فقال عثمان: فرغتم من جميع ما تريدون؟ قالوا: نعم، قال: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إليه إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمدًا عبده ورسلوه؛ أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون. أمّا بعد، فإنكم لم تعدلوا في المنطق، ولم تنصفوا في القضاء؛ أما قولكم: تخلع نفسك، فلا أنزع قميصًا قمَّصنيه الله عز وجل وأكرمني به، وخصّني به على غيري؛ ولكني أتوب وأنزع ولا أعود لشيء عابه المسلمون؛ فإني والله الفقير إلى الله الخائف منه. قالوا: إنّ هذا لو كان أوّلأ حدث أحدثته ثم تبت منه ولم تقم عليه؛ لكان علينا أن نقبل منك، وأن ننصرف عنك؛ ولكنه قد كان منك من الإحداث قبل هذا ما قد علمت، ولقد انصرفنا عنك في المرة الأولى، وما نخشى أن تكتب فينا، ولا من اعتللت به بما وجدنا في كتابك مع غلامك. وكيف نقبل توبتك وقد بلونا منك أنك لا تعطى من نفسك التوبة من ذنب إلّا عدت إليه؛ فلسنا منصرفين حتى نعزلك ونستبدل بك، فإن حال من معك من قومك وذوي مرحمك وأهل الانقطاع إليك دونك بقتال قاتلناهم؛ حتى نخلص إليك فنقتلك أو تلحق أرواحنا بالله. مفقال عثمان: أمَّا أن أتبرَأ من الإمارة؛ فإن تصلبوني أحبّ إلي من أن أتبرّأ من أمر الله عز وجل وخلافته. وأما قولكم: تقاتلون من قاتل دوني؛ فإنّي لا آمر أحدًا بقتالكم، لقد كنت كتبت إلى الأجناد فقادوا الجنود، وبعثوا الرجال، أو لحقت ببعض أطرافي بمصر أو عراق؛ فالله الله في أنفسكم فأبقوا عليها إن لم تبقوا علي؛ فإنكم مجتلبون بهذا الأمر - إن قتلتموني - دمًا. قال: ثمّ انصرفوا عنه وآذنوه بالحرب، وأرسل إلى محمد بن مسلمة فكلّمه أن يردّهم، فقال: والله لا أكذب الله في سنة مرتين.
قال محمد بن عمر: حدثني محمد بن مسلم، عن موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة، قال: نظرت إلى سعد بن أبي وقاص يوم قتل عثمان؛ دخل عليه ثم خرج من عنده وهو يسترجع مما يرى على الباب؛ فقال له مروان: الآن تندم! أنت أشعرته. فأسمع سعدًا يقول: أستغفر الله، لم أكن أظنّ الناس يجترئون هذه الجرأة، ولا يطلبون دمه، وقد دخلت عليه الآن فتكلم بكلام لم تحضره أنت ولا أصحابك، فنزع عن كلّ ما كره منه، وأعطى التوبة، وقال: لا أتمادى في الهلكة؛ إنّ من تمادى في الجور كان أبعد من الطريق؛ فأنا أتوب وأنزع. فقال مروان: إن كنت تريد أن تذبّ عنه؛ فعليك بابن أبي طالب، فإنه متستّر، وهو لا يجبه؛ فخرج سعد حتى أتى عليًّا وهو بين القبر والمنبر، فقال: يا أبا حسن؛ قم فداك أبي وأمّي! جئتك والله بخير ما جاء به أحد قطّ إلى أحد، تصل رحم ابن عمّك، وتأخذ بالفضل عليه، وتحقن دمه، ويرجع الأمر على ما نحبّ، قد أعطى خليفتك من نفسه الرضا. فقال علي: تقبّل الله منه يا أبا إسحاق! والله ما زلت أذبّ عنه حتى إني لأستحي؛ ولكن مروان ومعاوية وعبد الله بن عامر وسعيد ابن العاص هم صنعوا به ما ترى؛ فإذا نصحته وأمرته أن ينحّيهم استغشّني حتى جاء ما ترى. قال: فبينا هم كذلك جاء محمد بن أبي بكر. فسارّ عليًّا؛ فأخذ علي بيدي، ونهض علي وهو يقول: وأي خير توبته هذه! فوالله ما بلغت داري حتى سمعت الهائعة؛ أن عثمان قد قتل؛ فلم نزل والله في شرّ إلى يومنا هذا.
