قال أبو مخنف: حدثني يوسف بن يزيد، عن عبد الله بن عوف، قال: لما أراد علي المسير إلى أهل النهر من الأنبار، قدم قيس بن سعد بن عبادة وأمره أن يأتي المدائن فينزلها حتى يأمره بأمره، ثم جاء مقبلًا إليهم، ووافاه قيس وسعد بن مسعود الثقفي بالنهر، وبعث إلى أهل النهر: ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم نقتلهم بهم، ثم أنا تارككم وكافٌّ عنكم حتى ألقى أهل الشأم؛ فلعل الله يقلب قلوبكم، ويردكم إلى خير مما أنتم عليه من أمركم. فبعثوا إليه. فقالوا: كلنا قتلتهم، وكلنا نستحل دماءهم ودماءكم.
قال أبو مخنف: فحدثني الحارث بن حصيرة، عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود، أن قيس بن سعد بن عابدة قال لهم: عباد الله، أخرجوا إلينا طلبتنا منكم، وادخلوا في هذا الأمر الذي منه خرجتم، وعودوا بنا إلى قتال عدونا وعدوكم، فإنكم ركبتم عظيمًا من الأمر، تشهدون علينا بالشرك، والشرك ظلمٌ عظيم، وتسفكون دماء المسلمين، وتعدونهم مشركين! فقال عبد الله بن شجرة السلمي: إن الحق قد أضاء لنا، فلسنا نتابعكم أو تأتونا بمثل عمر، فقال: ما نعلمه فينا غير صاحبنا، فهل تعلمونه فيكم؟ وقال: نشدتكم بالله في أنفسكم أن تهلكوها، فإني لأرى الفتنة قد غلبت عليكم! وخطبهم أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري؛ فقال: عباد الله، إنا وإياكم على الحال الأولى التي كنا عليها، ليست بيننا وبينكم فرقة، فعلام تقاتلوننا؟ فقالوا: إنا لو بايعناكم اليوم حكمتم غدًا. قال: فإني أنشدكم الله أن تعجلوا فتنة العام مخافة ما يأتي في قابل.
قال أبو مخنف: حدثني مالك بن أعين، عن زيد بن وهب، أن عليًا أتى أهل النهر فوقف عليهم فقال: أيتها العصابة التي أخرجتها عداوة المراء واللجاجة، وصدها عن الحق الهوى، وطمح بها النزق، وأصبحت في اللبس والخطب العظيم، إني نذيرٌ لكم أن تصبحوا تلفيكم الأمة غدًا صرعى بأثناء هذا النهر، وبأهضام هذا الغائط، بغير بينة من ربكم، ولا برهان بين. ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة، وأخبرتكم أن طلب القوم إياها منكم دهن ومكيدة لكم! ونبأتكم أن القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وأني أعرف بهم منكم، عرفتهم أطفالًا ورجالًا، فهم أهل المكر والغدر، وأنكم إن فارقتم رأيي جانبتم الحزم! فعصيتموني، حتى أقررت بأن حكمت، فلما فعلت شرطت واستوثقت، فأخذت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن، وأن يميتا ما أمات القرآن، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنة، فنبذنا أمرهما، ونحن على أمرنا الأول، فما الذي بكم؟ ومن أين أتيتم! قالوا: إنا حكمنا، فلما حكمنا أثمنا، وكنا بذلك كافرين، وقد تبنا فإن تبت كما تبنا فنحن منك ومعك، وإن أبيت فاعتزلنا فإنا منابذوك على سواء إن الله لا يحب الخائنين. فقال علي: أصابكم حاصب، ولابقي منكم وابر! أبعد إيماني برسول الله وهجرتي معه، وجهادي في سبيل الله، أشهد على نفسي بالكفر! لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين، ثم انصرف عنهم.
قال أبو مخنف: حدثني أبو سلمة الزهري - وكانت أمه بنت أنس ابن مالك - أن عليًا قال لأهل النهر: يا هؤلاء، إن أنفسكم قد سولت لكم فراق هذه الحكومة التي أنتم ابتدأتموها وسألتموها وأنا لها كارهٌ، وأنبأتكم أن القوم سألوكموها مكيدةً ودهنًا، فأبيتم علي إباء المخالفين، وعدلتم عني عدول النكداء العاصي، حتى صرفت رأيي إلى رأيكم؛ وأنتم والله معاشر أخفاء الهام، سفهاء الأحلام، فلم آت - لا أبا لكم - حرامًا والله ما خبلتكم عن أموركم، ولا أخفيت شيئًا من هذا الأمر عنكم، ولا أوطأتكم عشوة، ولا دنيت لكم الضراء، وإن كان أمرنا لأمر المسلمين ظاهرًا؛ فأجمع رأي ملئكم على أن اختاروا رجلين، فأخذنا عليهما أن يحكما بما في القرآن ولا يعدواه، فتاها وتركا الحق وهما يبصرانه، وكان الجور هواهما، وقد سبق استثاقنا عليهما في الحكم بالعدل، والصد للحق سوء رأيهما، وجور حكمهما. والثقة في أيدينا لأنفسنا حين خالفا سبيل الحق، وأتيا بما لا يعرف؛ فبينوا لنا بماذا تستحلون قتالنا، والخروج من جماعتنا؛ إن اختار الناس رجلين أن تضعوا أسيافكم على عواتقكم، ثم تستعرضوا الناس، تضربون رقابهم، وتسفكون دماءهم! إن هذا لهو الخسران المبين. والله لو قتلتم على هذا دجاجة لعظم عند الله قتلها، فكيف بالنفس التي قتلها عند الله حرامٌ!
فتنادوا: لا تخاطبوهم، ولا تكلموهم، وتهيئوا للقاء الرب، الرواح الرواح إلى الجنة! فخرج عليٌّ فعبأ الناس، فجعل على ميمنته حجر بن عدي، وعلى ميسرته شبث بن ربعي - أو مغفل بن قيس الرياحي - وعلى الخيل أبا أيوب الأنصاري، وعلى الرجالة أبا قتادة الأنصاري، وعلى أهل المدينة - وهم سبعمائة أو ثمانمائة رجل - قيس بن سعد بن عبادة.
قال: وعبأت الخوارج، فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي، وعلى الميسرة شريح بن أوفى العبسي، وعلى خيلهم حمزة بن سنان الأسدي، وعلى الرجالة حرقوص بن زهير السعدي.
قال: وبعث علي الأسود بن يزيد المرادي في ألفي فارس، حتى أتى حمزة بن سنان وهو في ثلثمائة فارس من خيلهم، ورفع عليٌّ راية أمان مع أبي أيوب، فناداهم أبو أيوب: من جاء هذه الراية منكم ممن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن؛ ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن؛ إنه لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم في سفك دمائكم. فقال فروة بن نوفل الأشجعي: والله ما أدري على أي شيء نقاتل عليًا! لا أرى إلا أن انصرف حتى تنفذ لي بصيرتي في قتاله أو أتباعه. وانصرف في خمسمائة فارس، حتى نزل البندنيجين والدسكرة، وخرجت طائفةٌ أخرى متفرقين فنزلت الكوفة، وخرج إلى علي منهم نحو من مائة، وكانوا أربعة آلاف، فكان الذين بقوا مع عبد الله بن وهب منهم ألفين وثمانمائة، وزحفوا إلى علي. وقدم علي الخيل دون الرجال، وصف الناس وراء الخيل صفين، وصف المرامية أمام الصف الأول، وقال لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدءوكم، فإنهم لو قد شدوا عليكم - وجلهم رجال - لم ينتهوا إليكم إلا لاغبين وأنتم رادون حامون. وأقبلت الخوارج، فلما أن دنوا من الناس نادوا يزيد بن قيس، فكان يزيد بن قيس على إصبهان. فقالوا: يا يزيد بن قيس، لا حكم إلا لله، وإن كرهت إصبهان! فناداهم عباس ابن شريك وقبيصة بن ضبيعة العبسيان: يا أعداء الله، أليس فيكم شريح ابن أوفى المسرف على نفسه؟ هل أنتم إلا أشباهه! قالوا: وما حجتكم على رجل كانت فيه فتنة، وفينا توبة! ثم تنادوا: الرواح الرواح إلى الجنة! فشدوا على الناس والخيل أمام الرجال، فلم تثبت خيل المسلمين لشدتهم، وافترقت الخيل فرقتين: فرقة نحو الميمنة، وأخرى نحو الميسرة، وأقبلوا نحو الرجال، فاستقبلت المرامية وجوههم بالنبل، وعطفت عليهم الخيل من الميمنة والميسرة، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف، فوالله ما لبثوهم أن أناموهم.
ثم إن حمزة بن سنان صاحب خيلهم لما رأى الهلاك نادى أصحابه أن انزلوا، فذهبوا لينزلوا فلم يتقاروا حتى حمل عليهم الأسود بن قيس المرادي، وجاءتهم الخيل من نحو علي، فأهمدوا في الساعة.
قال أبو مخنف: فحدثني عبد الملك بن مسلم بن سلام بن ثمامة الحنفي، عن حكيم بن سعد، قال: ما هو إلا أن لقينا أهل البصرة، فما لبثناهم، فكأنما قيل لهم: موتوا؛ فماتوا قبل أن تشتد شوكتهم، وتعظم نكايتهم.
قال أبو مخنف: فحدثني أبو جناب؛ أن أبا أيوب أتى عليًا، فقال: يا أمير المؤمنين، قتلت زيد بن حصين، قال: فما قلت له وما قال لك؟ قال: طعنته بالرمح في صدره حتى نجم من ظهره؛ قال: وقلت له: أبشر يا عدو الله بالنار! قال: ستعلم أينا أولى بها صليًا؛ فسكت عليٌّ عليها.
قال أبو مخنف، عن أبي جناب: إن عليًا قال له: هو أولى لها صليًا. قال: وجاء عائذ بن حملة التميمي، فقال: يا أمير المؤمنين، قتلت كلابًا، قال: أحسنت! أنت محق قتلت مبطلا. وجاء هانىء بن خطاب الأرحبي وزياد بن خصفة يحتجان في قتل عبد الله بن وهب الراسبي، فقال لهما: كيف صنعتما؟ فقالا: يا أمير المؤمنين، لما رأيناه عرفناه، وابتدرناه فطعناه برمحينا، فقال علي: لا تختلفا، كلاكما قاتل. وشد جيش بن ربيعة أبو المعتمر الكناني على حرقوص بن زهير فقتله، وشد عبد الله بن زحر الخولاني على عبد الله بن شجرة السلمي فقتله، ووقع شريح بن أوفى إلى جانب جدار، فقاتل على ثلمة فيه طويلًا من نهار، وكان قتل ثلاثةً من همدان، فأخذ يرتجز ويقول:
قد علمت جاريةٌ عبسيه ** ناعمةٌ في أهلها مكفيه
أني سأحمي ثلمتي العشيه
فشد عليه قيس بن معاوية الدهني فقطع رجله، فجعل يقاتلهم، ويقول:
القرم يحمى شوله معقولا
ثم شد عليه قيس بن معاوية فقتله، فقال الناس:
اقتتلت همدان يومًا ورجل ** اقتتلوا من غدوة حتى الأصل
ففتح الله لهمدان الرجل
وقال شريح:
أضربهم ولو أرى عليا ** ألبسته أبيض مشرفيا
قال أبو مخنف: حدثني عبد الملك بن أبي حرة، أن عليًا خرج في طلب ذي الثدية ومعه سليمان بن ثمامة الحنفي أبو جبرة، والريان بن صبر ابن هوذة، فوجده الريان بن صبرة بن هوذة في حفرة على شاطىء النهر في أربعين أو خمسين قتيلًا. قال: فلما استخرج نظر إلى عضده، فإذا لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة، له حلمة عليها شعرات سود، فإذا مدت امتدت حتى تحاذى طول يده الأخر، ثم تترك فتعود إلى منكبه كثدي المرأة، فلما استخرج قال علي: الله أكبر! والله ما كذبت ولا كذبت، أما والله لولا أن تنكلوا عن العمل، لأخبرتكم بما قضى الله على لسان نبيه لمن قاتلهم مستبصرًا في قتالهم، عارفًا للحق الذي نحن عليه. قال: ثم مر وهم صرعى فقال: بؤسًا لكم! لقد ضركم من غركم، فقالوا: يا أمير المؤمنين، من غرهم؟ قال: الشيطان، وأنفسٌ بالسوء أمارة، غرتهم بالأماني، وزينت لهم المعاصي، ونبأتهم أنهم ظاهرون. قال: وطلب من به رمق منهم فوجدناهم أربعمائة رجل، فأمر بهم علي فدفعوا إلى عشائرهم، وقال: احملوهم معكم فداووهم، فإذا برئوا فوافوا بهم الكوفة، وخذوا ما في عسكرهم من شيء.
قال: وأما السلاح والدواب وما شهدوا به عليه الحرب فقسمه بين المسلمين، وأما المتاع والعبيد والإماء فإنه حين قدم رده على أهله. وطلب عدي بن حاتم ابنه طرفة فوجده، فدفنه، ثم قال: الحمد لله الذي ابتلاني بيومك على حاجتي إليك. ودفن رجالٌ من الناس قتلاهم، فقال أمير المؤمنين حين بلغه ذلك: ارتحلوا إذًا، أتقتلونهم ثم تدفنونهم! فارتحل الناس.
قال أبو مخنف عن مجاهد، عن المحل بن خليفة: أن رجلًا منهم من بني سدوس يقال له العيزار بن الأخنس كان يرى رأي الخوارج، خرج إليهم، فاستقبل وراء المدائن عدي بن حاتم ومعه الأسود بن قيس والأسود بن يزيد المراديان، فقال له العيزار حين استقبله: أسالمٌ غانم، أم ظالمٌ آثم؟ فقال عدي: لا، بل سالمٌ غانم، فقال له المراديان: ما قلت هذا إلا لشر في نفسك، وإنك لنعرفك يا عيزار برأي القوم، فلا تفارقنا حتى نذهب بك إلى أمير المؤمنين فنخبره خبرك. فلم يكن بأوشك أن جاء علي فأخبراه خبره، وقالا: يا أمير المؤمنين، إنه يرى رأي القوم، قد عرفناه بذلك، فقالا: ما يحل لنا دمه، ولكنا نحبسه، فقال عدي بن حاتم: يا أمير المؤمنين، ادفعه إلي وأنا أضمن ألا يأتيك من قبله مكروه. فدفعه إليه.