حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا أبو مخنف، عن جابر، عن الشعبي، قال: حملت ميمنة أمير المؤمنين على ميسرة أهل البصرة، فاقتتلوا، ولاذ الناس بعائشة رضي الله عنها، أكثرهم ضبّة الأزد، وكان قتالهم من ارتفاع النهار إلى قريب من العصر؛ ويقال: إلى أن زالت الشمس، ثم انهزموا، فنادى رجل من الأزد: كرّوا، فضربه محمد بن علي فقطع يده، فنادى: يا معشر الأزد فرّوا، واستحرّ القتل بالأزد، فنادوا: نحن على دين علي بن أبيس طالب؛ فقال رجل من بني ليث بعد ذلك:
سائل بنا يوم لقينا الأزدا ** والخيل تعدو أشقرًا ووردا
لمّا قطعنا كبدهم والزّندا ** سحقًا لهم في رأيهم وبعدا!
حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، عن مالك بن دينار، قال: حمل عمّار على الزبير يوم الجمل، فجعل بنحوزه بالرمح، فقال: أتريد أن تقتلني؟ قال: لا، انصرف؛ وقال عامر بن حفص: أقبل عمارٌ حتى حاز الزبير يوم الجمل بالرمح، فقال: أتقتلني يا أبا اليقظان! قال: لا يا أبا عبد الله.
رجع الحنديث إلى حديث سيف، عن محمد وطلحة: قالا: ولما انهزم الناس في صدر النهار، نادى الزبير: أنا الزبير، هلمّوا إلي أيّها الناس، ومعه مولىً له ينادي: أعن حواري رسول الله تنهزمون! وانصرف الزبير نحو وادي السباع، واتّبعه فرسان، وتشاغل الناس عنه بالناس، فلما رأى الفرسان تتبعه عطف عليهم، ففرّق بينهم، فكرّوا عليه، فلمّا عرفوه قالوا: الزبير! فدعوه، فلما نفر فيهم علياء بن الهيثم؛ ومرّ القعقاع في نفر بطلحة وهو يقول: إلي عباد الله، الصبر الصبر! قال له: يا أبا محمد؛ إنك لجريح، وإنك عمّا تريد لعليل؛ فادخل الأبيات، فقال: يا غلام، أدخلني وابغني مكانًا. فأدخل البصرة ومعه غلام ورجلان، فافتتل الناس بعده، فأقبل الناس في هزيمتهم تلك وهم يريدون البصرة. فلمّا رأوا الجمل أطافت به مضر عادوا قلبًا كما كانوا حيث التفوا، وعادوا إلى أمر جديد، ووقفت ربيعة البصرة، منهم ميمنة ومنهم ميسرة، وقالت عائشة: خلّ يا كعب عن البعير؛ وتقدّم بكتاب الله عز وجل فادعهم إليه، ودفعت إليه مصحفًا. وأقبل القوم وأمامهم السبئيّة يخافون أن يجرى الصلح، فاستقبلهم كعب بالمصحف، وعلي من خلفهم يزعهم ويأبون إلّا إقدامًا، فلما دعاهم كعب رشقوه رشقًا واحدًا، فقتلوه، ورموا عائشة في هودجها، فجعلت تنادي: يا بني، البقيّة البقيّة - وبعلو صوتها كثرة - الله الله، اذكروا الله عز وجل والحساب، فيأبون إلّا إقدامًا، فكان أوّل شيء أحدثته حين أبوا أن قالت: أيّها الناس، العنوا قتلة عثمان وأشياعهم، وأقبلت تدعو.
