وفيما ذكر نصر بن مزاحم العطار، عن عمر بن سعيد، عن أسد بن عبد الله، عمّن أدرك من أهل العلم: أن عبد خير الخيواني قام إلى أبي موسى فقال: يا أبا موسى، هل كان هذا الرجلان - يعني طلحة والزبير - ممن بايع عليّا؟ قال: نعم، قال: هل أحدث حدثًا يحلّ به نقض بيعته؟ قال: لا أدري، قال: لا دربت، فإنا تاركوك حتى تدري! يا أبا موسى هل تعلم أحدًا خارجًّا من هذه الفتنة التي تزعم أنها هي فتنة؟ إنما بقي أربع فرق: علي بظهر الكوفة، وطلحة والزبير بالبصرة، ومعاوية بالشأم، وفرقة أخرى بالحجاز، لا يجبي بها فيء، ولا يقاتل بها عدوّ؛ فقال له أبو موسى: أولئك خير الناس، وهي فتنة؛ فقال له عبد خير: يا أبا موسى، غلب عليك غشّك.
قال: وقد كان الأشتر قام إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين، إني قد بعثت إلى أهل الكوفة رجلًا قبل هذين فلم أره أحكم شيئًا ولا قدر عليه، وهذان أخلق من بعثت أن ينشب بهم الأمر على ما تحبّ، ولست أدري ما يكون، فإن رأيت - أكرمك الله - يا أمير المؤمنين أن تبعثي في أثرهم، فإنّ أهل المصر أحسن شيء لي طاعة، وإن قدمت عليهم رجوت ألّا يخالفني منهم أحجد. فقال له علي: الحق بهم؛ فأقبل الأشتر حتى جخل الكوفة وقد اجتمع الناس في المسجد الأعظم، فجعل لا يمرّ بقبيلة يرى فيها جماعة في مجلس أو مسجد إلّا دعاهم ويقول: اتّبعوني إلى القصر، فانتهى إلى القصر في جماعة من الناس، فاقتحم القصر فدخله وأبو موسى قائم في المسجد يخطب الناس ويثبّطهم، يقول: أيّها الناس، إنّ هذه فتنة عمياء صماء تطأ خطامها النائم فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من لاماشي، والماشي فيها خير من الساعي، والساعي فيها خير من الراكب؛ إنها فتنة باقرة كداء البطن، أتتكم من قبل مأمنكم، تدع الحليم فيها حيران كابن أمس. إنا معاشر أصحاب محمد أعلم بالفتنة، إنها إذا أقبلت شبّهت وإذا أدبرت أسفرت. وعمّار يخاطبه والحسن يقول له: اعتزل عملنا لا أمّ لك! وتنحّ عن منبرنا. وقال له عمار: أنت سمعت هذا من رسول الله ؟ فقال أبو موسى: هذه يدي بما قلت، فقال له عمّار: إنما قال لك رسول الله هذا خاصة، فقال: أنت فيها قاعدًا خير منك قائمًا، ثمّ قال عمّار: غلب الله من غلالبه وجاحده.
قال نصر بن مزاحم: حدثنا عمر بن سعيد، قال: حدثني رجل، عن نعيم، عن أبي مريم الثقفي، قال: والله إني لفي المسجد يومئذ وعمّار يخاطب أبا موسى ويقول له ذلك القول، إذ خرج علينا غلمان لأبي موسى يشتدّون ينادون: يا أبا موسى، هذا الأشتر قد دخل القصر فضربنا وأخرجنا؛ فنزل أبو موسى، فدخل القصر، فصاح به الأشتر: اخرج من قصرنا لا أمّ لكّ أخرج الله نفسك، فو الله إنك لمن المنافقين قديمًا، قال: أجّلني هذه العشيّة، فقال: هي لك، ولا تبينّ في القصر الليلة. ودخل الناس ينتهبون متاع مأبي موسى؛ فمنعهم الأشتر وأخرجهم من القصر، وقال: إني قد أخرجته، فكفّ الناس عنه.