قال محمد بن عمر: وحدثني شرحبيل بن أبي عون، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، قال: لما خرج المصريّون إلى عثمان رضي الله عنه، بعث عبد الله بن سعد رسولًا أسرع السير يعلم عثمان بمخرجهم، ويخبره أنهم يظهرون أنهم يريدون العمرة. فقدم الرسول على عثمان بن عفان، يخبرهم فتكلم عثمان، وبعث إلى أهل مكة يحذّر من هناك هؤلاء المصريين، ويخبّرهم أنهم قد طعنوا على إمامهم. ثمّ إن عبد الله بن سعد خرج إلى عثمان في آثار المصريين - وقد كان كتب إليه يستأذنه في القدوم عليه، فأذن له - فقدم ابن سعد؛ حتى إذا كان بأيلة بلغه أنّ المصريين قد رجعوا إلى عثمان، وأنهم قد حصروه، ومحمد بن أبي حذيفة بمصر؛ فلما بلغ محمدًا حصر عثمان وخروج عبد الله بن سعد عنه غلب على مصر، فاستجابوا له، فأقبل عبد الله بن سعد يريد مصر، فمنعه ابن أبي حذيفة، فوجّه إلى فلسطين، فأقام بها حتى قتل عثمان رضي الله عنه، وأقبل المصريون حتى نزلوا بالأسواف، فحصروا عثمان، وقدم حكيم بن جبلة من البصرة في ركب، وقدم الأشتر في أهل الكوفة، فتوافوا بالمدينة، فاعتزل الأشتر؛ فاعتزل حكيم بن جبلة، وكان ابن عديس وأصحابه هم الذين يحصرون عثمان، فكانوا خمسمائة، فأقاموا على حصاره تسعة وأربعين يومًا، حتى قتل يوم الجمعة لثمان عشرة ليلة مضت من ذي الحجّة سنة خمس وثلاثين.
قال محمد: وحدثني إبراهيم بن سالم، عن أبيه، عن بسر بن سعيد، قال: وحدثني عبد الله بن عيّاش بن أبي ربيعة، قال: دخلت على عثمان رضي الله عنه، فتحدثت عنده ساعة، فقال: يا بن عياش، تعال. فأخذ بيدي، فأسمعني كلام من على باب عثمان، فسمعنا كلامًا؛ منهم من يقول: ما تنتظرون به؟ ومنهم من يقول: انظروا علسى أن يراجع، فبينا أنا وهو واقفان إذ مرّ طلحة بن عبيد الله؛ فوقف فقال: أين ابن عديس؟ فقيل: ها هو ذا، قال: فجاءه ابن عديس، فناجاه بشيء، ثم رجع ابن عديس فقال لأصحابه: لا تتركوا أحدًا يدخل على هذا الرجل؛ ولا يخرج من عنده. قال: فقال لي عثمان: هذا ما أمر به طلحة بن عبيد الله. ثم قال عثمان: اللهمّ اكفني طلحة بن عبيد الله، فإنه حمل علي هؤلاء وألّبهم؛ والله إني لأرجو أن يكون منها صفرًا، وأن يسفك دمه، إنه انتهك مني ما لا يحلّ له، سمعت رسول الله يقول: " لا يحلّ دم امرىء مسلم إلا في إحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه فيقتل، أو رجل زنى بعد إحصانه فيرجم، أو رجل قتل نفسًا بغير نفس "، ففيم أقتل! قال: ثم رجع عثمان. قال ابن عياش: فأردت أن أخرج فمنعوني حتى مرّ بي محمد بن أبي بكر فقال: خلّوه، فخلّوني.
