قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري، عن أبيه ومولىً له، أن عليًا حرض الناس يوم صفين، فقال: إن الله عز وجل قد دلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تشفي بكم على الخير: الإيمان بالله عز وجل وبرسوله ، والجهاد في سبيل الله تعالى ذكره، وجعل ثوابه مغفرة الذنب، ومساكن طيبة في جنات عدن. ثم أخبركم أنه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص؛ فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص، وقدموا الدارع، وأخروا الحاسر، وعضوا على الأضراس، فإنه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا في أطراف الرماح، فإنه أصون للأسنة. وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش، وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل، وأولى بالوقار. راياتكم فلا تميلوها ولا تزيلوها، ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم، فإن المانع للذمار، والصابر عند نزول الحقائق، هم أهل الحفاظ الذين يحفون براياتهم ويكنفونها؛ يضربون حفافيها خلفها وأمامها، ولا يضعونها أجزأ امرؤٌ وقذ قرنه - رحمكم الله - وآسى أخاه بنفسه، ولم يكل قرنه إلى أخيه، فيكسب بذلك لائمةً، ويأتي به دناءة. وأنى لا يكون هذا هكذا! وهذا يقاتل اثنين، وهذا ممسك بيده يدخل قرنه على أخيه هاربًا منه، أو قائمًا ينظر إليه! من يفعل هذا يمقته الله عز وجل، فلا تعرضوا لمقت الله سبحانه فإنما مردكم إلى الله، قال الله عز من قائل لقوم: " لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذًا لا تمتعون إلا قليلًا ". وايم الله لئن سلمتم من سيف العاجلة لا تسلمون من سيف الآخرة. واستعينوا بالصدق والصبر، فإن بعد الصبر ينزل الله النصر.
الجد في الحرب والقتال

قال أبو مخنف: حدثني أبو روق الهمداني، أن يزيد بن قيس الأرحبي حرض الناس فقال: إن المسلم السليم من دينه ورأيه، وإن هؤلاء القوم والله إن يقاتلوننا على إقامة دين رأونا ضيعناه، وإحياء حقٍّ رأونا أمتناه، وإن يقاتلوننا إلا على هذه الدنيا ليكونوا جبابرةً فيه ملوكًا، فلو ظهروا عليكم - لا أراهم الله ظهورًا ولا سرورًا - لزموكم بمثل سعيد والوليد وعبد الله بن عامر السفيه الضال، يخبر أحدهم في مجلسه بمثل ديته ودية أبيه وجده، يقول: هذا لي ولا إثم علي، كأنما أعطى تراثه عن أبيه وأمه، وإنما هو مال الله عز وجل، أفاءه علينا بأسيافنا وأرماحنا، فقاتلوا عباد الله القوم الظالمين، الحاكمين بغير ما أنزل الله، ولا يأخذكم في جهادهم لوم لائم، فإنهم إن يظهروا عليكم يفسدوا عليكم دينكم ودنياكم؛ وهم من قد عرفتم وخبرتم؛ وايم الله ما ازدادوا إلى يومهم هذا إلا شرًا.
وقاتلهم عبد الله بن بديل في الميمنة قتالًا شديدًا حتى انتهى إلى قبة معاوية. ثم إن الذين تبايعوا على الموت أقبلوا إلى معاوية، فأمرهم أن يصمدوا لابن بديل في الميمنة، وبعث إلى حبيب بن مسلمة في الميسرة، فحمل بهم وبمن كان معه على ميمنة الناس فهزمهم، وانكشف أهل العراق من قبل الميمنة حتى لم يبق منهم إلا ابن بديل في مائتين أو ثلثمائة من القراء، قد أسند بعضهم ظهره إلى بعض، وانجفل الناس، فأمر عليٌّ سهل بن حنيف فاستقدم فيمن كان معه من أهل المدينة، فاستقبلتهم جموعٌ لأهل الشأم عظيمة، فاحتملتهم حتى ألحقتهم بالميمنة، وكان في الميمنة إلى موقف عليٍّ في القلب أهل اليمن، فلما كشفوا انتهت الهزيمة إلى علي، فانصرف يتمشى نحو الميسرة، فانكشفت عنه مضر من الميسرة، وثبتت ربيعة.
قال أبو مخنف: حدثني مالك بن أعين الجهني، عن زيد بن وهب الجهني، قال: مر علي معه بنوه نحو الميسرة. ومعه ربيعة وحدها، وإني لأرى النبل يمر بين عاتقه ومنكبه، وما من بنيه أحد إلا يقيه بنفسه. فيكره عليٌّ ذلك، فيتقدم عليه، فيحول بين أهل الشأم وبينه، فيأخذه بيده إذا فعل ذلك فيلقيه بين يديه أو من ورائه، فبصر به أحمر - مولى أبي سفيان، أو عثمان، أو بعض بني أمية - فقال علي: ورب الكعبة؛ قتلني الله إن لم أقتلك أو تقتلني! فأقبل نحوه، فخرج إليه كيسان مولى علي، فاختلفا ضربتين، فقتله مولى ب ني أمية، وينتهزه عليٌّ، فيقع بيده في جيب درعه، فيحبذه، ثم حمله على عاتقه؛ فكأني أنظر إلى رجيلتيه، تختلفان على عنق علي، ثم ضرب به الأرض فكسر منكبه وعضديه، وشد ابنا علي عليه: حسين ومحمد، فضرباه بأسيافهما، حتى بردا، فكأني أنظر إلى علي قائمًا وإلى شبليه يضربان الرجل، حتى إذا قتلاه وأقبلا إلى أبيهما، والحسن قائمًا قال له: يا بني، ما منعك أن تفعل كما فعل أخواك؟ قال: كفياني يا أمير المؤمنين. ثم إن أهل الشأم دنوا منه ووالله ما يزيده قربهم منه سرعةً في مشيه، فقال له الحسن: ما ضرك لو سعيت حتى تنتهي إلى هؤلاء الذين قد صبروا لعدوك من أصحابك؟ فقال: يا بني، إن لأبيك يومًا لن يعدوه ولا يبطىء به عند السعي، ولا يعجل به إليه المشي، إن أباك والله ما يبالي أوقع على الموت، أو وقع الموت عليه.
قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج الكندي، عن مولى للأشتر، قال: لما انهزمت ميمنة العراق وأقبل عليٌّ نحو الميسرة، مر به الأشتر يركض نحو الفزع قبل الميمنة، فقال له علي: يا مالك، قال: لبيك؛ قال: ائت هؤلاء القوم فقل لهم: أين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه، إلى الحياة التي لن تبقى لكم! فمضى فاستقبل الناس منهزمين، فقال لهم هذه الكلمات التي قالها له عليٌّ. وقال: إلي أيها الناس، أنا مالك بن الحارث، أنا مالك بن الحارث، ثم ظن أنه بالأشتر أعرف في الناس، فقال: أنا الأشتر، إلي أيها الناس. فأقبلت إليه طائفة، وذهبت عنه طائفة، فنادى: أيها الناس، عضضتم بهن آبائكم! ما أقبح ما قاتلتم منذ اليوم! أيها الناس، أخلصوا إلي مذحجًا، فأقبلت إليه مذحج، فقال: عضضتم بصم الجندل! ما أرضيتم ربكم، ولا نصحتم له في عدوكم، وكيف بذلك وأنتم أبناء الحروب، وأصحاب الغارات، وفتيان الصباح، وفرسان الطراد، وحتوف الأقران، ومذحج الطعان؛ الذين لم يكونوا يسبقون بثأرهم، ولا تطل دماؤهم، ولا يعرفون في موطن بخسفٍ، وأنتم حد أهل مصركم، وأعد حيٍّ في قومكم، وما تفعلوا في هذا اليوم، فإنه مأثور بعد اليوم؛ فاتقوا مأثور الأحاديث غد، واصدقوا عدوكم اللقاء فإن الله مع الصادقين. والذي نفس مالك بيده ما من هؤلاء - وأشار بيده إلى أهل الشام - رجلٌ على مثال جناح بعوضة من محمد . أنتم ما أحسنتم القراع، اجلوا سواد وجهي يرجع في وجهي دمي. عليكم بهذا السواد الأعظم، فإن الله عز وجل لو قد فضه تبعه من بجانبيه كما يتبع مؤخر السيل مقدمه. قالوا: خذ بنا حيث أحببت. وصمد نحو عظمهم فيما يلي الميمنة، فأخذ يزحف إليهم، ويردهم، ويستقبله شبابٌ من همدان - وكانوا ثمانمائة مقاتل يومئذ - وقد انهزموا آخر الناس، وكانوا قد صبروا في الميمنة حتى أصيب منهم ثمانون ومائة رجل، وقتل منهم أحد عشر رئيسًا، كلما قتل منهم رجل أخذ الراية آخر، فكان الأول كريب بن شريح، ثم شرحبيل ابن شريح، ثم مرثد بن شريح، ثم هبيرة بن شريح، ثم يريم بن شريح، ثم سمير بن شريح، فقتل هؤلاء الإخوة الستة جميعًا. ثم أخذ الراية سفيان ابن زيد، ثم عبد بن زيد، ثم كريب بن زيد، فقتل هؤلاء الإخوة الثلاثة جميعًا، ثم أخذ الراية عميرة بن بشير، ثم الحارث بن بشير، فقتلا، ثم أخذ الراية وهب بن كريب أخو القلوص، فأراد أن يستقبل، فقال له رجل من قومه: انصرف بهذه الراية - رحمك الله - فقد قتل أشراف قومك حولها، فلا تقتل نفسك ولا من بقي من قومك؛ فانصرفوا وهم يقولون: ليت لنا عدتنا من العرب يحالفوننا على الموت، ثم نستقدم نحن وهم فلا ننصرف حتى نقتل أو نظفر. فمروا بالأشتر وهم يقولون هذا القول، فقال لهم الأشتر: إلي أنا أحالفكم وأعاقدكم على ألا نرجع أبدًا حتى نظفر أو نهلك. فأتوه فوقفوا معه، ففي هذا القول قال كعب بن جعيل التغلبي:
وهمدان زرقٌ تبتغي من تحالف
وزحف الأشتر نحو الميمنة، وثاب إليه ناس تراجعوا من أهل الصبر والحياء والوفاء، فأخذ لا يصمد لكتيبة إلا كشفها، ولا لجمع إلا حازه ورده؛ فإنه لكذلك إذ مر بزياد بن النضر يحمل إلى العسكر، فقال: من هذا؟ فقيل: زياد بن النضر، استلحم عبد الله بن بديل وأصحابه في الميمنة، فتقدم زياد فرفع لأهل الميمنة رايته، فصبروا، وقاتل حتى صرع، ثم لم يمكثوا إلا كلا شيء حتى مر بيزيد بن قيس الأرحبي محمولًا نحو العسكر، فقال الأشتر: من هذا؟ فقالوا: يزيد بن قيس، لما صرع زياد ابن النضر رفع لأهل الميمنة رايته، فقاتل حتى صرع، فقال الأشتر: هذا والله الصبر الجميل، والفعل الكريم، ألا يستحي الرجل أن ينصرف لا يقتل ولا يقتل، أو يشفى به على القتل! قال أبو مخنف: حدثني أبو جناب الكلبي، عن الحر بن الصياح النخعي؛ أن الأشتر يومئذ كان يقاتل على فرس له في يده صفيحة يمانية، إذا طأطأها خلت فيها ماء منصبًا، وإذا رفعها كاد يعشي البصر شعاعها، وجعل يضرب بسيفه ويقول:
الغمرات ثم ينجلينا
قال: فبصر به الحارث بن جمهان الجعفي والأشتر متقنع في الحديد، فلم يعرفه، فدنا منه فقال له: جزاك الله خيرًا منذ اليوم عن أمير المؤمنين، وجماعة المسلمين! فعرفه الأشتر، فقال يا بن جمهان، مثلك يتخلف عن مثل موطني هذا الذي أنا فيه! فنظر إليه ابن جمهان فعرفه، فكان من أعظم الرجال وأطول - وكان في لحيته خفلةٌ قليلة - فقال: جعلت فداك! لا والله ما علمت بمكانك إلا الساعة، ولا أفارقك حتى أموت. قال: ورآه منقذٌ وحمير ابنا قيس الناعطيان، فقال منقذ لحمير: ما في العرب مثل هذا، إن كان ما أرى من قتاله على نيته، فقال له حمير: وهل النية إلا ما تراه يصنع! قال: إني أخاف أن يكون يحاول ملكًا قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج، عن مولىً للأشتر، أنه لما اجتمع إليه عظم من كان انهزم عن الميمنة حرضهم، ثم قال: عضوا على النواجذ من الأضراس، واستقبلوا القوم بهامكم، وشدوا شدة قوم موتورين ثأرًا بآبائهم وإخوانهم، حناقًا على عدوهم، قد وطنوا على الموت أنفسهم كيلا يسبقوا بوتر، ولايلحقوا في الدنيا عارًا، وايم الله ما وتر قوم قط بشيء أشد عليهم من أن يوتروا دينهم، وإن هؤلاء القوم لا يقاتلونكم إلا عن دينكم ليميتوا السنة، ويحيوا البدعة، ويعيدوكم في ضلالة قد أخرجكم الله عز وجل منها بحسن البصيرة. فطيبوا عباد الله أنفسًا بدمائكم دون دينكم، فإن ثوابكم على الله، والله عنده جنات النعيم. وإن الفرار من الزحف فيه السلب للعز، والغلبة على الفيء، وذل المحيا والممات، وعار الدنيا والآخرة.