: رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك. وأن تجمّرهم في المغازي حتى يذلُّوا لك فلا يكون همّة أحدهم إلّا نفسه، وما هو فيه من دبرة دابته، وقمل فروه. ثم أقبل عثمان على سعيد بن العاص فقال له: ما رايك؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن كنت ترى رأينا فاحسم عنك الداء، واقطع عنك الذي تخاف، واعمل برأيي تصب؛ قال: وما هو؟ قال: إنّ لكل قوم قادةً متى تهلك يتفرّقوا، ولا يجتمع لهم أمر، فقال عثمان: إنّ هذا الرأي لولا ما فيه. ثم أقبل معاوية فقال: ما رأيك؟ قال: أرى لك يا أمير المؤمنين أن تردذ عمّالك على الكفاية لما قبلهم، وأنا ضامن لك قبلي.
ثم أقبل على عبد الله بن سعد، فقال: ما رأيك؟ قال: أرى يا أمير المؤمنين أنّ الناس أهل طمع، فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم. ثم أقبل على عمرو بن العاص فقال له: ما رأيك؟ قال: أرى أنك قد ركبت الناس بما يكرهون؛ فاعتزم أن تعتدل، فإن أبيت فاعتزم عزمًا، وامض قدمًا؛ فقال عثمان: مالك قمل فروك؟ أهذا الجدّ منك! فأسكت عنه دهرًا، حتى إذا تفرّق القوم قال عمرو: لا والله يا أمير المؤمنين، لأنت أعزُّ علي من ذلك، ولكن قد علمت أن سيبلغ الناس قول كلّ رجل منا، فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي، فأقود إليك خيرًا، أو أدفععنك شرًّا.
حدثني جعفر، قال: حدثنا عمرو بن حمّاد وعلي بن حسين، قالا: حدثنا حسين، عن أبيه، عن عمرو بن أبي المقدام، عن عبد الملك ابن عمير الزُّهري، أنه قال: جمع عثمان أمراء الأجناد: معاوية بن أبي سفيان، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن عامر، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعمرو بن العاص، فقال: أشيروا علي، فإنّ الناس قد تنممّروا لي، فقال له معاوية: أشيرعليك أن تأمر أمراء أجنادك فكيفيك كلّ رجل منهم ما قبله، وأكفيك أناأهل الشأم؛ فقال لهعبد الله بن عامر: أرى لك أن تجمّرهم في هذه البعوث حتى يهمّ كلّ رجل منهم دبر دابّته، وتشغلهم عن الإرجاف بك، فقال عبد الله بن سعد: أشير عليك أن تنظر ما أسخطهم فترضيهم، ثم تخرج لهم هذا المال فيقسم بينهم.
ثم قام عمرو بن العاص فقال: يا عثمان؛ إنك قد ركبت الناس بمثل بني أمية، فقلت وقالوا، وغت وزاغوا، فاعتدل أو اعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزمًا، وامض قدمًا؛ فقال له عثمان: مالك قمل فروك! أهذا الجدّ منك! فأسكت عمرو حتى إذا تفرٌّوا قال: لا والله يا أمير المؤمنين، لأنت أكرم عليَّ من ذلك، ولكني قد علمت أنّ بالباب قومًا قد علموا أنك جمعتنا لنشير عليك، فأحببت أن يلغهم قول، فأقود لك خيرًا، أو أدفع عنك شرًّا. فردّ عثمان عمّاله على أعمالهم، وأمرهم بالتضييق على من قبلهم، وأمرهم بتجمير الناس في البعوث، وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه، ويحتاجوا إليه، وردّ سعيد بن العاص أميرًا على الكوفة، فخرج أهل الكوفة عليه بالسلاح، فتلقَّوه فردّوه، وقالوا: لا والله لا بلى علينا حكمًا ما حملنا سيوفنا.
حدثني جعفر، قال: حدثنا عمرو وعلي بن حسين، عن أبيه، عن هارون بن سعد، عن أبي يحيى عمير بن سعد النخعي، أنه قال: كأني أنظر إلى الأشتر مالك بن الحارث النَّخعي على وجهه الغبار، وهو متقلد السيف، وهو يقول: والله لا يدخلها عليها ما حملنا سيوفنا - يعني سعيدًا، وذلك يوم الجرعة، والجرعة مكان مشرف قرب القادسيّة - وهناك تلقاه أهل الكوفة.
حدثني جعفر، قال: حدثنا عمرو وعلي، قالا: حدثنا حسين، عن أبيه، عن هارون بن سعد، عن عمرو بن مرّة الجملي، عنأبي البختري الطائي، عن أبي ثور الحداثي - وحداء حيٌّ من مراد - أنه قال: دفعت إلى حذيفة بن اليمان وأبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري وهما في مسجد الكوفة يوم الجرعة، حيث صنع الناس بسعيد بن العاص ما صنعوا، وأبو مسعود يعظم ذلك، ويقول: ما أرى أن تردّ على عقبيها حتَّى يكون فيها دماء، فقال حذيفة: والله لتردّنّ على عقبيها، ولا يكون فيها محجمة من دم، وما أعلم منها اليوم شيئًا إلّا وقد علمته ومحمد حي؛ وإنّ الرجل ليصبح على الإسلام ثم يمسي وما معه منه شيء، ثم يقاتل أهل القبلة ويقتله الله غدًا، فينكص قلبه، فتعلوه استه. فقلت لأبي ثور: فلعلّه قد كان، قال: لا ولله ما كان. فلما رجع سعيد بن العاص إلى عثمان مطرودًا، أرسل أبا موسى أميرًا على الكوفة، فأقرُّوه عليها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن يحيى بن مسلم، عن واقد بن عبد الله، عن عبد الله بن عمير الأشجعي، قال: قام في المسجد في الفتنة ففال: أيّها لاناس، اسكتوا، فإنّي سمعت رسول الله يقول: من خرج وعلى الناس إمام - والله ما قال: عادل - ليشقّ عصاهم، ويفرّق جماعتهم، فاقتلوه كائنًا من كان.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما استعوى يزيد بن قيس الناس على سعيد بن العاص، خرج منه ذكر لعثمان؛ فأقبل إليه القعقاع بن عمرو حتى أخذه، فقال: ما تريد؟ ألك علينا في أن نستعفي سبيل؟ قال: لا، فهل إلّا ذلك؟ قال: لا، قال: فاستعف. واستجلب يزيد أصحابه من حيث كانوا، فردّوا سعيدًا، وطلبوا أبا موسى، فكتب إليهم عثمان: بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد، فقد أمَّرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد، والله لأفرشنّكم عرضي، ولأبذلنّ لكم صبري، ولأستصلحنّكم بجهدي، فلا تدعوا شيئًا أحببتموه لا يعصي الله فيه إلّا سألتموه، ولا شيئًا كرهتموه لا يعصي الله فيه إلّا استعفيتم منه؛ أنزل فيه عندما أحببتم، حتى لايكون لكم علي حجّة.
وكتب بمثل ذلك في الأمصار، فقدمت إمارة أبي موسى وغزو حذيفة وتأمّر أبو موسى، ورجع العمَّال إلى أعمالهم، ومضى حذيفة إلى الباب.
وأما الواقدي فإنه زعم أن عبد الله بن محمد حدثه، عن أبيه، قال: لما كانت سنة أربع وثلاثين كتب أصحاب رسول الله بعضهم إلى بعض: أن اقدموا، فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد وكثّر الناس على عثمان، ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد، وأصحاب رسول الله يرون ويسمعون؛ ليس فيهم أحد ينهي ولا يذبّ إلّا نفير؛ منهم زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعدي، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت. فاجتمع الناس، وكلّموا علي بن أبي طالب. فدخل علي عثمان، فقال: الناس ورائي، وقد كلّموني فيك، والله ما أدري ما أقول لك، وما أعرف شيئًا تجهله، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه؛ إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه، وما خصصنا بامر دونك، وقد رأيت وسمعت، وصحبت رسول الله ونلت صهره، وما ابن أبي قحافة بألوى بعمل الحقّ منك، ولا بان الخطاب بأولى بشيء من الخير منك، وإنك أقرب إلى رسول الله رحمًا، ولقد نلت من صهر رسول الله ما لم ينالا، ولا سبقاك إلى شيء. فالله الله في نفسك، فإنك والله ما تبصر منعمي، ولا تعلَّم من جهل، وإنّ الطريق لواضح بيّن، إنّ أعلام الدين لقائمة. تعلَّم يا عثمان أنّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادل، هدى وهدى، فأقام سنّةً معلومة، وأمات بدعة متروكة، فو الله إنّ كلًّا لبيِّن، وإن السُّننن لقائمة لها أعلام، وإن البدع لقائمة لها أعلام، وإن شرّ الناس عند الله إمام جائر، ضلّ وضلَّ به، فأمات سنَّة معلومة، وأحيا بدعة متروكة، وإنّي سمعت رسول الله يقول: يؤتي يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر، فيلقى في جهنم، فيدور في جهنم كما تدور الرحا، ثم يرتطم فيغمرة جهنم. وإني أحذّرك الله، وأحذّرك سطوته ونقامته؛ فإنّ عذابه شديد أليم. وأحذّرك أن تكون إما هذه الأمة المقتول، فإنه يقال: يقتل في هذه الأمة إمام، فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ولبسَّ أمورها عليها، ويتركهم شعيًا، فلا يبصرون الحقّ لعلوّ بالباطل؛ بموجون فيها موجًا، ويمرجون فيها مرجًا.
فقال عثمان: قد والله علمت، ليقولن الذي قلت، أما والله لو كنت مكاني مما عنّفتك، ولا أسلمتك، ولا عبت عليك، ولا جئت منكرًا أن وصلت رحمًا، وسددت خلّة، وآويت ضائعًا، وولّيت شبيهًا بمن كان عمر يولِّي. أنشدك الله يا علي، هل تعلم أنّ المغيرة بن شعبة ليس هناك! قال: نعم؛ قال: فتعلم أنّ عمر ولّاه؟ قال: نعم، قال: فلم تلومني أن ولّيت ابن عامر في رحمه وقرابته؟ قال علي: سأخبرك، إنّ عمر ابن الخطاب كان كلُّ من ولي فإنما يطأ على صماخه، إنْ بلغه عنه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى الغابة؛ وأنت لا تفعل، ضعفت ورفقت على أقربائك.