وحمل عليهم حتى كشفهم، فألحقهم بصفوف معاوية بين صلاة العصر والمغرب، وانتهى إلى عبد الله بن بديل وهو في عصبة من القراء بين المائتين والثلثمائة، وقد لصقوا بالأرض كأنهم جشًا فكشف عنهم أهل الشأم، فأبصروا إخوانهم قد دنوا منهم، فقالوا: ما فعل أمير المؤمنين؟ قالوا: حيٌّ صالح في الميسرة، يقاتل الناس أمامه، فقالوا: الحمد لله، قد كنا ظننا أن قد هلك وهلكتم. وقال عبد الله بن بديل لأصحابه: استقدموا بنا؛ فأرسل الأشتر إليه: ألا تفعل، اثبت مع الناس فقاتل، فإنه خيرٌ لهم وأبقى لك ولأصحابك. فأبى، فمضى كما هو نحو معاوية، وحوله كأمثال الجبال، وفي يده سيفان، وقد خرج فهو أمام أصحابه، فأخذ كلما دنا منه رجلٌ ضربه فقتله، حتى قتل سبعة، ودنا من معاوية فنهض إليه الناس من كل جانب، وأحيط به وبطائفة من أصحابه، فقاتل حتى قتل، وقتل ناس من أصحابه، ورجعت طائفة قد جرحوا منهزمين، فبعث الأشتر ابن جمهان الجعفي فحمل على أهل الشأم الذين يتبعون من نجا من أصحاب ابن بديل حتى نفسوا عنهم، وانتهوا إلى الأشتر، فقال لهم: ألم يكن رأيي لكم خيرًا من رأيكم لأنفسكم! ألم آمركم أن تثبتوا مع الناس! وكان معاوية قال لابن بديل وهو يضرب قدمًا: أترونه كبش القوم! فلما قتل أرسل إليه، فقال: انظروا من هو؟ فنظر إليه ناس من أهل الشأم فقالوا: لا نعرفه، فأقبل إليه حتى وقف عليه، فقال: بلى، هذا عبد الله بن بديل، والله لو استطاعت نساء خزاعة أن تقاتلنا فضلًا على رجالها لفعلت، مدوه، فمدوه، فقال: هذا والله كما قال الشاعر:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ** وإن شمرت يومًا به الحرب شمرا
والبيت لحاتم طيىء. وإن الأشتر زحف إليهم فاستقبله معاوية بعك والأشعرين، فقال الأشتر لمذحج: اكفونا عكا، ووقف في همدان وقال لكندة: اكفونا الأشعرين، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وأخذ يخرج إلى قومه فيقول: إنما هم عك، فاحملوا عليهم، فيجثون على الركب ويرتجزون:
يا ويل أم مذحجٍ من عك ** هاتيك أم مذحجٍ تبكي
فقاتلوهم حتى المساء. ثم إنه قاتلهم في همدان وناس من طوائف الناس، فحمل عليهم فأزالهم عن مواقفهم حتى ألحقهم بالصفوف الخمسة المعقلة بالعمائم حول معاوية، ثم شد عليهم شدة أخرى فصرع الصفوف الأربعة، - وكانوا معقلين بالعمائم - حتى انتهوا إلى الخامس الذي حول معاوية، ودعا معاوية بفرس فركب - وكان يقول: اردت أن أنهزم فذكرت قول ابن الإطنابة من الأنصار - كان جاهليًا، والإطنابة امرأة من بلقين:
أبت لي عفتي وحياء نفسي ** وإقدامي على البطل المشيح
وإعطائي على المكروه مالي ** وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ** مكانك تحمدي أو تستريحي
فمنعني هذا القول من الفرار.
قال أبو مخنف: حدثني مالك بن أعين الجني، عن زيد بن وهب، أن عليًا لما رأى ميمنته قد عادت إلى مواقعها ومصافها وكشفت من بإزائها من عدوها حتى ضاربوهم في مواقفهم ومراكزهم، أقبل حتى انتهى إليهم فقال: إني قد رأيت جولتكم وانحيازكم عن صفوفكم، يحوزكم الطغاة الجفاة وأعراب أهل الشأم، وأنتم لهاميم العرب، والسنام الأعظم، وعمار الليل بتلاوة القرآن، وأهل دعوة الحق إذ ضل الخاطئون، فلولا إقبالكم بعد إدباركم، وكركم بعد انحيازكم، وجب عليكم ما وجب على المولي يوم الزحف دبره، وكنتم من الهالكين؛ ولكن هون وجدي، وشفى بعض أحاح نفسي، أني رأيتكم بأخرة حزتموهم كما حازوكم، وأزلتموهم عن مصافهم كما أزالوكم، تحسونهم بالسيوف، تركب أولاهم أخراهم كالإبل المطردة الهيم؛ فالآن فاصبروا، نزلت عليكم السكينة، وثبتكم الله عز وجل باليقين، ليعلم المنهزم أنه مسخط ربه، وموبق نفسه؛ إن الفرار موجدة الله عز وجل عليه، والذل اللازم، والعار الباقي، واعتصار الفيء من يده، وفساد العيش عليه. وإن الفار منه لا يزيد في عمره، ولا يرضي ربه، فموت المرء محقًا قبل إتيان هذه الخصال، خير من الرضا بالتأنيس لها، والإقرار عليها.
قال أبو مخنف: حدثنا عبد السلام بن عبد الله بن جابر الأحمسي، أن راية بجيلة بصفين كانت في أحمس بن الغوث بن أنمار مع أبي شداد - وهو قيس بن مكشوح بن هلال بن الحارث بن عمرو بن جابر بن علي ابن أسلم بن أحمس بن الغوث - وقالت له بجيلة: خذ رايتنا؛ فقال: غيري خيرٌ لكم مني، قالوا: ما نريد غيرك، قال: والله لئن أعطيتمونيها لا أنتهي بكم دون صاحب الترس المذهب قالوا: اصنع ما شئت، فأخذها ثم زحف، حتى انتهى بهم إلى صاحب الترس المذهب - وكان في جماعة عظيمة من أصحاب معاوية، وذكروا أنه عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي - فاقتتل الناس هنالك قتالًا شديدًا، فشد بسيفه نحو صاحب الترس، فتعرض له رومي، مولىً لمعاوية فيضرب قدم أبي شداد فيقطعها، ويضربه أبو شداد فيقتله، وأشرعت إليه الأسنة فقتل، وأخذ الراية عبد الله ابن قلع الأحمسي وهو يقول:
لا يبعد الله أبا شداد ** حيث أجاب دعوة المنادي
وشد بالسيف على الأعادي ** نعم الفتى كان لدى الطراد
وفي طعان الرجل والجلاد
فقاتل حتى قتل؛ فأخذ الراية أخوه عبد الرحمن بن قلع، فقاتل حتى قتل، ثم أخذها عفيف بن إياس، فلم تزل في يده حتى تحاجز الناس، وقتل حازم بن أبي حازم الأحمسي - أخو قيس بن أبي حازم - يومئذ، وقتل نعيم بن صهيب بن العلية البجلي يومئذ، فأتى ابن عمه وسمية نعيم بن الحارث ابن العلية معاوية - وكان معه - فقال: إن هذا القتيل ابن عمي، فهبه لي أدفنه، فقال: لا تدفنه فليس لذلك أهلًا، والله ما قدرنا على دفن ابن عفان رضي الله عنه إلا سرًا. قال: والله لتأذنن في دفنه أو لألحقن بهم ولأدعنك. قال معاوية: أترى أشياخ العرب قد أحالتهم أمورهم، فأنت تسألني في دفن ابن عمك! ادفنه إن شئت أو دع. فدفنه.
قال أبو مخنف: حدثني الحارث بن حصيرة الأزدي، عن أشياخ من النمر من الأزد، أن مخنف بن سليم لما ندبت الأزد للأزد، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن من الخطإ الجليل، والبلاء العظيم، أنا صرفنا إلى قومنا وصرفوا إلينا، والله ما هي إلا أيدينا نقطعها بأيدينا، وما هي إلا أجنحتنا نجدها بأسيافنا، فإن نحن لم نؤاس جماعتنا، ولم نناصح صاحبنا كفرنا، وإن نحن فعلنا فعزنا أبحنا، ونارنا أخمدنا، فقال له جندب بن زهير: والله لو كنا آباءهم وولدناهم - أو كنا أبناءهم وولدونا - ثم خرجوا من جماعتنا، وطغوا على إمامنا، وإذًا هم الحاكمون بالجور على أهل ملتنا وذمتنا، ما افترقنا بعد أن اجتمعنا حتى يرجعوا عما هم عليه، ويدخلوا فيما ندعوهم إليه، أو تكثر القتلى بيننا وبينهم.
فقال له مخنف - وكان ابن خالته: أعز الله بك النية؛ والله ما علمت صغيرًا وكبيرًا إلا مشؤومًا، والله ما ميلنا الرأي قط أيهما نأتي أو أيهما ندع - في الجاهلية ولا بعد أن أسلمنا - إلا اخترت أعسرهما وأنكدهما، اللهم إن تعافي أحب إلينا من أن تبتلي، فأعط كل امرىء منا ما يسألك.
وقال أبو بريدة بن عوف: اللهم احكم بيننا بما هو أرضى لك. يا قوم إنكم تبصرون ما يصنع الناس، وإن لنا الأسوة بما عليه الجماعة إن كنا على حق، وإن يكونوا صادقين فإن أسوةً في الشر - والله ما علمنا - ضررٌ في المحيا والممات.
وتقدم جندب بن زهير، فبارز رأس أزد الشأم، فقتله الشامي، وقتل من رهطه عجل وسعد ابنا عبد الله من بني ثعلبة، وقتل مع مخنف من رهطه عبد الله وخالد ابنا ناجد، وعمرو وعامر ابنا عويف، وعبد الله بن الحجاج وجندب بن زهير، وأبو زينب بن عوف بن الحارث، وخرج عبد الله بن أبي الحصين الأزدي في الفقراء الذين مع عمار بن ياسر فأصيب معه.
قال أبو مخنف: وحدثني الحارث بن حصيرة، عن أشياخ النمر، أن عقبة بن حديد النمري قال يوم صفين: ألا إن مرعى الدنيا قد أصبح هشيمًا، وأصبح شجرها خضيدًا، وجديدها سملًا، وحلوها مر المذاق. ألا وإني أنبئكم نبأ امرىء صادق: إني قد سئمت الدنيا وعزفت نفسي عنها، وقد كنت أتمنى الشهادة، وأتعرض لها في كل جيش وغارة؛ فأبى الله عز وجل إلا أن يبلغني هذا اليوم. ألا وإني متعرض لها من ساعتي هذه، قد طمعت ألا أحرمها، فما تنتظرون عباد الله بجهاد من عادى الله؟ خوفًا من الموت القادم عليكم، الذاهب بأنفسكم لا محالة، أو من ضربة كفٍّ بالسيف! تستبدلون الدنيا بالنظر في وجه الله عز وجل وموافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في دار القرار! ما هذا بالرأي السديد. ثم مضى فقال: يا إخوتي، قد بعت هذه الدار بالتي أمامها، وهذا وجهي إليها لا يبرح وجوهكم، ولا يقطع الله عز وجل رجاءكم. فتبعه إخوته: عبيد الله وعوف ومالك، وقالوا: لا نطلب رزق الدنيا بعدك، فقبح الله العيش بعدك! اللهم إنا نحتسب أنفسنا عندك! فاستقدموا فقاتلوا حتى قتلوا.
قال أبو مخنف: حدثني صلة بن زهير النهدي، عن مسلم بن عبد الله الضبابي، قال: شهدت صفين مع الحي ومعنا شمر بن ذي الجوشن الضبابي، فبارزه أدهم بن محرز الباهلي، فضرب أدهم وجه شمر بالسيف، وضربه شمر ضربةً لم تضرره، فرجع شمر إلى رحله فشرب شربةً - وكان قد ظمىء - ثم أخذ الرمح، فأقبل وهو يقول:
إني زعيمٌ لأخي باهله ** بطعنةٍ إن لم أصب عاجله
أو ضربةٍ تحت القنا والوغى ** شبيهةٍ بالقتل أو قاتله
ثم حمل على أدهم فصرعه، ثم قال: هذه بتلك.
قال أبو مخنف: حدثني عمرو بن عمرو بن عوف بن مالك الجشمي أن بشر بن عصمة المزني كان لحق بمعاوية، فلما اقتتل الناس بصفين بصر بشر بن عصمة بمالك بن العقدية - وهو مالك بن الجلاح الجشمي، ولكن العقدية غلبت عليه - فرآه بشر وهو يفري في أهل الشأم فريًا عجيبًا، وكان رجلًا مسلمًا شجاعًا، فغاظ بشرًا ما رأى منه، فحمل عليه فطعنه فصرعه، ثم انصرف، فندم لطعنته إياه جبارًا، فقال:
وإني لأرجو من مليكي تجاوزًا ** ومن صاحب الموسوم في الصدر هاجس
دلفت له تحت الغبار بطعنةٍ ** على ساعةٍ فيها الطعان تخالس
فبلغت مقالته ابن العقدية، فقال:
ألا أبلغا بشر بن عصمة أنني ** شغلت وألهاني الذين أمارس
فصادفت مني غرةً وأصبتها ** كذلك والأبطال ماضٍ وخالس