قال محمد: حدثني يعقوب بن عبد الله الأشعري، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، قال: رأيت اليوم الذي دخل فيه على عثمان، فدخلوا من دار عمرو بن حزم خوخة هناك حتى دخلوا الدار، فناوشوهم شيئًا من مناوشة ودخلوا، فوالله ما نسينا أن خرج سودان بن حمران، فأسمعه يقول: أين طلحة بن عبيد الله؟ قد قتلنا ابن عفان! قال محمد بن عمر: وحدثني شرحبيل بن أبي عون، عن أبيه، عن أبي حفصة اليماني، قال: كنت لرجل من أهل البادية من العرب، فأعجبته - يعني مروان - فاشتراني واشترى امرأتي وولدي فأعتقنا جميعًا؛ وكنت أكون معه، فلما حصر عثمان رضي الله عنه، شمّرت معه بنو أمية، ودخل معه مروان الدار. قال: فكنت معه في الدار، قال: فأنا والله أنشبت القتال بين الناس؛ رميت من فوق الدار رجلًا من أسلم فقتلته؛ وهو نيار الأسلمي، فنشب القتال، ثم نزلت، فاقتتل الناس على الباب، وقاتل مروان حتى سقط فاحتملته، فأدخلته بيت عجوز، وأغلقت عليه، وألقى الناس النيران في أبواب دار عثمان، فاحترق بعضها، فقال عثمان: ما احترق الباب إلّا لما هو أعظم منه، لا يحرّكنّ رجل منكم يده؛ فوالله لو كنت أقصاكم لتخطّوكم حتى يقتلوني، ولو كنت أدناكم ما جاوزوني إلى غيري، وإني لصابر كما عهد إلي رسول الله ، لأصرعنّ مصرعي الذي كتب الله عز وجل. فقال مروان: والله لا تقتل وأنا أسمع الصوت، ثم خرج بالسيف على الباب يتمثّل بهذا الشعر:
قد علمت ذات القرون الميل ** والكفّ والأنامل الطفول
أنّي أروع أوّل الرعيل ** بفارةٍ مثل قطا الشليل
قال محمد: وحدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل، عن أبيه، عن أبي حفصة، قال: لما كان يوم الخميس دلّيت حجرًا من فوق الدار، فقتلت رجلًا من أسلم يقال له نيار، فأرسلوا إلى عثمان: أن أمكنّا من قاتله. قال: والله ما أعرف له قاتلًا، فباتوا ينحرفون علينا ليلة الجمعة بمثل النيران، فلما أصبحوا غدوا، فأوّل من طلع علينا كنانة بن عتّاب، في يده شعلة من نار على ظهر سطوحنا، قد فتح له من دار آل حزم، ثم دخلت الشعل على أثره تنضح بالنّفط؛ فقاتلناهم ساعة على الخشب، وقد اضطرم الخسب، فأسمع عثمان يقول لأصحابه: ما بعد الحريق شيء! قد احترق الخشب، واحترقت الأبواب، ومن كانت لي عليه طاعة فليمسك داره؛ فإنما يريدني القوم، وسيندمون على قتلي؛ والله لو تركوني لظننت أني لا أحبّ الحياة؛ ولقد تغيّرت حالي، وسقط أسناني، ورقّ عظمي.