وضجّ أهل البصرة بالدعاء، وسمع علي بن أبي طالب الدعاء فقال: ما هذه الضجّة؟ فقالوا: عائشة تدعو ويدعون معها على قتلة عثمان وأشياعهم، فأقبل يدعو ويقول: اللهم العن قتلة عثمان وأشياعهم. وأرسلت إلى عبد الرحمن ابن عتّاب وعبد الرحمن بن الحارث: اثبتا مكانكما، وذمرت الناس حين رأت أنّ القوم لا يريدون غيرها، ولا يكفّون عن الناس، فازدلفت مضر البصرة، فقصفت مضر الكوفة حتى زوحم علي، فنخس علي قفا محمد، وقال: أحمل، فنكل، فأخوى علي إلى الراية ليأخذها منه، فحمل، فترك الراية في يده، وحملت مضر الكوفة، فاجتلدوا قدّام الجمل حتى ضرسوا، والمجنّبات على حالها، لا تصنع شيئًا، ومع علي أقوام غير مضر، فمنهم زيد بن صوحان، فقال له رجل من قومه: تنحّإلى قومك، مالك ولهذا الموقف! ألست تعلم أن مضر بحيالك، وأنّ الجمل بين يديك، وأن الموت دونه! فقال: الموت خير من الحياة، الموت ما أريد؛ فأصيبوأخوه سيحان، وارتث صعصعة، واشتدّت الحرب. فلما رأى ذلك علي بعث إلى اليمن وإلى ربيعة: أن اجتمعوا على من يليكم، فقام رجل من عبد القيس فقال: ندعوكم إلى كتاب الله عز وجل؛ قالوا: وكيف يدعونا إلى كتاب الله من لا يقيم حدود الله سبحانه، ومن قتل داعي الله كعب بن سور! فرمته ربيعة رشقًا واحدًا فقتلوه، وقام مسلم بن عبد الله العجلي مقامه، فرشقوه رشقًا واحدًا، فقتلوه، ودعت يمن الكوفة يمن البصرة فرشقوهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: كان القتال الأوّل يستحرّ إلى انتصاف النهار، وأصيب فيه طلحة رضي الله عنه، وذهب فيه الزبير، فلما أووا إلى عائشة وأبى أهل الكوفة إلّا القتال، ولم يريدوا إلّا عائشة، ذمرتهم عائشة، فاقتتلوا حتى تنادوا فتحاجزوا، فرجعوا بعد الظهر فاقتتلوا، وذلك يوم الخميس في جمادى الآخرة، فاقتتلوا صدر النهار مع طلحة والزبير، وفي وسطه مع عائشة، وتزاحف الناس، فهزمت يمن البصرة يمن الكوفة، وربيعة البصرة ربيعة الكوفة، ونهد علي بمضر الكوفة إلى مضر البصرة، وقال: إن الموت ليس منه فوت، يدرك الهارب، ولا يترك المقيم.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا أبو عبد الله القرشي، عن يونس بن أرقم، عن علي بن عمرو الكندي، عن زيد بن حساس، قال: سمعت محمد بن الحنفيّة يقول: دفع إلي أبى الراية يوم الجمل، وقال: تقدّم؛ فتقدّمت حتى لم أجد متقدّمًا إلّا على رمح؛ قال: تقدّم لا أمّ لك! فتكاكأت وقلت: لا أجد متقدّمًا إلّا على سنان رمح، فتناول الراية من يدي متناول لا أدري من هو! فنظرت فإذا أبى بين يدي وهو يقول:
أنت الّتي غرّك منّي الحسنى ** يا عيش إنّ القوم قوم أعدا
الخفض خير من قتال الأبنا
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: اقتتلت المجنّبتان حين تزاحفتا قتالًا شديدًا، يشبه ما فيه القلبان، واقتتل أهل اليمن، فقتل على راية أمير المؤمنين من أهل الكوفة عشرة، كلما أخذها رجل قتل خمسة من همدان وخمسة من سائر اليمن، فلما رأى ذلك يزيد بن قيس أخذها، فثبتت في يده وهو يقول:
قد عشت يا نفس وقد غنيت ** دهرًا فقطك اليوم ما بقيت
أطلب طول العمر ما حييت
وإنما تمثّلها وهو قول الشاعر قبله. وقال نمران بن أبي نمران الهمذاني:
جرّدت سيفي في رجال الأزد ** أضرب في كهولهم والمزد
كلّ طويل الساعدين نهد
وأقبلت ربيعة، فقتل على راية الميسرة من أهل الكوفة زيد، وصرع صعصعة، ثم سيحان، ثم عبد الله بن رقبة بن المغيرة، ثم أبو عبيدة بن راشد بن سلمى وهو يقول: اللهمّ أنت هديتنا من الضلالة، واستنقذتنا من الجهالة، وابتليتنا بالفتنة، فكنّا في شبهة وعلى ريب؛ حتى قتل، ثمّ الحصين ابن معبد بن النعمان، فأعطاها ابنه معبدًا، وجعل يقول: يا معبد، قرّب لها بوّها تحدب، فثبتت في يده.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما رأت الكماة من مضر الكوفة ومضر البصرة الصبر تنادوا في عسكر عائشة وعسكر علي: يأيها الناس، طرّفوا إذا فرغ الصبر، ونزع النصر. فجعلوا يتوجّئون الأطراف: الأيدي والأرجل، فما رئيت وقعة قطّ قبلها ولا بعدها، ولا يسمع بها أكثر يدًا مقطوعة ورجلًا مقطوعة منها، لا يدري من صاحبها. وأصيبت يد عبد الرحمن بن عتّاب يومئذ قبل قتله، وكان الرجل من هؤلاء وهؤلاء إذا أصيب شيء من أطرافه استقتل إلى أن يقتل.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن عطيّة ابن بلال، عن أبيه، قال: اشتدّ الأمر حتى أرزت ميمنة الكوفة إلى القلب، حتى لزقت به، ولزقت ميسرة البصرة بقلبهم، ومنعوا ميمنة أهل الكوفة أن يختلطوا بقلبهم، وإن كانوا إلى جنبهم، وفعل مثل ذلك ميسرة الكوفة وميمنة البصرة، فقالت عائشة - رضي الله عنها - لمن عن يسارها: من القوم؟ قال صبرة بن شيمان: بنوك الأزد، قالت: يآل غسّان! حافظوا اليوم جلادكم الذي كنا نسمع به، وتمثّلت:
وجالد من غسّان أهل حفاظها ** وهنب وأوس جالدت وشبيب
وقالت لمن عن يمينها: من القوم؟ قالوا: بكر بن وائل؛ قالت: لكم يقول القائل:
وجاءوا إلينا في الحديد كأنّهم ** من العزّة القعساء بكر بن وائل
إنما بإزائكم عبد القيس. فاقتتلوا أشدّ القتال من قتالهم قبل ذلك، وأقبلت على كتيبة بين يديها، فقالت: من القوم؟ قالوا: بنو ناجية، قالت: بخ بخ! سيوف أبطحيّة، وسيوف قرشيّة، فجالدوا جلادًا يتفادى منه. ثم أطافت بها بنو ضبّة، فقالت: ويهًا جمرة الجمرات! حتى إذا رقّوا خالطهم بنو عدي، وكثروا حولها، فقالت: من أنتم؟ قالوا: بنو عدّي، خالطنا إخواننا، فقالت: مازال رأس الجمل معتدلا حتى قتلت بنو ضبّة حولي، فأقاموا رأس الجمل، ثم ضربوا ضربًا ليس بالتعذير، ولا يعدّلون بالتطريف؛ حتى إذا كثر ذلك وظهر في العسكرين جميعًا. راموا الجمل وقالوا: لا يزال القوم أو يصرع. وأرزت مجنّبتا علي فصارتا في القلب، وفعل ذلك أهل البصرة، وكره القوم بعضهم بعضًا. وتلاقوا جميعًا بقلبيهم، وأخذ ابن يثربي برأس الجمل وهو يرتجز، وادّعى قتل علباء ابن الهيثم وزيد بن صوحان وهند بن عمرو، فقال:
أنا لمن ينكرني ابن يثربي ** قاتل علباء وهند الجملي
وابن لصوحان علي دين علي
فناداه عمّار: لقد لعمري لذت بحريز، وما إليك سبيل، فإن كنت صادقًا فاخرج من هذه الكتيبة إلي؛ فترك الزمام في يد رجل من بني عدي حتى كان بين أصحاب عائشة وأصحاب علي، فزحم الناس عمّارًا حتى أقبل إليه، فاتّقاه عمار بدرقته، فضربه انتشب سيفه فيها، فعالجه فلم يخرج، فخرج عمّار إليه لا يملك من نفسه شيئًا، فأسفّ عمار لرجليه فقطعهما، فوقع على استه، وحمله أصحابه، فارتثّ بعد، فأتى به علي، فأمر بضرب عنقه. ولما أصيب ابن يثربي ترك ذلك العدوي الزمام، ثم خرج فنادى: من يبارز؟ فخنّس عمّار، وبرز إليه ربيعة العقيلي - والعدوي يدعى عمرة بن بجرة، أشدّ الناس صوتًا، وهو يقول:
يا أمّنا أعقّ أمّ نعلم ** والأمّ تغذو ولدًا وترحم
ألا ترين كم شجاع يكلم ** وتخلي منه يد ومعصم
ثم اضطربا، فأثخن كلّ واحد منهما صاحبه، فماتا.
وقال عطيّة بن بلال: ولحق بنا من آخر النهار رجل يدعى الحارث، من بني ضبّة، فقام مقام العدوي، فما رأينا رجلًا قطّ أشدّ منه، وجعل يقول:
نحن بني ضبّة أصحاب الجمل ** ننعى ابن عفان بأطرفاف الأسل
الموت أحلى عندنا من العسل ** ردّوا علينا شيخنا ثمّ بجل
حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، عن المفضّل بن محمد، عن عدي بن أبي عدي، عن أبي رجاء العطاردي، قال: إني لأنظر إلى رجل يوم الجمل وهو يقلّب سيفًا بيده كأنه مخراق، وهو يقول: