ألا أبلغ معاوية بن حرب ** فإنّك من أخي ثقة مليم
قطعت الدهر كالدّم المعنّى ** تهدّر في دمشق فما تريم
وإنّك والكتاب إلى علي ** كدابغة وقد حلم الأديم
يمينك الإمارة كلّ ركب ** لأنقاض العراق بها رسيم
وليس أخو الترات بمن توانى ** ولكن طالب الترة الغشوم
ولو كنت القتيل وكان حيًّا ** لجرّد؛ لا ألفّ ولا سئوم
ولا نكل عن الأوتار حتّى ** يبئ بها، ولا برم جثوم
وقومك بالمدينة قد أبيروا ** فهم صرعى كأنهم الهشيم
وقال غير أبي بكر: فدعا معاوية شدّاد بن قيس كاتبه وقال: ابغني طومارًا، فأتاه بطومار، فأخذ القلم فكتب، فقال: لا تعجل، اكتب:
ومستعجب مما يرى من أناتنا ** ولو زبنته الحرب لم يترمرم
ثم قال: اطو الطومار، فأرسل به إلى الوليد، فلما فتحته لم يجد فيه غير هذا البيت.
قال أبو بكر الهذلي: وكتب رجل من أهل العراق حيث سار علي بن أبي طالب إلى معاوية بيتين:
أبلغ أمير المؤمني ** ن أخا العراق إذا أتيتا
أنّ العراق وأهلها ** عنق إليك فعيت هيتا
عاد الحديث إلى حديث عوانة. فبعث علي زياد بن النضر الحارثي طليعة في ثمانية آلاف، وبعث معه شريح بن هانئ في أربعة آلاف، وخرج علي من النخيلة بمن معه، فلمّا دخل المدائن شخص معه من فيها من المقاتلة، وولّى على المدائن سعد بن مسعود الثقفي عمّ المختار بن أبي عبيد، ووجّه علي من المدائن معقل بن قيس في ثلاثة آلاف، وأمره أن يأخذ على الموصل حتى يوافيه.
ما أمر به علي بن أبي طالب من عمل الجسر على الفرات

فلما انتهى علي إلى الرقة قال: فيما حدثت عن هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني الحجّاج بن علي، عن عبد الله بن عمار بن عبد يغوث البارقي - لأهل الرقة: اجسروا لي جسرًا حتى أعبر من هذا المكان إلى الشأم، فأبوا. وقد كانوا ضمّوا إليهم السفن، فنهض من عندهم ليعبر من جسر منبج، وخلّف عليهم الأشتر، وذهب ليمضي بالناس كيما يعبر بهم على جسر منبج، فناداهم الأشتر، فقال: يا أهل هذا الحصن، ألا أني أقسم لكم بالله عز وجل؛ لئن مضى أمير المؤمنين ولم تجسّروا له عند مدينتكم جسرًا حتى يعبر لأجردنّ فيكم السيف، ثم لأقتلنّ الرجال ولأخرّبنّ الأرض، ولآخذّن الأموال. قال: فلقي بعضهم بعضًا، فقالوا: أليس الأشتر يفي بما حلف عليه، أو يأتي بشرّ منه؟ قالوا: نعم، فبعثوا إليه: إنّا ناصبون لكم جسرًا، فأقبلوا. وجاء علي فنصبوا له الجسر، فعبر عليه بالأثقال والرجال. ثم أمر علي الأشتر فوقف في ثلاثة آلاف فارس، حتى لم يبق من الناس أحد إلّا عبر، ثم إنه عبر آخر الناس رجلًا.
قال أبو مخنف: وحدثني الحجّاج بن علي، عن عبد الله بن عمّار بن عبد يغوث، أنّ الخيل حين عبرت زحم بعضها بعضًا، فسقطت قلنسوة عبد الله بن أبي الحصين الأزدي، فنزل فأخذها ثم ركب، وسقطت قلنسوة عبد الله بن الحجّاج الأزدي، فنزل فأخذها، ثم ركب، وقال لصاحبه:
فإن يك ظنّ الزاجري الطير صادقًا ** كما زعموا أقتل وشيكًا وتقتل
فقال له عبد الله بن أبي الحصين: ما شئ أوتاه أحبّ إلي مما ذكرت؛ فقتلا جميعًا يوم صفّين.
قال أبو مخنف: فحدثني خالد بن قطن الحارثي، أنّ عليًّا لما قطع الفرات دعا زياد بن النضر، وشريح بن هانئ، فسرّحهما أمامه نحو معاوية على حالهما التي كانا خرجا عليها من الكوفة. قال: وقد كانا حيث سرّحهما من الكوفة أخذا على شاطئ الفرات من قبل البرّ مما يلي الكوفة حتى بلغا عانات، فبلغهما أخذ علي على طريق الجزيرة، وبلغهما أنّ معاوية قد أقبل من دمشق في جنود أهل الشأم لاستقبال علي، فقالا: لا والله ما هذا لنا برأي؛ أن نسير وبيننا وبين المسلمين وأمير المؤمنين هذا البحر! وما لا خير في أن نلقى جنود أهل الشأم بقلّة من معنا منقطعين من العدد والمدد. فذهبوا ليعبروا من عانات، فمنعهم أهل عانات، وحبسوا عنهم السفن، فأقبلوا راجعين حتى عبروا من هيت، ثم لحقوا عليًّا بقرية دون قرقيسياء؛ وقد أرادوا أهل عانات، فتحصّنوا وفرّوا، ولما لحقت المقدّمة عليًّا قال: مقدّمتي تأتيني من ورائي. فتقدّم إليه زياد بن النضر الحارثي وشريح بن هانئ؛ فأخبراه بالذي رأيا حين بلغهما من الأمر ما بلغهما، فقال: سددتما. ثم مضى علي، فلما عبر الفرات قدّمهما أمامه نحو معاوية، فلما انتهيا إلى سور الروم لقيهما أبو الأعور السلمي عمرو بن سفيان في جند من أهل الشأم؛ فأرسلا إلى علي: إنّا قد لقينا أبا الأعور السلمي في جند من أهل الشأم، وقد دعوناهم فلم يجبنا منهم أحد، فمرنا بأمرك. فأرسل علي إلى الأشتر؛ فقال: يا مالك، إنّ زيادًا وشريحًا أرسلا إلي يعلماني أنهما لقيا أبا الأعور السلمي في جمع من أهل الشأم، وأنبأني الرسول أنه تركهم متواقفين، فالنّجاء إلى أصحابك النجاء، فإذا قدمت عليهم فأنت عليهم. وإيّاك أن تبدأ القوم بقتال إلّا أن يبدءوك حتى تلقاهم فتدعوهم وتسمع، ولا يجرمنّك شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم، والاعذار إليهم مرة بعد مرّة، واجعل على ميمنتك زيادًا، وعلى ميسرتك شريحًا، وقف من أصحابك وسطًا، ولا تدن منهم دنوّ من يريد أن ينشب الحرب، ولا تباعد منهم بعد من يهاب البأس حتى أقدم عليك، فإنّي حثيث السير في أثرك إن شاء الله. قال: وكان الرسول الحارث بن جمهان الجعفي، فكتب علي إلى زياد وشريح: أمّا بعد، فإني قد أمّرت عليكما مالكًا، فاسمعا له وأطيعا، فإنه ممن لا يخاف رهقه ولا سقاطه ولا بطؤه عمّا الإسراع إليه أحزم، ولا الإسراع إلى ما الإبطاء عنه أمثل، وقد أمرته بمثل كنت أمرتكما به ألّا يبدأ القوم حتى يلقاهم فيدعوهم ويعذر إليهم.
وخرج الأشتر حتى قدم على القوم، فاتّبع ما أمره علي وكفّ عن القتال فلم يزالوا متواقفين حتى إذا كان عند المساء حمل عليهم أبو الأعور السلمي، فثبتوا له، واضطربوا ساعة. ثم إنّ أهل الشأم انصرفوا، ثم خرج إليهم من الغد هاشم بن عتبة الزهري في خيل ورجال حسن عددها وعدّتها، وخرج إليه أبو الأعور فاقتتلوا يومهم ذلك، تحمل الخيل على الخيل والرجال على الرجال، وصبر القوم بعضهم لبعض، ثم انصرفوا، وحمل عليهم الأشتر، فقتل عبد الله بن المنذر التنوخي، قتله يومئذ ظبيان بن عمّار التميمي، وما هو إلّا فتى حدث، وإن كان التنوخي لفارس أهل الشأم، وأخذ الأشتر يقول: ويحكم! أروني أبا الأعور.
ثم إن أبا الأعور دعا الناس، فرجعوا نحوه، فوقف من وراء المكان الذي كان فيه أوّل مرّة، وجاء الأشتر حتى صفّ أصحابه في المكان الذي كان فيه أبو الأعور، فقال الأشتر لسنان بن مالك النخعي: انطلق إلى أبي الأعور فادعه إلى المبارزة، فقال: إلى مبارزتي أو مبارزتك؟ فقال له الأشتر: لو أمرتك بمبارزته فعلت؟ قال: نعم، والله لو أمرتني أن أعترض صفّهم بسيفي ما رجعت أبدًا حتى أضرب بسيفي في صفّهم، قال له الأشتر: يا بن أخي، أطال الله بقاءك! قد والله ازددت رغبة فيك، لا أمرتك بمبارزته، إنما أمرتك أن تدعوه إلى مبارزتي؛ أنه لا يبرز إن كان ذلك من شأنه إلّا لذوي الأسنان والكفاءة والشرف، وأنت - لربّك الحمد - من أهل الكفاءة والشرف، غير أنّك فتى حدث السنّ، فليس بمبارز الأحداث، ولكن ادعه إلى مبارزتي. فأتاه فنادى: آمنوني فإنّي رسول. فأومن، فجاء حتى انتهى إلى أبي الأعور. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح أبو زهير العبسي، قال: حدثني سنان، قال: فدنوت منه فقلت: إنّ الأشتر يدعوك إلى مبارزته. قال: فسكت عني طويلًا ثم قال: إنّ خفّة الأشتر وسوء رأيه هو حمله على إجلاء عمّال ابن عفان رضي الله عنه من العراق، وانتزاؤه عليه يقبّح محاسنه، ومن خفّة الأشتر وسوء رأيه أن سار إلى ابن عفان رضي الله عنه في داره وقراره حتى قتله فيمن قتله، فأصبح متبعًا بدمه؛ ألا لا حاجة لي في مبارزته. قال: قلت: إنك قد تكلمت، فاسمع حتى أجيبك، فقال: لا، لا حاجة في الاستماع منك ولا في جوابك، اذهب عني. فصاح بي أصحابه فانصرفت عنه، ولو سمع إلي لأخبرته بعذر صاحبي وحجّته. فرجعت إلى الأشتر، فأخبرته أنه قد أبى المبارزة، فقال: لنفسه نظر، فواقفناهم حتى حجز الليل بيننا وبينهم، وبتنا متحارسين، فلما أصبحنا نظرنا فإذا القوم قد انصرفوا من تحت ليلتهم، ويصبّحنا علي بن أبي طالب غدوة. فقدم الأشتر فيمن كان معه في تلك المقدّمة حتى انتهى إلى معاوية، فواقفه، وجاء علي في أثره فلحق بالأشتر سريعًا، فوقف وتواقفوا طويلًا.
ثمّ إنّ عليًّا طلب موضعًا لعسكره، فلما وجده أمر الناس فوضعوا الأثقال، فلما فعلوا ذهب شباب الناس وغلمتهم يستقون، فمنعهم أهل الشأم. فاقتتل الناس على الماء، وقد كان الأشتر قال له قبل ذلك: إنّ القوم قد سبقوا إلى الشريعة وإلى سهولة الأرض وسعة المنزل، فإن رأيت سرنا نجوزهم إلى القرية التي خرجوا منها، فإنهم يشخصون في أثرنا، فإذا هم لحقونا نزلنا فكنّا نحن وهم على السواء، فكره ذلك علي، وقال: ليس كلّ الناس يقوى على المسير، فنزل بهم.
القتال على الماء

قال أبو مخنف: وحدثني تميم بن الحارث الأزدي، عن جندب بن عبد الله، قال: إنّا لما انتهينا إلى معاوية وجدناه قد عسكر في موضع سهل أفيح قد اختاره قبل قدومنا إلى جانب شريعة الفرات، ليس في ذلك الصقع شريعة غيرها، وجعلها في حيّزه، وبعث عليها أبا الأعور يمنعها ويحميها، فارتفعنا على الفرات رجاء أن نجد شريعة غيرها نستغني بها عن شريعتهم فلم نجدها، فأتينا عليًّا فأخبرناه بعطش الناس، وأنا لا نجد غير شريعة القوم. قال: فقاتلوهم عليها. فجاءه الأشعث بن قيس الكندي فقال: أنا أسير إليهم، فقال له علي: فسر إليهم. فسار وسرنا معه، حتى إذا دنونا من الماء ثاروا في وجوهنا ينضحوننا بالنّبل، ورشقناهم والله بالنّبل ساعة، ثم اطّعنّا والله بالرماح طويلًا، ثم صرنا آخر ذلك نحن والقوم إلى السيوف، فاجتلدنا بها ساعة. ثم إنّ القوم أتاهم يزيد بن أسد البجلي ممدًّا في الخيل والرجال، فأقبلوا نحونا، فقلت في نفسي: فأمير المؤمنين لا يبعث إلينا بمن يغني عنا هؤلاء، فذهب فالتفتّ فإذا عدّة القوم أو أكثر، قد سرّحهم إلينا ليغنوا عنّا يزيد بن أسد وأصحابه، عليهم شبث بن ربعي الرياحي، فوالله ما ازداد القتال إلّا شدّة. وخرج إلينا عمرو بن العاص من عسكر معاوية في جند كثير، فأخذ يمدّ أبا الأعور ويزيد بن أسد، وخرج الأشتر من قبل علي في جمع عظيم. فلمّا رأى الأشتر عمرو بن العاص يمدّ أبا الأعور ويزيد بن أسد، أمّد الأشعث بن قيس وشبث بن ربعي، فاشتدّ قتالنا وقتالهم، فما أنسى قول عبد الله بن عوف بن الأحمر الأزدي:
خلّوا لنا ماء الفرات الجاري ** أو اثيتوا لجحفل جرّار
لكلّ قرم مستميت شاري ** مطاعن برمحه كرّار
ضرّاب هامات العدا مغوار
قال أبو مخنف: وحدثني رجل من آل خارجة بن التميمي أن ظبيان ابن عمارة جعل يومئذ يقاتل وهو يقول:
هل لك يا ظبيان من بقاء ** في ساكن الأرض بغير ماء
لا وإله الأرض والسّماء ** فاضرب وجوه الغدر الأعداء
بالسّيف عن حمس الوغاء ** حتّى يجيبوك إلى السواء
قال ظبيان: فضربناهم والله حتى خلّونا وإيّاه.