قال: ثم قال لمروان: اجلس فلا تخرج، فعصاه مروان، فقال: والله لا تقتل، ولا يخلص إليك، وأنا أسمع الصوت، ثم خرج إلى الناس. فقلت: ما لمولاي متّرك! فخرجت معه أذبّ عنه، ونحن قليل، فأسمع مروان يتمثّل:
قد علمت ذات القرون الميل ** والكفّ والأنامل الطفول
ثم صاح: من يبارز؟ وقد رفع أسفل درعه؛ فجعله في منطقته. قال: فيثب إليه ابن النباع فضربه ضربة على رقبته من خلفه فأثبته؛ حتى سقط، فما ينبض منه عرق، فأدخلته بيت فاطمة ابنة أوس جدّة إبراهيم بن العدي. قال: فكان عبد الملك وبنو أميّة يعرفون ذلك لآل العدي.
حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم، قال: حدثنا عبد الرحمن بن شريك، قال: حدثني أبي، عن محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن الأخنس، عن ابن الحراث بن أبي بكر، عن أبيه أبي بكر بن الحارث بن هشام، قال: كأني أنظر إلى عبد الرحمن بن عديس البلوي وهو مسند ظهره إلى مسجد نبي الله وعثمان بن عفان رضي الله عنه محصور، فخرج مروان بن الحكم، فقال من يبارز؟ فقال عبد الرحمن بن عديس لفلان ابن عروة: قم إلى هذا الرجل، فقام إليه غلام شابّ طوال؛ فأخذ رفرف الدرع فغرزه في منطقته، فأعور له عن ساقه، فأهوى له مروان وضربه ابن عروة على عنقه، فكأني أنظر إليه حين استدار. وقام إليه عبيد بن رفاعة الزرفي ليدفّف عليه، قال: فوثبت عليه فاطمة ابنة أوس جدّة إبراهيم ابن عدي - قال: وكانت أرضعت مروان وأرضعت له - فقالت: إن كنت إنما تريد قتل الرجل فقد قتل؛ وإن كنت تريد أن تلعب بلحمه فهذا قبيح. قال: فكفّ عنه. فما زالوا يشكرونها لها، فاستعلموا ابنها إبراهيم بعد.
وقال ابن إسحاق: قال عبد الرحمن بن عديس البلوي حين سار إلى المدينة من مصر:
أقبلن من بلبيس والصّعيد ** مستحقبات حلق الحديد
يطلبن حقّ الله في سعيد ** حتى رجعن بالذي نريد
حدثني جعفر بن عبد الله المحمدي، قال: حدثنا عمرو بن حماد وعلي بن حسين، قالا: حدثنا حسين بن عيسى، عن أبيه، قال: لما مضت أيام التشريق أطافوا بدار عثمان رضي الله عنه، وأبى إلّا الإقامة على أمره، وأرسل إلى حشمه وخاصّته فجمعهم، فقام رجل من أصحاب النبي يقال له نيار بن عياض - وكان شيخًا كبيرًا - فنادى: يا عثمان؛ فأشرف عليه من أعلى داره؛ فناشده الله، وذكّره الله لمّا اعتزلهم! فبينا هو يراجعه الكلام إذ رماه رجل من أصحاب عثمان فقتله بسهم، وزعموا أنّ الذي رماه كثير بن الصلت الكندي؛ فقالوا لعثمان عند ذلك: ادفع إلينا قاتل نيار بن عياض فلنقتله به، فقال: لم أكن لأقتل رجلًا نصرني وأنتم تريدون قتلي؛ فلمّا رأوا ذلك ثاروا إلى بابه فأحرقوه؛ وخرج عليهم مروان بن الحكم من دار عثمان في عصابة، وخرج سعيد بن العاص في عصابة، وخرج المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زُهرة في عصابة؛ فاقتتلوا قتالًا شديدًا؛ وكان الذي حداهم على القتال أنه بلغهم أن مددًا من أهل البصرة قد نزلوا صرارًا - وهي من المدينة على ليلة - وأن أهل الشام قد توجّهوا مقبلين، فقاتلوهم قتالًا شديدًا على باب الدار، فحمل المغيرة بن الأخنس الثقفي على القوم وهو يقول مرتجزًا: