وحدثنا الزبير بن بكّار، قال: حدثني عمي مصعب بن عبد الله، قال: حدثني أبي عبد الله بن مصعب، عن موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة مولى الزبير، قال: لما قتل الناس عثمان رضي الله عنه وبايعوا عليًّا، جاء عليٌّ إلى الزبير فاستأذن عليه، فأعلمته به، فسلّ السيف ووضعهتحت فراشه، ثم قال: ائذن له، فأذنت له، فدحل فسلّم على الزبير وهو واقف بنحره، ثمّ خرج. فقال الزبير، لقد دخل المرء ما أقصاه، قم في مقامه فانظر هل ترى من السيف شيئًا؟ فقمت في مقامه فرأيت ذباب السيف، فأخبرته فقال: ذاك أعجل الرجل. فلما خرج علي سأله الناس، فقال: وجدت أبرّ ابن أخت وأوصله. فظنّ الناس خيرًا، فقال علي: إنه بايعه.
ومما كتب به إلي السري، عن شعيب، عن سيف بن عمر، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن سواد بن نويرة، وطلحة بن الأعلم، وأبو حارثة، وأبو عثمان، قالوا: بقيت المدينة بعد قتل عثمان رضي الله عنه خمسة أيام، وأميرها الغافقي بن حرب يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه، يأتي المصريّون عليًّا فيختبىء منهم ويلوذ بحيطان المدينة، فإذا لقوه باعدههم وتبرّأ منهم ومن مقالتهم مرّة بعد مرّة؛ ويطلب الكوفيون الزبير فلا يجدونه، فأرسلوا إليه حيث هو رسلًا، فباعدهم وتبرّأ من مقالتهم؛ ويطلب البصريّون طلحة فإذا لقيهم باعدهم وتبرّأ من مقالتهم؛ مرّة بعد مرّة؛ وكانوا مجتمعين على قتل عثمان مختلفين فيمن يهوون، فلما لم يجدوا ممالئًا ولا مجيبًا جمعهم الشرّ على أولّ من أجابهم، وقالوا: لا نولّى أحدًا من هؤلاء الثلاثة، فبعثوا إلى سعد بن أبي وقّاص وقالوا: إنك من أهل الشورى فرأينا فيك مجتمع، فاقدم نبايعك، فبعث إليهم: إني وابن عمر خرجنا منها فلا حاجة لي فيها على حال؛ وتمثّل:
لا تخلطنَّ خبيثات بطيِّبة ** واخلع ثيابك منها وانج عريانا
ثمّ إنهم أتوا ابن عمر عبد الله، فقالوا: أنت ابن عمر فقم بهذا الأمر، فقال: إنّ لهذا الأمر انتقامًا والله لا أتعرّض له، فالتمسوا غيري. فبقوا حيارى لا يدرون ما يصنعون والأمر أمرهم.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد، قال: كانوا إذا لقوا طلحة أبى وقال:
ومن عجب الأيام والدّهر أنني ** بقيت وحيدًا لا أمرّ ولا أحلي
فيقولون: إنّك لتوعدنا. فيقومون فيتركونه، فإذا لقوا الزبير وأرادوه أبى وقال:
متى أنت عن دار بفيحان راحل ** وباحتها تخنو عليك الكتائب
فيقولون: إنك لتوعدنا! فإذا لقوا عليًّا وأرادوه أبى، وقال:
لو أنّ قومي طاوعتني سراتهم ** أمرتهم أمرًا يديخ الأعاديا
فيقولون: إنك لتوعدنا! فيقومون ويتركونه.
وحدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن المدائني، قال: أخبرنا مسلمة بن محارب، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه أتى الناس عليًّا وهو في سوق المدينة، وقالوا له: ابسط يدك نبايعك، قال: لا تعجلوا فإنّ عمر كان رجلًا مباركًا، وقد أوصى بها شورى، فأمهلوا يجتمع الناس ويتشاورون. فارتدّ الناس عن علي؛ ثم قال بعضهم: إن رجع الناس إلى أمصارهم بقتل عثمان ولم يقم بعده قائم بهذا الأمر لم نأمن اختلاف الناس وفساد الأمة، فعادوا إلى علي، فأخذ الأشتر بيده فقبضها علي، فقال: أبعد ثلاثة! أما والله لئن تركتها لتقصرنّ عنيتك عليها حينًا، فبايعته العامّة. وأهل الكوفة يقولون: إنّ أوّل من بايعه الأشتر.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان، قالا: لما كان يوم الخميس على رأس خمسة أيام من مقتل عثمان رضي الله عنه، جمعوا أهل المدينة فوجدوا سعدًا والزّبير خارجين، ووجدوا طلحة في حائط له، ووجدوا بني أميّة قد هربوا إلّا من لم يطق الهرب، وهرب الوليد وسعيد إلى مكة في أوّل من خرج، وتبعهم مروان، وتتابع على ذلك من تتابع، فلما اجتمع لهم أهل المدينة قال لهم أهل مصر: أنتم أهل الشورى، وأنتم تعقدون الإمامة، وأمركم عابر على الأمة، فانظروا رجلًا تنصّبونه، ونحن لكم تبع. فقال الجمهور: علي بن أبي طالب نحن به راضون.
وأخبرنا علي بن مسلم، قال: حدثنا حبّان بن هلال، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، عن عوف، قال: أما أنا فأشهد أني سمعت محمد بن سيرين يقول: إنّ عليًّا جاء فقال لطلحة: ابسط يدك، قال: فبسط علي يده فبايعه.
وكتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: فقالوا لهم: دونكم يا أهل المدينة فقد أجّلناكم يومين، فوالله لئن لم تفرغوا لنقتلنّ غدًا عليًّا وطلحة والزّبير وأناسًا كثيرًا. فغشى الناس عليًّا فقالوا: نبايعك فقد ترى ما نزل بالإسلام؛ وما ابتلينا به من ذوي القربى، فقال علي: دعوني والتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمرًا له وجوه وله ألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول. فقالوا: ننشدك الله ألا ترى ما نرى! ألا ترى الإسلام! ألا ترى الفتنة! ألا تخاف الله! فقال: قد أجبتكم لما أرى، واعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني فإنما أنا كأحدكم، إلّا أني أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم. ثمّ افترقوا على ذلك واتّعدوا الغد. وتشاور الناس فيما بينهم وقالوا: إن دخل طلحة والزبير فقد استقامت. فبعث البصريّون إلى الزبير بصريًّا، وقالوا: احذر لاتحادّه - وكان رسولهم حكيم بن جبلة العبدي في نفر - فجاءوا به يحدّونه بالسيف. وإلى طلحة كوفيًا وقالوا له: احذر لاتحادّه، فبعثوا الأشتر في نفر فجاءوا به يحدّونه بالسيف. وأهل الكوفة وأهل البصرة شامتون بصاحبهم، وأهل مصر فرحون بما اجتمع عليه أهل المدينة، وقد خشّع أهل الكوفة وأهل البصرة أن صاروا أتباعًا لأهل مصر وحشوة فيهم، وازدادوا بذلك على طلحة والزّبير. غيظًا، فلما أصبحوا من يوم الجمعة حضر الناس المسجد، وجاء علي حتى صعد المنبر، فقال: يأيّها الناس - عن ملإ وإذن - إنّ هذا أمركم ليس لأحد فيه حقّ إلّا من أمرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر، فإن شئتم قعدت لكم، وإلّا فلا أجد على أحد. فقالوا: نحن على ما فارقناك عليه بالأمس. وجاء القوم بطلحة فقالوا: بايع، فقال: إني إنّما أبايع كرهًا، فبايع - وكان به شلل - أوّل الناس، وفي الناس رجل يعتاف، فنظر من بعيد، فلما رأى طلحة أوّل من بايع قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! أوّل يدٍ بايعت أمير المؤمنين يدٌ شلّاء، لا يتمّ هذا الأمر! ثم جىء بالزّبير فقال مثل ذلك وبايع - وفي الزبير اختلاف - ثمّ جىء بقوم كانوا قد تخلّفوا فقالوا: نبايع على إقامة كتاب الله في القريب والبعيد، والعزيز والذّليل، فبايعهم؛ ثمّ قام العامّة فبايعوا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي زهير الأزدي، عن عبد الرحمن بن جندب، عن أبيه، قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه واجتمع الناس على علي، ذهب الأشتر فجاء بطلحة، فقال له: دعني أنظر ما يصنع الناس، فلم يدعه وجاء به يتلّه تلًّا عنيفًا، وصعد المنبر فبايع.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس، عن الحارث الوالبي، قال: جاء حكيم بن جبلة بالزّبير حتى بايع؛ فكان الزبير يقول: جاءني لصّ من لصوص عبد القيس فبايعت واللّجّ على عنقي.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وبايع الناس كلهم.
قال أبو جعفر: وسمح بعد هؤلاء الذين اشترطوا الذين جىء بهم، وصار لأمر أمر أهل المدينة، وكانوا كما كانوا فيه، وتفرّقوا إلى منازلهم لولا مكان النزّاع والغوغاء فيهم.
اتساق الأمر في البيعة لعلي بن أبي طالب عليه السلام
وبويع علي يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجّة - والناس يحسبون من يوم قتل عثمان رضي الله عنه - فأوّل خطبة خطبها علي حين استخلف - فيما كتب به إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سليمان بن أبي المغيرة، عن علي بن الحسين - حمد الله وأثنى عليه، فقال: إنّ الله عز وجل أنزل كتابًا هاديًا بيّن فيه الخير والشرّ، فخذوا بالخير ودعوا الشرّ. الفرائض أدّوها إلى الله سبحانه يؤدكم إلى الجنّة. إنّ الله حرّم حرمًا غير مجهولة، وفضّل حرمة المسلم على الحرم كلّها، وشدّ بالإخلاص والتوحيد المسلمين. والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده إلا بالحقّ، لا يحلّ أذى المسلم إلّا بما يجب. بادروا أمر العامة، وخاصّة أحدكم الموت، فإنّ الناس أمامكم، وإنّ ما من خلفكم الساعة تحدوكم. تخفّفوا تلحقوا، فإنما ينتظر الناس أخراهم. اتّقوا الله عباده في عباده وبلاده، إنكم مسئولون حتى عن البقاع والبهائم، أطيعوا الله عز وجل ولا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به وإذا رأيتم الشرّ فدعوه، " واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض ".
ولما فرغ علي من خطبته وهو على المنبر قال المصريون:
خذها.. واحذرًا أبا حسن ** إنّا نمرّ الأمر إمرار الرسن
وإنما الشعر:
خذها إليك واحذرًا أبا حسن
فقال علي مجيبًا:
إني عجزت عجزة ما أعتذر ** سوف أكيس بعدها وأستمر
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: ولما أراد علي الذهاب إلى بيته قالت السبئيّة:
خذها إليك واحذرًا أبا حسن ** إنّا نمرّ الأمر إمرار الرسن
صولة أقوام كأسداد السفن ** بمشرفيّات كغدران اللبن
ونطعن الملك بلين كالشّطن ** حتى يمرّنّ على غير عنن
فقال علي وذكر تركهم العسكر والكينونة على عدة ما منّوا حين غمزوهم ورجعوا إليهم، فلم يستطيعوا أن يمتنعوا حتى..
إنّي عجزت عجزةً لا أعتذر ** سوف أكيس بعدها وأستمر
أرفع من ذيلي ما كنت أجرّ ** وأجمع الأمر الشتيت المنتشر
إن لم يشاغبني العجول المنتصر ** أو يتركوني والسّلاح يبتدر
واجتمع إلى علي بعد ما دخل طلحة والزّبير في عدّة من الصحابة، فقالوا: يا علي، إنّا قد اشترطنا إقامة الحدود، وإنّ هؤلاء القوم قد اشتركوا في دم هذا الرجل وأحلّوا بأنفسهم. فقال لهم: يا إخوتاه، إني لست أجهل ما تعلمون، ولكني كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم! ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، وثابت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعًا لقدرة على شيء مما تريدون؟ قالوا: لا، قال: فلا والله لا أرى إلّا رأيًا ترونه إن شاء الله؛ إنّ هذا الأمر أمر جاهليّة، وإنّ لهؤلاء القوم مادّة؛ وذلك أن الشيطان لم يشرع شريعة قطّ فيبرح الأرض من أخذ بها أبدًا. إنّ الناس من هذا الأمر إن حرّك على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا حتى يهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها وتؤخذ الحقوق، فاهدءوا عني وانظروا ماذا يأتيكم، ثمّ عودوا.
واشتدّ على قريش، وحال بينهم وبين الخروج على حال، وإنما هيّجه على ذلك هرب بني أميّة. وتفرّق القوم؛ وبعضهم يقول: والله لئن ازداد الأمر لا قدرنا على انتصار من هؤلاء الأشرار؛ لترك هذا إلى ما قال علي أمثل. وبعضهم يقول: نقضي الّذي علينا ولا نؤخّره، ووالله إنّ لعيّا لمستغنٍ برأيه وأمره عنا، ولا نراه إلّا سيكون على قريش أشدّ من غيره. فذكر ذلك لعلي فقام فحمد الله وأثنى عليه وذكر فضلهم وحاجته إليهم ونظره لهم وقيامه دونهم، وأنه ليس له من سلطانهم إلّا ذلك، والأجر من الله عز وجل عليه، ونادى: برئت الذمة من عبد لم يرجع إلى مواليه. فتذامرت السبئيّة والأعراب، وقالوا: لنا غدًا مثلها، ولا نستطيع نحتجّ فيهم بشيء.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: خرج علي في اليوم الثالث على الناس، فقال: يأيّها الناس، أخرجوا عنكم الأعراب. وقال: يا معشر الأعراب، الحقوا بمياهكم. فأبت السبئيّة وأطاعهم الأعراب. ودخل علي بيته ودخل عليه طلحة والزّبير وعدّة من أصحاب النبي، فقال: دونكم ثأركم فاقتلوه؛ فقالوا: عشوا عن ذلك، قال: هم والله بعد اليوم أعشى وآبى. وقال:
لو أنّ قومي طاوعتني سراتهم ** أمرتهم أمرًا يديخ الأعاديا
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 11 (0 من الأعضاء و 11 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)