حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، عن بشير بن عاصم، عن فطر بن خليفة، عن منذر الثوري، عن محمد بن الحنفيّة، قال: أقبلنا من المدينة بسبعمائة رجل، وخرج إلينا من حولنا ألفان، أكثرهم بكر بن وائل، ويقال: ستة آلاف.
رجع الحديث إلى حديث محمد وطلحة: قالا: فلما نزل الناس واطمأنوا، خرج علي وخرج طلحة والزبير، فتواقفوا، وتكلموا فيما اختلفوا فيه، فلم يجدوا أمرًا هو أمثل من الصلح ووضع الحرب حين رأوا الأمر قد أخذ في الانقشاع، وأنه لا يدرك، فافترقوا عن موقفهم على ذلك، ورجع علي إلى عسكره، وطلحة والزبير إلى عسكرهما.
أمر القتال
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وبعث علي من العشي عبد الله بن عبّاس إلى طلحة والزبير، وبعثاهما من العشي محمد بن طلحة إلى علي، وأنم يكلم كل واحد منهما أصحابه، فقالوا: نعم، فلما أمسوا - وذلك في جمادى الآخرة - أرسل طلحة والزّبير إلى رؤساء أصحابهما، وأرسل علي إلى رؤساء أصحابه، ما خلا أولئك الّذين هضّوا عثمان، فباتوا على الصلح، وباتوا بليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية من الذي أشرفوا عليه، والنّزوع عمّا اشتهى الذين اشتهوا، وركبوا ما ركبوا، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشرّ ليلة باتوها قطّ، قد أشرفوا على الهلكة، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلّها، حتى اجتمعوا على إنشاب الحرب في السرّ، واستسرّوا بذلك خشية أن يفطن بما حاولوا من الشرّ، فغدوا مع الغلس، وما يشعر بهم جيرانهم، انسلّوا إلى ذلك الأمر انسلالا، وعليهم ظلمة، فخرج مضريّهم إلى مضريّهم، وربعيهم إلى ربعيّهم، ويمانيهم إلى يمانيّهم، فوضعوا فيهم السلاح، فثار أهل البصرة، وثار كلّ قوم في وجوه أصحابهم الذين بهتوهم، وخرج الزبير وطلحة في وجوه الناس من مضر فبعثا إلى الميمنة، وهم ربيعة يعبؤها عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وإلى الميسرة عبد الرحمن بن عتاب ابن أسيّد، وثبتا في القلب، فقال: ما هذا؟ قالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلًا، فقالا: قد علمنا أنّ عليًّا غير منته حتى يسفك الدماء، ويستحلّ الحرمة، وأنه لن يطاوعنا، ثم رجعا بأهل البصرة، وقصف أهل البصرة، أولئك حتى ردّوهم إلى عسكرهم، فسمع علي وأهل الكوفة الصوت، وقد وضعوا رجلًا قريبًا من علي ليخبره بما يريدون، فلما قال: ما هذا؟ قال: ذاك الرجل ما فجئنا إلّا وقوم منهم بيّتونا، فرددناهم من حيث جاءوا، فوجدنا القوم على رجل فركبونا، وثار الناس، وقال علي لصاحب ميمنته: ائت الميمنة، وقال لصاحب ميسرته: ائت الميسرة، ولقد علمت أنّ طلحة والزّبير غير منتهيين حتى يسفكا الدماء، ويستحلّا الحرمة، وأنهما لن يطاوعانا، والسّبئيّة لا تفتر إنشابًا. ونادى علي في الناس: أيها الناس، كفّوا فلا شي، فكان من رأيهم جميعًا في تلك الفتنة ألّا يقتتلوا حتى يبدءوا؛ يطلبون بذلك الحجّة، ويستحقون على الآخرين، ولا يقتلوا مدبرًا، ولا يجهزوا على الحجّة، ويستحقون على الآخرين، ولا يقتلوا مدبرًا، ولا يجهزوا على جريح، ولا يتبعوا. فكان مما اجتمع عليه الفريقان ونادوا فيما بينهما.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي عمرو، قالوا: وأقبل كعب بن سور حتى أتى عائشة رضي الله عنها، فقال: أدركي فقد أبى القوم إلّا القتال، لعلّ الله يصلح بك. فركبت، وألبسوا هودجها الأدراع، ثم بعثوا جملها، وكان جملها يدعى عسكرًا، حملها عليه يعلى بن أميّة، اشتراه بمائتي دينار، فلما برزت من البيوت - وكانت بحيث تسمع الغوغاء - وقفت، فلم تلبث أن سمعت غوغاء شديدة، فقالت: ما هذا؟ قالوا: ضجّة العسكر؛ قالت: بخير أو بشرّ؟ قالوا: بشرّ. قالت: فأي الفريقين كانت منهم هذه الضجّة فهم المهومون. وهي واقفة، فوالله ما فجئها إلّا الهزيمة، فمضى الزبير من سننه في وجهه، فسلك وادي السباع، وجاء طلحة سهم غرب يخلّ ركبته بصفحة الفرس، فلما امتلأ موزجه دمًا وثقل قال لغلامه: اردفني وأمسكني، وابغني مكانًا أنزل فيه، فدخل البصرة وهو يتمثّل مثله ومثل الزبير:
فإن تكن الحوادث أقدتني ** وأخطأهنّ سهمي حين أرمى
فقد ضيّعت حين تبعت سهمًا ** سفاهًا مّا سفهت وضلّ حلمي
ندمت ندامة الكسعي لمّا شريت رضا بني سهمٍ برغمي
أطعتهم بفرقة آل لأيٍ ** فألقوا للسّباع دمي ولحمي
خبر وقعة الجمل من رواية أخرى
قال أبو جعفر: وأما غير سيف فإنه ذكر من خبر هذه الوقعة وأمر الزبير وانصرافه عن الموقف الذي كان فيه ذلك اليوم غير الذي ذكر سيف عن صاحبيه، والذي ذكر من ذلك بعضهم ما حدثنيه أحمد بن زهير، قال: حدثنا أبي أبو خيثمة، قال: حدثنا وهب بن جرير بن حازم، قال: سمعت أبي قال: سمعت يونس بن يزيد الأيلي، عن الزهري، في قصة ذكرها من خبر علي وطلحة والزبير وعائشة في مسيرهم الذي نحن في ذكره في هذا الموضع، قال: وبلغ الخبر عليًّا - يعني خبر السبعين الذين قتلوا مع العبدي بالبصرة - فأقبل - يعني عليًّا - في اثني عشر ألفًا، فقدم البصرة، وجعل يقول:
يا لهف نفسي على ربيعة ** ربيعة السامعة المطيعه
سنّتها كانت بها الوقيعة
فلما تواقفوا خرج علي على فرسه، فدعا الزبير، فتواقفا، فقال علي للزبير: ما جاء بك؟ قال: أنت، ولا أراك لهذا الأمر أهلًا، ولا أولى به منّا؛ فقال علي: لست له أهلًا بعد عثمان! قد كنا نعدّك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء ففرّق بيننا وبينك؛ وعظّم عليه أشياء، فذكر أن النبي مرّ عليهما فقال لعلي: " ما يقول ابن عمتك؟ ليقاتلنّك وهو لك ظالم ". فانصرف عنه الزبير، وقال: فإني لا أقاتلك. فرجع إلى ابنه عبد الله فقال: ما لي في هذه الحرب بصيرة، فقال له ابنه: إنك قد خرجت على بصيرة، ولكنك رأيت رايات ابن أبي طالب، وعرفت أن تحتها الموت، فجبنت. فأحفظه حتى أرعد وغضب، وقال: ويحك! إني قد حلفت له ألّا أقاتله، فقال له ابنه: كفّر عن يمينك بعتق غلامك سرجس، فأعتقه، وقام في الصفّ معهم، وكان علي قال للزّبير: أتطلب مني دم عثمان وأنت قتلته! سلّط الله على أشدّنا عليه اليوم ما يكره. وقال علي: يا طلحة، جئت بعرس رسول الله تقاتل بها وخبّأت عرسك في البيت! أما بايعتني! قال: بايعتك وعلى عنقي اللج، فقال علىّ لأصحابه: أيّكم يعرض عليهم هذا المصحف وما فيه، فإن قطعت يده أخذه بيده الأخرى، وإن قطعت أخذه بأسنانه؟ قال فتىً شابّ: أنا، فطاف علي على أصحابه يعرض ذلك عليهم، فلم يقبله إلّا ذلك الفتى، فقال له علي: اعرض عليهم هذا، وقل: هو بيننا وبينكم من أوّله إلى آخره، والله في دمائنا ودمائكم. فحمل على الفتى وفي يده المصحف، فقطعت يداه، فأخذه بأسنانه حتى قتل، فقال علي: قد طاب لكم الضراب فقاتلوهم، فقتل يومئذ سبعون رجلًا، كلهم يأخذ بخطام الجمل، فلما عقر الجمل وهزم الناس، أصابت طلحة رمية فقتلته، فيزعمون أن مروان بن الحكم رماه، وقد كان ابن الزبير أخذ بخطام جمل عائشة، فقالت: من هذا؟ فأخبرها؛ فقالت: واثكل أسماء! فجرح، فألقى نفسه في الجرحى، فاستخرج فبرأ من جراحته، واحتمل محمد بن أبي بكر عائشة، فضرب عليها فسطاط، فوقف علي عليها فقال: استفززت الناس وقد فزّوا، فألّبت بينهم، حتى قتل بعضهم بعضا.. في كلام كثير. فقالت عائشة: يا بن أبي طالب، ملكت فأسجح، نعم ما أبليت قومك اليوم! فسرّحها علي، وأرسل معها جماعةً من رجال ونساء، وجهزّها، وأمر لها باثني عشر ألفًا من المال؛ فاستقلّ ذلك عبد الله بن جعفر، فأخرج لها مالًا عظيمًا، وقال: إن لم يجزه أمير المؤمنين فهو علي. وقتل الزبير، فزعموا أن ابن جرموز لهو الذي قتله، وأنه وقف بباب أمير المؤمنين؛ فقال لحاجبه: استأذن لقاتل الزبير؛ فقال علي: ائذن له، وبشّره بالنار.
حدثني محمد بن عمارة، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا فضيل، عن سفيان بن عقبة، عن قرّة بن الحارث، عن جون بن قتادة. قال قرّة بن الحارث: كنت معالأحنف بن قيس، وكان جون ابن قتادة ابن عمّي مع الزبير بن العوام، فحدثني جون بن قتادة، قال: كنت مع الزبير رضي الله عنه، فجاء فارس يسير - وكانوا يسلّمون على الزبير بالإمرة - فقال: السلام عليك أيّها الأمير؛ قال: وعليك السلام؛ قال: هؤلاء القوم قد أتوا مكان كذا وكذا، فلم أر قومًا أرثّ سلاحًا، ولا أقلّ عددًا، ولا أرعب قلوبًا من قوم أتوك، ثمّ انصرف عنه. قال: ثمّ جاء فارس فقال: السلام عليك أيّها الأمير؛ قال: وعليك السلام؛ قال: هؤلاء القوم قد أتوا مكان كذا وكذا، فلم أر قومًا أرثّ سلاحًا، ولا أقلّ عددًا، ولا أرعب قلوبًا من قوم أتوك، ثمّ انصرف عنه. قال: ثمّ جاء فارس فقال: السلام عليك أيّها الأمير؛ فقال: وعليك السلام، قال: جاء القوم حتى أتوا مكان كذا وكذا، فسمعوا بما جمع الله عز وجل لكم من العدد والعدّة والحدّ، فقذف الله في قلوبهم الرعب، فولّوا مدبرين؛ قال الزبير: إيهًا عنك الآن؛ فوالله لو لم يجد ابن أبي طالب إلاالعرفج لدبّ إلينا فيه؛ ثم انصرف. ثم جاء فارس وقد كادت الخيول أن تخرج من الرهج فقال: السلام عليك أيّها الأمير، قال: وعليك السلام، قال: هؤلاء القوم قد أتوك، فلقيت عمّارًا فقلت له وقال لي؛ فقال الزبير: إنه ليس فيهم، فقال: بلى والله إنه لفيهم؛ قال: والله ما جعله الله فيهم، فقال: والله لقد جعله الله فيهم. قال: والله ما جعله الله فيهم؛ فلمّا رأى الرجل يخالفه قال لبعض أهله: اركب فانظر: أحقّ ما يقول! فركب معه، فانطلقا وأنا أنظر إليهما حتى وقفا في جانب الخيل قليلا، ثم رجعا إلينا، فقال الزبير لصاحبه: ما عندك؟ قال: صدق الرجل؛ قال الزبير: يا جدع أنفاه - أو يا قطع ظهراه؟ - قال محمد بن عمارة: قال عبيد الله: قال فضيل: لا أدري أيذهما قال - ثم أخذه أفكل، فجعل السلاح ينتفض، فقال جون: ثكلتني أمي، هذا الذي كنت أريد أن أموت معه، أو أعيش معه، والذي نفسي بيده ما أخذ هذا ما أرى إلّا لشيء قد سمعه أو رآه من رسول الله . فلمّا تشاغل الناس انصرف فجلس على دابته، ثم ذهب، فانصرف جون فجلس على دابّته، فلحق بالأحنف، ثم جاء فارسان حتى أتيا الأحنف وأصحابه، فنزلا، فأتيا فأكبّا عليه، فناجياه ساعة، ثم انصرفا. ثم جاء عمرو بن جرموز إلى الأحنف، فقال: أدركته في وادي السباع فقتلته، فكان يقول: والذي نفسي بيده إن صاحب الزبير الأحنف.
حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا بشير ابن عاصم، عن الحجّاج بن أرطاة، عن عمار بن معاوية الدهني - حي من أحمس بجيلة - قال: أخذ علي مصحفًا يوم الجمل، فطاف به في أصحابه، وقال: من يأخذ هذا المصحف، يدعوهم إلى ما فيه وهو مقتول؟ فقام إليه فتىُ من أهل الكوفة عليه قباء أبيض محشوّ، فقال: أنا، فأعرض عنه، ثم قال: من يأخذ هذا المصحف يدعوهم إلى ما فيه وهو مقتول؟ فقال الفتى: أنا، فأعرض عنه، ثم قال: من يأخذ هذا المصحف يدعوهم إلى ما فيه وهو مقتول؟ فقال الفتى: أنا؛ فدفعه إليه، فدعاهم فقطعوا يده اليمنى، فأخذه بيده اليسرى، فدعاهم فقطعوا يده اليسرى، فأخذه بصدره والدماء تسيل على قبائه، فقتل رضي الله عنه، فقال علي: الآن حلّ قتالهم، فقالت أمّ الفتى بعد ذلك فيما ترثي:
لا همّ إنّ مسلمًا دعاهم ** يتلو كتاب الله لا يخشاهم
وأمّهم قائمة تراهم ** يأتمرون الغي لا تنهاهم
قد خضبت من علق لحاهم
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا أبو مخنف، عن جابر، عن الشعبي، قال: حملت ميمنة أمير المؤمنين على ميسرة أهل البصرة، فاقتتلوا، ولاذ الناس بعائشة رضي الله عنها، أكثرهم ضبّة الأزد، وكان قتالهم من ارتفاع النهار إلى قريب من العصر؛ ويقال: إلى أن زالت الشمس، ثم انهزموا، فنادى رجل من الأزد: كرّوا، فضربه محمد بن علي فقطع يده، فنادى: يا معشر الأزد فرّوا، واستحرّ القتل بالأزد، فنادوا: نحن على دين علي بن أبيس طالب؛ فقال رجل من بني ليث بعد ذلك:
سائل بنا يوم لقينا الأزدا ** والخيل تعدو أشقرًا ووردا
لمّا قطعنا كبدهم والزّندا ** سحقًا لهم في رأيهم وبعدا!
حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، عن مالك بن دينار، قال: حمل عمّار على الزبير يوم الجمل، فجعل بنحوزه بالرمح، فقال: أتريد أن تقتلني؟ قال: لا، انصرف؛ وقال عامر بن حفص: أقبل عمارٌ حتى حاز الزبير يوم الجمل بالرمح، فقال: أتقتلني يا أبا اليقظان! قال: لا يا أبا عبد الله.
رجع الحنديث إلى حديث سيف، عن محمد وطلحة: قالا: ولما انهزم الناس في صدر النهار، نادى الزبير: أنا الزبير، هلمّوا إلي أيّها الناس، ومعه مولىً له ينادي: أعن حواري رسول الله تنهزمون! وانصرف الزبير نحو وادي السباع، واتّبعه فرسان، وتشاغل الناس عنه بالناس، فلما رأى الفرسان تتبعه عطف عليهم، ففرّق بينهم، فكرّوا عليه، فلمّا عرفوه قالوا: الزبير! فدعوه، فلما نفر فيهم علياء بن الهيثم؛ ومرّ القعقاع في نفر بطلحة وهو يقول: إلي عباد الله، الصبر الصبر! قال له: يا أبا محمد؛ إنك لجريح، وإنك عمّا تريد لعليل؛ فادخل الأبيات، فقال: يا غلام، أدخلني وابغني مكانًا. فأدخل البصرة ومعه غلام ورجلان، فافتتل الناس بعده، فأقبل الناس في هزيمتهم تلك وهم يريدون البصرة. فلمّا رأوا الجمل أطافت به مضر عادوا قلبًا كما كانوا حيث التفوا، وعادوا إلى أمر جديد، ووقفت ربيعة البصرة، منهم ميمنة ومنهم ميسرة، وقالت عائشة: خلّ يا كعب عن البعير؛ وتقدّم بكتاب الله عز وجل فادعهم إليه، ودفعت إليه مصحفًا. وأقبل القوم وأمامهم السبئيّة يخافون أن يجرى الصلح، فاستقبلهم كعب بالمصحف، وعلي من خلفهم يزعهم ويأبون إلّا إقدامًا، فلما دعاهم كعب رشقوه رشقًا واحدًا، فقتلوه، ورموا عائشة في هودجها، فجعلت تنادي: يا بني، البقيّة البقيّة - وبعلو صوتها كثرة - الله الله، اذكروا الله عز وجل والحساب، فيأبون إلّا إقدامًا، فكان أوّل شيء أحدثته حين أبوا أن قالت: أيّها الناس، العنوا قتلة عثمان وأشياعهم، وأقبلت تدعو.
وضجّ أهل البصرة بالدعاء، وسمع علي بن أبي طالب الدعاء فقال: ما هذه الضجّة؟ فقالوا: عائشة تدعو ويدعون معها على قتلة عثمان وأشياعهم، فأقبل يدعو ويقول: اللهم العن قتلة عثمان وأشياعهم. وأرسلت إلى عبد الرحمن ابن عتّاب وعبد الرحمن بن الحارث: اثبتا مكانكما، وذمرت الناس حين رأت أنّ القوم لا يريدون غيرها، ولا يكفّون عن الناس، فازدلفت مضر البصرة، فقصفت مضر الكوفة حتى زوحم علي، فنخس علي قفا محمد، وقال: أحمل، فنكل، فأخوى علي إلى الراية ليأخذها منه، فحمل، فترك الراية في يده، وحملت مضر الكوفة، فاجتلدوا قدّام الجمل حتى ضرسوا، والمجنّبات على حالها، لا تصنع شيئًا، ومع علي أقوام غير مضر، فمنهم زيد بن صوحان، فقال له رجل من قومه: تنحّإلى قومك، مالك ولهذا الموقف! ألست تعلم أن مضر بحيالك، وأنّ الجمل بين يديك، وأن الموت دونه! فقال: الموت خير من الحياة، الموت ما أريد؛ فأصيبوأخوه سيحان، وارتث صعصعة، واشتدّت الحرب. فلما رأى ذلك علي بعث إلى اليمن وإلى ربيعة: أن اجتمعوا على من يليكم، فقام رجل من عبد القيس فقال: ندعوكم إلى كتاب الله عز وجل؛ قالوا: وكيف يدعونا إلى كتاب الله من لا يقيم حدود الله سبحانه، ومن قتل داعي الله كعب بن سور! فرمته ربيعة رشقًا واحدًا فقتلوه، وقام مسلم بن عبد الله العجلي مقامه، فرشقوه رشقًا واحدًا، فقتلوه، ودعت يمن الكوفة يمن البصرة فرشقوهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: كان القتال الأوّل يستحرّ إلى انتصاف النهار، وأصيب فيه طلحة رضي الله عنه، وذهب فيه الزبير، فلما أووا إلى عائشة وأبى أهل الكوفة إلّا القتال، ولم يريدوا إلّا عائشة، ذمرتهم عائشة، فاقتتلوا حتى تنادوا فتحاجزوا، فرجعوا بعد الظهر فاقتتلوا، وذلك يوم الخميس في جمادى الآخرة، فاقتتلوا صدر النهار مع طلحة والزبير، وفي وسطه مع عائشة، وتزاحف الناس، فهزمت يمن البصرة يمن الكوفة، وربيعة البصرة ربيعة الكوفة، ونهد علي بمضر الكوفة إلى مضر البصرة، وقال: إن الموت ليس منه فوت، يدرك الهارب، ولا يترك المقيم.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا أبو عبد الله القرشي، عن يونس بن أرقم، عن علي بن عمرو الكندي، عن زيد بن حساس، قال: سمعت محمد بن الحنفيّة يقول: دفع إلي أبى الراية يوم الجمل، وقال: تقدّم؛ فتقدّمت حتى لم أجد متقدّمًا إلّا على رمح؛ قال: تقدّم لا أمّ لك! فتكاكأت وقلت: لا أجد متقدّمًا إلّا على سنان رمح، فتناول الراية من يدي متناول لا أدري من هو! فنظرت فإذا أبى بين يدي وهو يقول:
أنت الّتي غرّك منّي الحسنى ** يا عيش إنّ القوم قوم أعدا
الخفض خير من قتال الأبنا
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: اقتتلت المجنّبتان حين تزاحفتا قتالًا شديدًا، يشبه ما فيه القلبان، واقتتل أهل اليمن، فقتل على راية أمير المؤمنين من أهل الكوفة عشرة، كلما أخذها رجل قتل خمسة من همدان وخمسة من سائر اليمن، فلما رأى ذلك يزيد بن قيس أخذها، فثبتت في يده وهو يقول:
قد عشت يا نفس وقد غنيت ** دهرًا فقطك اليوم ما بقيت
أطلب طول العمر ما حييت
وإنما تمثّلها وهو قول الشاعر قبله. وقال نمران بن أبي نمران الهمذاني:
جرّدت سيفي في رجال الأزد ** أضرب في كهولهم والمزد
كلّ طويل الساعدين نهد
وأقبلت ربيعة، فقتل على راية الميسرة من أهل الكوفة زيد، وصرع صعصعة، ثم سيحان، ثم عبد الله بن رقبة بن المغيرة، ثم أبو عبيدة بن راشد بن سلمى وهو يقول: اللهمّ أنت هديتنا من الضلالة، واستنقذتنا من الجهالة، وابتليتنا بالفتنة، فكنّا في شبهة وعلى ريب؛ حتى قتل، ثمّ الحصين ابن معبد بن النعمان، فأعطاها ابنه معبدًا، وجعل يقول: يا معبد، قرّب لها بوّها تحدب، فثبتت في يده.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما رأت الكماة من مضر الكوفة ومضر البصرة الصبر تنادوا في عسكر عائشة وعسكر علي: يأيها الناس، طرّفوا إذا فرغ الصبر، ونزع النصر. فجعلوا يتوجّئون الأطراف: الأيدي والأرجل، فما رئيت وقعة قطّ قبلها ولا بعدها، ولا يسمع بها أكثر يدًا مقطوعة ورجلًا مقطوعة منها، لا يدري من صاحبها. وأصيبت يد عبد الرحمن بن عتّاب يومئذ قبل قتله، وكان الرجل من هؤلاء وهؤلاء إذا أصيب شيء من أطرافه استقتل إلى أن يقتل.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن عطيّة ابن بلال، عن أبيه، قال: اشتدّ الأمر حتى أرزت ميمنة الكوفة إلى القلب، حتى لزقت به، ولزقت ميسرة البصرة بقلبهم، ومنعوا ميمنة أهل الكوفة أن يختلطوا بقلبهم، وإن كانوا إلى جنبهم، وفعل مثل ذلك ميسرة الكوفة وميمنة البصرة، فقالت عائشة - رضي الله عنها - لمن عن يسارها: من القوم؟ قال صبرة بن شيمان: بنوك الأزد، قالت: يآل غسّان! حافظوا اليوم جلادكم الذي كنا نسمع به، وتمثّلت:
وجالد من غسّان أهل حفاظها ** وهنب وأوس جالدت وشبيب
وقالت لمن عن يمينها: من القوم؟ قالوا: بكر بن وائل؛ قالت: لكم يقول القائل:
وجاءوا إلينا في الحديد كأنّهم ** من العزّة القعساء بكر بن وائل
إنما بإزائكم عبد القيس. فاقتتلوا أشدّ القتال من قتالهم قبل ذلك، وأقبلت على كتيبة بين يديها، فقالت: من القوم؟ قالوا: بنو ناجية، قالت: بخ بخ! سيوف أبطحيّة، وسيوف قرشيّة، فجالدوا جلادًا يتفادى منه. ثم أطافت بها بنو ضبّة، فقالت: ويهًا جمرة الجمرات! حتى إذا رقّوا خالطهم بنو عدي، وكثروا حولها، فقالت: من أنتم؟ قالوا: بنو عدّي، خالطنا إخواننا، فقالت: مازال رأس الجمل معتدلا حتى قتلت بنو ضبّة حولي، فأقاموا رأس الجمل، ثم ضربوا ضربًا ليس بالتعذير، ولا يعدّلون بالتطريف؛ حتى إذا كثر ذلك وظهر في العسكرين جميعًا. راموا الجمل وقالوا: لا يزال القوم أو يصرع. وأرزت مجنّبتا علي فصارتا في القلب، وفعل ذلك أهل البصرة، وكره القوم بعضهم بعضًا. وتلاقوا جميعًا بقلبيهم، وأخذ ابن يثربي برأس الجمل وهو يرتجز، وادّعى قتل علباء ابن الهيثم وزيد بن صوحان وهند بن عمرو، فقال:
أنا لمن ينكرني ابن يثربي ** قاتل علباء وهند الجملي
وابن لصوحان علي دين علي
فناداه عمّار: لقد لعمري لذت بحريز، وما إليك سبيل، فإن كنت صادقًا فاخرج من هذه الكتيبة إلي؛ فترك الزمام في يد رجل من بني عدي حتى كان بين أصحاب عائشة وأصحاب علي، فزحم الناس عمّارًا حتى أقبل إليه، فاتّقاه عمار بدرقته، فضربه انتشب سيفه فيها، فعالجه فلم يخرج، فخرج عمّار إليه لا يملك من نفسه شيئًا، فأسفّ عمار لرجليه فقطعهما، فوقع على استه، وحمله أصحابه، فارتثّ بعد، فأتى به علي، فأمر بضرب عنقه. ولما أصيب ابن يثربي ترك ذلك العدوي الزمام، ثم خرج فنادى: من يبارز؟ فخنّس عمّار، وبرز إليه ربيعة العقيلي - والعدوي يدعى عمرة بن بجرة، أشدّ الناس صوتًا، وهو يقول:
يا أمّنا أعقّ أمّ نعلم ** والأمّ تغذو ولدًا وترحم
ألا ترين كم شجاع يكلم ** وتخلي منه يد ومعصم
ثم اضطربا، فأثخن كلّ واحد منهما صاحبه، فماتا.
وقال عطيّة بن بلال: ولحق بنا من آخر النهار رجل يدعى الحارث، من بني ضبّة، فقام مقام العدوي، فما رأينا رجلًا قطّ أشدّ منه، وجعل يقول:
نحن بني ضبّة أصحاب الجمل ** ننعى ابن عفان بأطرفاف الأسل
الموت أحلى عندنا من العسل ** ردّوا علينا شيخنا ثمّ بجل
حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، عن المفضّل بن محمد، عن عدي بن أبي عدي، عن أبي رجاء العطاردي، قال: إني لأنظر إلى رجل يوم الجمل وهو يقلّب سيفًا بيده كأنه مخراق، وهو يقول:
نحن بني ضبّة أضحاب الجمل ** ننازل الموت إذا الموت نزل
والموت أشهى عندنا من العسل ** ننعى ابن عفّان بأطراف الأسل
ردّوا علينا شيخنا ثمّ بجل
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن الهذلي، قال: كان عمرو بن يثربي يحضّض قومه يوم الجمل، وقد تعاوروا الخطام يرتجزون:
نحن بني ضبّة لا نفرّ ** حتى نرى جماجمًا تخرّ
يخرّ منها العلق المحمرّ
يا أمّنا يا عيش لن تراعى ** كلّ بنيك بطل شجاع
يا أمّنا يا زوجة النبي ** يا زوجة المبارك المهديّ
حتى قتل على الخطام أربعون رجلًا، وقالت عائشة رضي الله عنها: ما زال جملي معتدلا حتى فقدت أصوات بني ضبّة. وقتل يومئذ عمرو بن يثربي علياء بن الهيثم السدوسي، وهند بن عمرو الجملي، وزيد بن صوحان وهو يرتجز ويقول:
أضربهم ولا أرى أبا حسن ** كفى بهذا حزنًا من الحزن
إنا نمرّ الأمر إمرار الرسن
فزعم الهذلي أنّ هذا الشعر تمثّل به يوم صفّين. وعرض عمار لعمرو بن يثربي - وعمار يومئذ ابن تسعين سنة، عليه فرو قد شدّ وسطه بحبل من ليف - فبدره عمرو بن يثربي فنحّى له درقته فنشب سيفه فيها، ورماه الناس حتى صرع وهو يقول:
إن تقتلوني فأنا ابن يثربي ** قاتل علباء وهند الجملي
ثمّ ابن صوحان على دين علي
وأخذ أسيرًا حتى انتهي به إلى علي، فقال: استبقني. فقال: أبعد ثلاثة تقبل عليهم بسيفك تضرب به وجوههم! فأمر به فتقل.
وحدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا أبو مخنف، عن إسحاق بن راشد، عن عبّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال: مشيت يوم الجمل وبي سبع وثلاثون جراحة من ضربة وطعنة، وما رأيت مثل يوم الجمل قط، ما ينهزم منا أحد، وما نحن إلّا كالجبل الأسود، وما يأخذ بخطام الجمل أحد إلّا قتل، فأخذه عبد الرحمن بن عتاب فقتل، فأخذه الأسود بن أبي البختري فصرع، وجئت فأخذت بالخطام، فقالت عائشة: من أنت؟ قلت: عبد الله بن الزبير. قالت: واثكل أسماء! ومرّ بي الأشتر، فعرفته فعانقته، فسقطنا جميعًا، وناديت: " اقتلوني ومالكًا "؛ فجاء ناس منا ومنهم، فقاتلوا عنا حتى تحاجزنا، وضاع الخطام، ونادى علي: اعقروا الجمل، فإنه إن عقر تفرّقوا؛ فضربه رجلٌ فسقط، فما سمعت صوتًا قطّ أشدّ من عجيج الجمل.
وأمر علي محمد بن أبي بكر فضرب عليها قبّة، وقال: انظر، هل وصل إليها شيء؟ فأدخل رأسه، فقالت: من أنت؟ ويلك! فقال: أبغض أهلك إليك، قالت: ابن الخثعميّة؟ قال: نعم؛ قالت: يأبي أنت وأمي! الحمد لله الذي عافاك.
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، قال: سمعت أبا بكر بن عيّاش يقول: قال علقمة: قلت للأشتر: قد كنت كارهًا لقتل عثمان رضي الله عنه. فما أخرجك بالبصرة؟ قال: إنّ هؤلاء بايعوه، ثم نكثوا - وكان ابن الزبير هو الذي أكره عائشة على الخروج - فكنت أدعو الله عز وجل أن يلقّينيه، فلقيني كفّةً لكفّة، فما رضيت بشدّة ساعدي أن قمت في الركاب فضربته على رأسه فصرعته. قلنا فهو القائل: " اقتلوني ومالكًا "؟ قال: لا، ما تركته وفي نفسي منه شيء، ذاك عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد، لقيني فاختلفنا ضربتين، فصرعتني وصرعته، فجعل يقول: " اقتلوني ومالكًا "، ولا يعلمون من مالك، فلو يعلمون لقتلوني.
ثم قال أبو بكر بن عياش: هذا كتابك شاهده.
حدثني به المغيرة، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: قلت للأشتر: حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن طلحة بن النضر، عن عثمان بن سليمان، عن عبد الله بن الزبير، قال: وقف علينا شابّ، فقال: احذروا هذين الرجلين؛ فذكره - وعلامة الأشتر أنّ إحدى قدميه بادية من شيء يجد بها - قال: لما التقينا قال الأشتر: لما قصد لي سوّى رمحه لرجلي، قلت: هذا أحمق، وما عسى أن يدرك منى لو قطعها! ألست قاتله! فلما دنا مني جمع يديه في الرمح، ثم التمس به وجهي، قلت: أحد الأقران.
حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، عن أبي مخنف، عن ابن عبد الرحمن بن جندب، عن أبيه، عن جدّه، قال: كان عمرو ابن الأشرف أخذ بخطام الجمل، لا يدنو منه أحدٌ إلا خبطه بسيفه، إذ أقبل الحارث بن زهير الأزدي وهو يقول:
يا أمّنا يا خير أم نعلم ** أما ترين كم شجاع يكلم!
وتختلي هامته والمعصم!
فاختلفا ضربتين، فرأيتهما يفحصان الأرض بأرجلهما حتى ماتا فدخلت على عائشة رضي الله عنها بالمدينة، فقالت: من أنت؟ قلت: رجل من الأزد، أسكن الكوفة؛ قالت: أشهدتنا يوم الجمل؟ قلت: نعم؛ قالت: ألنا أم علينا؟ قلت: عليكم؛ قالت: أفتعرف الذي يقول:
يا أمّنا يا خير أم نعلم
قلت: نعم، ذاك ابن عمّي، فبكت حتى ظننت أنها لا تسكت.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن أبي ليلى، عن دينار بن العيزار، قال: سمعت الأشتر يقول: لقيت عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد، فلقيت أشدّ الناس وأروغه، فعانقته، فسقطنا إلى الأرض جميعًا، فنادى: " اقتلوني ومالكًا ".
حدثني عمر قال: حدثنا أبو الحسن، عن أبي ليلى، عن دينار بن العيزار، قال: سمعت الأشتر يقول: رأيت عبد الله بن حكيم بن حزام معه راية قريش؛ وعدّي بن حاتم الطائي وهما يتصاولان كالفحلين، فتعاورناه فقتلناه - يعني عبد الله - فطعن عبد الله عديًّا ففقأ عينه.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن أبي مخنف، عن عمّه محمّد بن مخنف، قال: حدثني عدّة من أشياخ الحي كلّهم شهد الجمل، قالوا: كانت راية الأزد من أهل الكوفة مع مخنف بن سليم، فقتل يومئذ، فتناول الراية من أهل بيته الصقعب وأخوه عبد الله بن سليم، فقتلوه، فأخذها العلاء بن عروة، فكان الفتح، وهي في يده، وكانت راية عبد القيس من أهل الكوفة مع القاسم بن مسلم، فقتل وقتل معه زيد بن صوحان وسيحان ابن صوحان؛ وأخذ الراية عدّة منهم فقتلوا؛ منهم عبد الله بن رقية، وراشد. ثم أخذها منقذ بن النعمان، فدفعها إلى ابنه مرّة بن منقذ، فانقضى الأمر وهي في يده، وكانت راية بكر بن وائل من أهل الكوفة في بني ذهل، كانت مع الحارث بن حسّان بن خوط الذهلي، فقال أبو العرفاء الرقاشي: أبق على نفسك وقومك، فأقدم وقال: يا معشر بكر بن وائل، إنّه لم يكن أحدٌ له من رسول الله مثل منزلة صاحبكم، فانصروه، فأقدم، فقتل وقتل ابنه وقتل خمسة إخوة له، فقال له يومئذ بشر بن خوط وهو يقاتل:
أنا ابن حسّان بن خوط وأبي ** رسول بكر كلها إلى النبي
وقال ابنه:
أنعى الرئيس الحارث بن حسّان ** لآل ذهل ولآل شيبان
وقال رجل من ذهل:
تنعى لنا خير امرىء من عدنان ** عند الطعان ونزال الأقران
وقتل رجال من بني محدوج، وكانت الرياسة لهم من أهل الكوفة، وقتل من بني ذهل خمسة وثلاثون رجلًا، فقال رجل لأخيه وهو يقاتل: يا أخي، ما أحسن قتالنا إن كنّا على حقّ! قال: فإنا على الحقّ، إن الناس أخذوا يمينًا وشمالًا، وإنما تمسّكنا بأهل بيت نبيّنا؛ فقاتلا حتى قتلا. وكانت رياسة عبد القيس من أهل البصر - وكانوا مع علي - لعمرو بن مرحوم، ورياسة بكر بن وائل لشقيق بن ثور، والرّاية مع رشراشة مولاه، ورياسة الأزد من أهل البصرة - وكانوا مع عائششة - لعبد الرحمن بن جشم بن أبي حنين الحمّامي - فيما حدثني عامر بن حفص، ويقال لصبرة بن شيمان الحدّاني - والراية مع عمرو بن الأشرف العتكي، فقتل وقتل معه ثلاثة عشر رجلًامن أهل بيته.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا أبو ليلى، عن أبي عكّاشة الهمداني، عن رفاعة البجلي، عن أبي البختري الطائي، قال: أطافت ضبّة والأزد بعائشة يوم الجمل، وإذا رجال من الأزد بعائشة يوم الجمل، وإذا رجال من الأزد يأخذون بعر الجمل فيفتّونه ويشمّونه، ويقولون: بعر جمل أمّنا ريحه ريح المسك؛ ورجل من أصحاب علي يقاتل ويقول:
جرّدت سيفي في رجال الأزد ** أضرب في كهولهم والمرد
كلّ طويل الساعدين نهده
وماج الناس بعضهم في بعض، فصرخ صارخ: اعقروا الجمل؛ فضربه بجير بن دلجة الضبي من أهل الكوفة، فقيل له: لم عقرته؟ فقال: رأيت قومي يقتلون، فخفت أن يفنوا، ورجوت إن عقرته أن يبقي لهم بقيّة.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا الصلت بن دينار، قال: انتهى رجل من بني عقيل إلى كعب بن سور - رحمه الله - وهو مقتول، فوضع زجّ رمحه في عينه، ثم خضخضه، وقال: ما رأيت مالًا قطّ أحكم نقدًا منك.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا عوانة، قال: اقتتلوا يوم الجمل يومًا إلى الليل، فقال بعضهم:
شفى السيف من زيد وهند نفوسنا ** شفاء ومن عيني عدي بن حاتم
صبرنا لهم يومًا إلى الليل كلّه ** بصمّ القنا والمرهفات الصوارم
وقال ابن صامت:
يا ضبّ سيرى فإنّ الأرض واسعة ** على شمالك إن الموت بالقاع
كتيبة كشعاع الشمس إذ طلعت ** لها أتي إذا ما سال دفّاع
إذًا نقيم لكم في كلّ معترك ** بالمشرفيّة ضربًا غير إبداع
حدثنا العباس بن محمد، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا روح، عن أبي رجاء، قال: رأيت رجلًا قد اصطلمت أذنه، قلت: أخلقة، أم شيء أصابك؟ قال: أحدثك؛ بينا أنا أمشي بين القتلى يوم الجمل، فإذا رجل يفحص برجله، وهو يقول:
لقد أوردتنا حومة الموت أمّنا ** فلم ننصرف إلّا ونحن رواء
أطعنا قريشًا ضلّة من حلومنا ** ونصرننا أهل الحجاز عناء
قلت: يا عبد الله، قل لا إله إلّا الله، قال: ادن مني، ولقّنّي فإنّ في أذني وقرًا، فدنوت منه، فقال لي: ممن أنت؟ قلت: رجل من الكوفة؛ فوثب علي، فاصطلم أذني كما ترى، ثمّ قال: إذا لقيت أمك فأخبرها أن عمير بن الأهلب الضبّي فعل بك هذا.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا المفضّل الراوية وعامر بن حفص وعبد المجيد الأسدي، قالوا: جرح يوم الجمل عمير بن الأهلب الضبي، فمرّ به رجلٌ من أصحاب علي وهو في الجرحى، فقال له عمير: ادن منى، فدنا منه، فقطع أذنه، وقال عمير بن الأهلب:
لقد أوردتنا حومة الموت أمّنا ** فلم ننصرف إلا ونحن رواء
لقد كان عن نصر ابن ضبّة أمّه ** وشيعتها مندوحة وغناء
أطعنا بني تيم بن مرّة شقوة ** وهل تيم إلّا أعبد وإماء!
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المقدام الحارثي، قال: كان منّا رجل يدعي هانىء بن خطّاب، وكان ممن غزا عثمان، ولم يشهد الجمل، فلمّا سمع بهذا الرج. - يعني رجز القائل:
نحن بني ضبّة أصحاب الجمل
في حديث الناس، نقض عليه وهو بالكوفة:
أبت شيوخ مذجح وهمدان ** ألا يردّوا نعثلًا كما كان
خلقًا جديدًا بعد خلق الرحمن
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن عطيّة، عن أبيه، قال: جعل أبو الجرباء يومئذ يرتجز ويقول:
أسامع أنت مطيع لعلي ** من قبل أن تذوق حدّ المشرفي
وخاذل في الحقّ أزواج النبي ** أعرف قومًا لست فيه بعنى
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: كانت أمّ المؤمنين في حلقة من أهل النجدات والبصائر من أفناء مضر، فكان لا يأخذ أحد بالزمام إلّا كان يحمل الراية واللواء لا يحسّن تركها، وكان لا يأخذه إلّا معروف عند المطيفين بالجمل فينتسب لها: أنا فلان بن فلان، فوالله إن كانوا ليقاتلون عليه؛ وإنه للموت لا يوصل إليه إلا بطلبة وعنت، وما رامه أحد من أصحاب علي إلّا قتل أو أفلت، ثم لم يعد. ولما اختلط الناس بالقلب جاء عدي بن حاتم فحمل عليه، ففقئت عينه ونكل، فجاء الأشتر فحامله عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد وإنه لأقطع منزوف، فاعتنقه، ثم جلد به الأرض عن دابّته، فاضطرب تحته، فأفلت وهو جريض.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: كان لا يجىء رجل فيأخذ بالزّمام حتى يقول: أنا فلان بن فلان يا أمّ المؤمنين، فجاء عبد الله بن الزبير، فقالت حين لم يتكلم: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله، أنا ابن أختك، قالت: واثكل أسماء! - تعنى أختها - وانتهى إلى الجمل الأشتر وعدي بن حاتم، فخرج عبد الله ابن حكيم بن حزام إلى الأشتر، فمشى إليه الأشتر، فاختلفا ضربتين، فقتله الأشتر، ومشى إليه عبد الله بن الزبير، فضربه الأشتر على رأسه، فجرحه جرحًا شديدًا، وضرب عبد الله الأشتر ضربة خفيفة، واعتنق كلّ واحد منهما صاحبه، وخرّا إلى الأرض يعتركان، فقال عبد الله بن الزبير: " اقتلوني ومالكًا ".
وكان مالك يقول: ما أحبّ أن يكون قال: " والأشتر " وأنّ لي حمر النعم. وشدّ أناس من أصحاب علي وأصحاب عائشة فافترقا، وتنقّذ كلّ واحد من الفريقين صاحبه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن عطيّة، عن أبيه، قال: وجاء محمد بن طلحة فأخذ بزمام الجمل، فقال: يا أمّتاه، مريني بأمرك. قالت: آمرك أن تكون كخير بني آدم إن تركت. قال: فحمل فجعل لا يحمل عليه أحد إلّا حمل عليه ويقول: " حم لا ينصرون "، واجتمع عليه نفر، فكلّهم ادّعى قتله: المكعبر الأسدي، والمكعبر الضبي، ومعاوية بن شدّاد العبسي، وعفّان بن الأشقر النصري، فأنفذه بعضهم بالرّمح، ففي ذلك يقول قاتله منهم:
وأشعث قوّام بآيات ربّه ** قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
هتكت له بالرمح جيب قميصه ** فخرّ صريعًا لليدين وللفم
يذكّرني حم والرمح شاجر ** فهلا تلا حم قبل التقدّم!
على غير شيء غير أن ليس تابعًا ** عليًا ومن لا يتبع الحقّ يندم
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن عطيّة، عن أبيه، قال: قال القعقاع بن عمرو للأشتر يؤلّبه يومئذ: هل لك في العود؟ فلم يجبه. فقال: يا أشتر، بعضنا أعلم بقتال بعض منك. فحمل القعقاع، وإنّ الزمام مع زفر بن الحارث، وكان آخر من أعقب في الزمام، فلا والله ما بقي من بني عامر يومئذ شيخ إلّا أصيب قدّام الجمل، فقتل فيمن قتل يومئذ ربيعة جدّ إسحاق بن مسلم، وزفر يرتجز ويقول:
يا أمّنا يا عيش لن تراعي ** كلّ بنيك بطل شجاع
ليس بوهّام ولا براعي
وقام القعقاع يرتجز ويقول:
إذا وردنا آجنًا جهرناه ** ولا يطاق ورد ما منعناه
تمثّلها تمثّلًا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: كان من آخر من قاتل ذلك اليوم زفر بن الحارث، فزحف إليه القعقاع، فلم يبق حول الجمل عامري مكتهل إلّا أصيب، يتسرّعون إلى الموت، وقال القعقاع: يا بحير بن دلجة، صح بقومك فليعقروا الجمل قبل أن يصابوا وتصاب أمّ المؤمنين؛ فقال: يال ضبة، يا عمرو بن دلجة، ادع بي إليك؛ فدعا به، فقال: أنا آمن حتى أرجع؟ قال: نعم. قال: فاجتثّ ساق البعير، فرمى بنفسه على شقّه وجرجر البعير. وقال القعقاع لمن يليه: أنتم آمنون. واجتمع هو وزفر على قطع بطان البعير، وحملا الهودج فوضعاه، ثم أطافا به، وتفارّ من وراء ذلك من الناس.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن عطيّة، عن أبيه، قال: لما أمسى الناس وتقدّم علي وأحيط بالجمل ومن حوله، وعقره بجير بن دلجة، وقال: إنكم آمنون؛ كفّ بعض الناس عن بعض. وقال علي في ذلك حين أمسى وانخنس عنهم القتال:
إليك أشكو عجري وبجري ** ومعشرًا غشّوا علي بصري
قتلت منهم مضرًا بمضري ** شفيت نفسي وقتلت معشري
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن حكيم بن جابر، قال: قال طلحة يومئذ: اللهمّ أعط عثمان منّي حتى يرضى؛ فجاء سهم غرب وهو واقف، فخلّ ركبته بالسرج، وثبت حتى امتلأ موزجه دمًا، فلما ثقل قال لمولاه: اردفني وابغني مكانًا لا أعرف فيه، فلم أر كاليوم شيخًا أشيع دمًا مني. فركب مولاه وأمسكه وجعل يقول: قد لحقنا القوم، حتى انتهى به إلى دار من دور البصرة خربة، وأنزله في فيئها، فمات في تلك الخربة، ودفن رضي الله عنه في بني سعد.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن البختري العبدي، عن أبيه، قال: كانت ربيعة مع علي يوم الجمل ثلث أهل الكوفة، ونصف الناس يوم الوقعة، وكانت تعبيتهم مضر ومضر، وربيعة وربيعة، واليمن واليمن؛ فقال بنو صوحان: يا أمير المؤمنين، ائذن لنا نقف عن مضر؛ ففعل، فأتى زيد فقيل له: ما يوقفك حيال الجمل وبحيال مضر! الموت معك وبإزائك، فاعتزل إلينا؛ فقال: الموت نريد. فأصيبوا يومئذ، وأفلت صعصعة من بينهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن عطية، قال: كان رجل منا يدعى الحارث، فقال يومئذ: يال مضر؛ علام يقتل بعضكم بعضًا! تبادرون لا ندري إلّا أنّا إلى قضاء، وما تكفون في ذلك.
حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله بن المبارك، عن جرير، قال: حدثني الزبير بن الخرّيت، قال: حدثني شيخ من الحرامين يقال له أبو جبير، قال: مررت بكعب بن سور وهو آخذ بخطام جمل عائشة رضي الله عنها يوم الجمل، فقال: يا أبا جبير، أنا والله كما قالت القائلة:
بني لا تبن ولا تقاتل
فحدثني الزبير بن الخرّيت، قال: مرّ به علي وهو قتيل، فقام عليه فقال: والله إنك - ما علمت - كنت لصليبًا في الحقّ، قاضيًا بالعدل، وكيت وكيت؛ فأثنى عليه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن ابن صعصعة المزني - أو عن صعصعة - عن عمرو بن جأوان، عن جرير بن أشرس، قال: كان القتال يومئذ في صدر النهار مع طلحة والزبير، فانهزم الناس وعائشة توقّع الصلح، فم يفجأها إلّا الناس، فأحاطت بها مضر، ووقف الناس للقتال، فكان القتال نصف النهار مع عائشة. وعلي.. كعب بن سور أخذ مصحف عائشة وعلي فبدر بين الصفين يناشدهم الله عز وجل في دمائهم، وأعطى درعه فرمى بها تحته، وأتى بترسه فتنكبّه، فرشقوه رشقًا واحدًا، فقتلوه رضي الله عنه، ولم يمهلوهم أن شدّوا عليهم، والتحم القتال، فكان أول مقتول بين يدي عائشة من أهل الكوفة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مخلد بن كثير، عن أبيه، قال: أرسلنا مسلم بن عبد الله يدعو بنى أبينا، فرشقوه - كما صنع القلب بكعب - رشقًا واحدًا، فقتلوه، فكان أوّل من قتل بين يدي أمير المؤمنين وعائشة رضي الله عنها، فقالت أمّ مسلم ترثيه:
لا همّ إنّ مسلمًا أتاهم ** مستسلمًا للموت إذ دعاهم
إلى كتاب الله لا يخشاهم ** فرمّلوه من دم إذ جاهم
وأمّهم قائمة تراهم ** يأتمرون الغي لا تنهاهم
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن حكيم ابن شريك، عن أبيه، عن جدّه، قال: لما انهزمت مجنّبتا الكوفة عشيّة الجمل، صاروا إلى القلب - وكان ابن يثربي قاضي البصرة قبل كعب بن سور، فشهدهم هو وأخوه يوم الجمل، وهما عبد الله وعمرو، فكان واقفًا أمام الجمل على فرس - فقال علي: من رجل يحمل على الجمل؟ فانتدب له هند بن عمرو المرادي، فاعترضه ابن يثربي، فاختلفا ضربتين، فقتله ابن يثربي، ثم حمل سيحان بن صوحان، فاعترضه ابن يثربي، فاختلفا ضربتين فقتله ابن يثربي، ثم حمل علباء بن الهيثم، فاعترضه ابن يثربي، فقتله، ثم حمل صعصعة فضربه، فقتل ثلاثة أجهز عليهم في المعركة: علباء، وهند، وسيحان، وارتثّ صعصعة وزيد، فمات أحدهما، وبقى الآخر.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 5 (0 من الأعضاء و 5 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)