نزول أمير المؤمنين ذا قار

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: لما التقوا بذي قار تلقّاهم علي في أناس، فيهم ابن عباس فرحّب بهم، وقال: يا أهل الكوفة، أنتم ولّيتم شوكة العجم وملوكهم، وفضضتم جموعهم؛ حتى صارت إليكم مواريثهم، فأغنيتم حوزتكم، وأعنتم الناس على عدوّهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة؛ فإن يرجعوا فذاك ما نيريد وإن يلجّوا داويناهم بالرفق، وباينّاهم حتى يبدءونا بظلم، ولن ندع أمرًا فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله، ولا قوّة إلا بالله.
فاجتمع بذي قار سبعة آلاف ومائتان، وعبد القيس بأسرها في الطريق بين علي وأهل البصرة ينتظرون مرور علي بهم، وهم آلاف - وفي الماء ألفان وأربعمائة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة بإسنادها قالا: لما نزل علي ذا قار أرسل ابن عباس والأشتر بعد محمد بن أبي بكر ومحمد ابن جعفر، وأرسل الحسن بن علي وعمرًا بعد ابن عباس والأشتر، فخفّ في ذلك الأمر جميع من كان نفر فيه، ولم يقدم فيه الوجوه أتباعهم فكانوا خمسة آلاف أخذ نصفهم في البرّ ونصفهم في البحر، وخفّ من لم ينفر فيها ولم يعمل لها. وكان على طاعته ملازمًا للجماعة فكانوا أربعة آلاف، فكان رؤساء الجماعة: القعقاع بن عمرو وسعر بن مالك وهند بن عمرو والهيثم ابن شهاب؛ وكان رؤساء النفّار: زيد بن صوحان، والأشتر مالك بن الحارث، وعدي بن حاتم، والمسيّب بن نجبة، ويزيد بن قيس ومعهم أتباعهم وأمثال هلم لسوا دونهم إلّا أنهم لم يؤمّروا؛ منهم حجر بن عدي وابن محدوج البكري؛ وأشباه لهما لم يكن في أهل الكوفة أحد على ذلك الرأي غيرهم. فبادروا في الوقعة إلا قليلًا، فلما نزلوا على ذي قار دعا القعقاع بن عمرو فأرسله إلى أهل البصرة وقال له: الق هذيه الرجلين يا بن الحنظليّة - وكان القعقاع من أصحاب النبي - فادعهما إلى الألفة والجماعة، وعظّم عليهما الفرقة، وقال له: كيف أنت صانع فيما جاءك منهما مما ليس عندك فيه وصاة منّي؟ فقال: نلقاهم بالّذي أمرت به، فإذا جاء منهما أمر ليس عندنا منك فيه رأي اجتهدنا الرأي وكلّمناهم على قدر ما نسمع ونرى أنه ينبغي. قال: أنت لها. فخرج القعقاع حتى قدم البصرة، فبدأ بعائشة رضي الله عنه فسلّم عليها، وقال: أي أمّه؛ ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت: أي بني، إصلاح بين الناس، قال: فابعثي إلى طلحة والزّبير حتى تسمعي كلامي وكلامهما، فبعثت إليهما فجاءا، فقال: إني سألت أمّ المؤمنين: ما أشخصها وأقدمها هذه البلاد؟ فقالت: إصلاح بين الناس، فما تقولان أنتما؟ أمتابعان أم مخالفان؟ قالا: متابعان، قال: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فو الله لئن عرفنا لنصلحنّ، ولئن أنكرناه لا نصلح. قالا: قتلة عثمان رضي الله عنه، فإن هذا إن ترك كان تركًا للقرآن؛ وإن علم به كان إحياء للقرآن. فقال: قد قتلتما قتلة عثمان من أهل البصرة، وأنتم قبل قتلهم أقرب إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة إلّا رجلًا، فغضب لهم ستة آلاف. واعتزلوكم وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم ذلك الّذي أفلت - يعني حرقوص بن زهير - فمنعه ستة آلاف وهم على رجل، فإن تركتموه كنتم تاركين لما تقولان؛ وإن قاتلتموهم والذين اعتزلوكم فأديلوا عليكن فالّذي حذرتم وقربتم به هذا الأمر أعظم ممّا أراكم تكروهون؛ وأنتم أحميتم مضر وربيعة من هذه البلاد، فاجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لهؤلاء كما اجتمع هؤلاء لأهل هذا الحدث العظيم والذنب الكبير. فقالت أمّ المؤمنين: فتقول أنت ماذا؟ قال: أقول هذا الأمر دواؤه التسكين، وإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير وتباشير رحمة ودرك بثأر هذا الرجل، وعافية وسلامة لهذه الأمة، وإن أنتم أبيتم إلّا مكابرة هذا الأمر واعتسافه، كانت علامة شرّ، وذهاب هذا الثأر، وبعثة الله في هذه الأمة هزاهزها، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح الخير كما كنتم تكونون، ولا تعرضونا للبلاء ولا تعرّضوا له فيصرعنا وإياكم. وأيم الله إني لأقول هذا وأدعوكم إليه وإني لخائف إلّا يتمّ حتى يأخذ الله عز وجل حاجته من هذه الأمة مالت قلّ متاعها ونزل بها ما نزل، فإنّ هذا الأمر الّذي حدث أمر ليس يقدّر، وليس كالأمور، ولا كقتل الرجل الرجل، ولا النفر الرجل، ولا القبيلة الرجل.
فقالوا: نعم، إذًا قد أحسنت وأصبت المقالة؛ فارجع فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر. فرجع إلى علي فأخبره فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح؛ كثره ذلك من كرهه، ورضيه من رضيه.
وأقبلت وفود البصرة نحو علي حين نزل بذي قار، فجاءت وفود تميم وبكر قبل رجوع القعقاع لنظروا ما رأى إخوانهم من أهل الكوفة، وعلى أي حال نهضوا إليهم، وليعلموهم أنّ الذي عليه رأيهم الإصلاح، ولا يخطر لهم قتال على بال. فلمّا لقوا عشائرهم من أهل الكوفة بالذي بعثهم فيه عشائرهم من أهل البصرة وقال لهم الكوفيون مثل مقالتهم، وأدخلوهم على علي فأخبروه خبرهم؛ سأل علي بن شرس عن طلحة والزّبير، فأخبره عن دقيق أمرهما وجليله حتى تمثل له:
ألا أبلغ بني بكر رسولا ** فليس إلي بني كعب سبيل
سيرجع ظلمكم منكم عليكم ** طويل الساعدين له فضول
وتمثل علي عندها:
ألم تعلم أبا سمعنا أنّا ** نردّ الشيخ مثلك ذا الصداع!
ويذهل عقله بالحرب حتى ** يقوم فيستجيب ليغير داع
فدافع عن خزاعة جمع بكر ** وما بك يا سراقة من دفاع
قال أبو جعفر: أخرج إلي زياد بن أيوب كتابًا فيه أحاديث عن شيوخ ذكر أنه سمعها منهم؛ قرأ علي بعضها ولم يقرأ علي بعضها، فممّا لم يقرأ علي من ذلك فكتبته منه؛ قال: حدثنا مصعب بن سلام التميمي، قال: حدثنا محمد بن سوقة، عن عاصم بن كليب الجرمي، عن أبيه، قال: رأيت فيما يرى النائم في زمان عثمان بن عفان أنّ رجلًا يلي أمور الناس مريًا على فراشه وعند رأسه امرأة؛ والناس يريدونه ويبهشون إليه، فلو نهتهم المرأة لانتهوا؛ ولكنها لم تفعل، فأخذوه فقتلوه. فكنت أقصّ رؤياي على الناس في الحضر ولاسفر، فيعجبون ولا يدرون ما تأوليها! فلما قتل عثمان رضي الله عنه أتانا الخبر ونحن راجعون من غزاتنا؛ فقال أصحابنا: رؤياك يا كليب. فانتهينا إلى البصرة فلم نلبث إلّا قليلًا حتى قيل: هذا طلحة والزّبير معهما أمّ المؤمنين؛ فراع ذلك الناس وتعجّبوا، فإذا هم يزعمون للناس أنهم إنما خرجوا غضبًا لعثمان وتوبة مما صنعوا من خذلانه، وإنّ أمّ المؤمنين تقول: غضبنا لكم على عثمان في ثلاث: إمارة الفتي، وموقع الغمامة، وضربة السوط والعصا، فما أنصفنا إن لم نغضب له عليكم في ثلاث جررتموها إليه: حرمة الشهر، والبلد، والدم. فقال الناس: أفلم تبايعوا عليًّا وتدخلوا في أمره! فقالوا: دخلنا واللّجّ على أعناقنا. وقيل هبذا علي قد أظلّكم، فقال قومنا لي ولرجلين معي: انطلقوا حتى تأتوا عليًّا وأصحابه فسلوهم عن هذا الأمر الّذي قد اختلط علينا؛ فخرجنا حتى إذا دنونا من العسكر طلع علينا رجل جميل على بغلة، فقلت لصاحبي: أرأيتم المرأة التي كنت أحدثكم عنها أنها كانت عند رأس الوالي؟ فإنها أشبه الناس بهذا، ففطن أنّا نخوص فيه، فلما انتهى إليها قال: قفوا، ما الّذي قلتم حين رأيتموني؟ فأبينا عليه، فصاح بنا وقال: والله لا تبرحون حتى تخبروني، فدخلتنا منه هيبة، فأخبرناه فجاوزنا وهو يقول: والله لقد رأيت عجبًا، فقلنا لأدنى أهل العسكر إلينا: من هذا؟ فقال: محمّد بن أبي بكر، فعرفنا أن تلك المرأة عائشة رضي الله عنه، فازددنا لأمرها كراهية، وانتهينا إلى علي فسلمنا عليه، ثم سألناه عن هذا الأمر، فقال: عدا الناس على هذا الرجل وأنا معتزل فقتلوه، ثمّ ولّوني وأنا كاره ولولا خشية على الدين لم أجبهم، ثمّ طفق هذان في النكث فأخذت عليهما وأخذت عهودهما عند ذلك، وأذنت لهما في العمرة، فقدما على أمّها حليلة رسول الله فرضيا لها ما رغبا لنسائهما عنه، وعرّضاها لما لا يحلّ لهما ولا يصلح؛ فاتّبعتهما لكيلا يفتقوا في الإسلام فتقًا، ولا يخرقوا جماعة.
ثم قال أصحابه: والله ما نريد قتالهم إلّا أن يقاتلوا وما خرجنا إلّا لإصلاح0. فصاح بنا أصحاب علي: بايعوا بايعوا، فبايع صاحبي، وأمّا أنا فأمسكت وقلبت: بعثني قومي لأمر، فلا أحدث شيئًا حتى أرجع إليهم. فقال علي: فإن لم يفعلوا؟ فقلت: لم أفعل، فقال: أرأيت لو أنهم بعثوك رائدًا فرجعت إليهم، فأخبرتهم عن الكلإ والماء فحالوا إلى المعاطش والجدوبة ما كنت صانعًا؟ قال: قلت: كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلإ والماء، قال: فمدّ يدك، فو الله ما استطعت أن أمتنع، فبسطت يدي فبايعته. وكان يقول: علي من أدهى العرب. وقال: ما سمعت من طلحة والزّبير؟ فقلت: أما الزبير فإنه يقول: بايعنا كرهًا، وأمّا طلحة فمقبل على أن يتمثّل الأشعار، ويقول:
ألا أبلغ بني بكر رسولًا ** فليس إلى بني كعب سبيل
سيرجع ظلمكم منكم عليكم ** طويل الساعدين له فضول
فقال: ليس كذلك، ولكن:
ألم تعلم أبا سمعان أنّا ** نصمّ الشيخ مثلك ذا الصداع
ويذهل عقله بالحرب حتى ** يقوم فيستجيب لغير داع
ثم سار حتى نزل إلى جانب البصرة؛ وقد خندق طليحة والزّبير، فقال لنا أصحابنا من أهل البصرة: مما سمعتم إخواننا من أهل الكوفة يريدون ويقولون؟ فقلنا: يقولون خرجنا للصّلح وما نريد قتالًا؛ فبينا هم على ذلك لا يحدثون أنفسهم بغيره، إذ خرج صبيان العسكرين فتسابّوا ثم تراموا، ثم تتابع عبيد العسكرين، ثم ثلَّث السفهاء، ونشبت الحرب، وألجأتهم إلى الخندق، فاقتتلوا عليه حتى أجلوا إلى موضع القتال؛ فدخل منه أصحاب علي وخرج الآخرون.