قال: فخرج الأشتر من عند علي فأتى رحله، فتهيأ للخروج إلى مصر، وأتت معاوية عيونه، فأخبروه بولاية علي الأشتر، فعظم ذلك عليه، وقد كان طمع في مصر، فعلم أن الأشتر إن قدمها كان أشد عليه من محمد ابن أبي بكر، فبعث معاوية إلى الجايستار - رجل من أهل الخراج - فقال له: إن الأشتر قد ولي مصر، فإن أنت كفيتنيه لم آخذ منك خراجًا ما بقيت، فاحتل له بما قدرت عليه. فخرج الجايستار حتى أتى القلزم وأقام به، وخرج الأشتر من العراق إلى مصر، فلما انتهى إلى القلزم استقبله الجايستار، فقال: هذا منزل، وهذا طعامٌ وعلف، وأنا رجلٌ من أهل الخراج، فنزل به الأشتر، فأتاه الدهقان بعلف وطعام، حتى إذا طعم أتاه بشبة من عسل قد جعل فيها سمًا فسقاه إياه، فلما شربها مات. وأقبل معاوية يقول لأهل الشأم: إن عليًا وجه الأشتر إلى مصر، فادعوا الله أن يكفيكموه. قال: فكانوا كل يوم يدعون الله على الأشتر، وأقبل الذي سقاه إلى معاوي فأخبره بمهلك الأشتر، فقام معاوية في الناس خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد، فإنه كانت لعلي بن أبي طالب يدان يمينان، قطعت إحداهما يوم صفين - يعني عمار بن ياسر - وقطعت الأخرى اليوم - يعني الأشتر.
قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج، عن مولىً للأشتر، قال: لما هلك الأشتر وجدنا في ثقله رسالة علي إلى أهل مصر: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أمة المسلمين الذين غضبوا لله حين عصي في الأرض، وضرب الجور بارواقه على البر والفاجر، فلا حق يستراح إليه، ولا منكر يتناهى عنه. سلام عليكم، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو. أما بعد فقد بعثت إليكم عبدًا من عبيد الله لا ينام أيام الخوف، ولا ينكل عن الأعادي حذار الدوائر، أشد على الكفار من حريق النار، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج، فاسمعوا له وأطيعوا، فإنه سيفٌ من سيوف الله، لا نابي الضريبة، ولا كليل الحد، فإن أمركم أن تقدموا فأقدموا، وإن أمركم أن تنفروا فانفروا، فإنه لا يقدم ولا يحجم إلا بأمري، وقد آثرتكم به على نفسي لنصحه لكم، وشدة شكيمته على عدوكم، عصمكم الله بالهدى، وثبتكم على اليقين. والسلام.
قال: ولما بلغ محمد بن أبي بكر أن عليًا قد بعث الأشتر شق عليه، فكتب علي إلى محمد بن أبي بكر عند مهلك الأشتر، وذلك حين بلغه موجدة محمد بن أبي بكر لقدوم الأشتر عليه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر، سلامٌ عليك، أما بعد؛ فقد بلغني موجدتك من تسريحي الأشتر إلى عملك، وإني لم أفعل ذلك استبطاءً لك في الجهاد، ولا ازديادًا مني لك في الجد، ولو نزعت ما تحت يدك من سلطانك لوليتك ما هو أيسر عليك في المئونة، وأعجب إليك ولايةً منه. إن الرجل الذي كنت وليته مصر كان لنا نصيحًا، وعلى عدونا شديدًا، وقد استكمل أيامه، ولاقى حمامه، ونحن عنه راضون، فرضي الله عنه، وضاعف له الثواب، وأحسن له المآب. اصبر لعدوك، وشمر للحرب، وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وأكثر ذكر الله، والاستعانة به، والخوف منه، يكفك ما أهمك، ويعنك على ما ولاك، أعاننا الله وإياك على ما لا ينال إلا برحمته. والسلام عليك.
فكتب إليه محمد بن أبي بكر جواب كتابه: بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله عليٍّ أمير المؤمنين من محمد بن أبي بكر، سلامٌ عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله غيره، أما بعد، فإني قد انتهى إلي كتاب أمير المؤمنين، ففهمته وعرفت ما فيه، وليس أحد من الناس بأرضى مني برأي أمير المؤمنين، ولا أجهد على عدوه، ولا أرأف بوليه مني، وقد خرجت فعسكرت، وأمنت الناس إلا من نصب لنا حربًا، وأظهر لنا خلافًا، وأنا متبع أمر أمير المؤمنين وحافظه، وملتجىء إليه، وقائمٌ به، والله المستعان على كل حال؛ والسلام عليك.
قال أبو مخنف: حدثني أبو جهضم الأزدي - رجل من أهل الشأم - عن عبد الله بن حوالة الأزدي، أن أهل الشأم لما انصرفوا من صفين كانوا ينتظرون ما يأتي به الحكمان، فلما انصرفا وتفرقا بايع أهل الشأم معاوية بالخلافة، ولم يزدد إلا قوة، واختلف الناس بالعراق على علي، فما كان لمعاوية همٌّ إلا مصر، وكان لأهلها هائبًا خائفًا، لقربهم منه، وشدتهم على من كان على رأي عثمان، وقد كان على ذلك علم أن بها قومًا قد ساءهم قتل عثمان، وخالفوا عليًا، وكان معاوية يرجو أن يكون إذا ظهر عليها ظهر على حرب علي، لعظم خراجها. قال: فدعا معاوية من كان معه من قريش: عمرو بن العاص وحبيب بن مسلمة وبسر بن أبي أرطاة والضحاك بن قيس وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد؛ ومن غيرهم أبا الأعور عمرو بن سفيان السلمي وحمزة بن مالك الهمداني، وشرحبيل بن السمط الكندي فقال لهم: أتدرون لم دعوتكم؟ إني قد دعوتكم لأمر مهم أحب أن يكون الله قد أعان عليه، فقال القوم كلهم - أو من قال منهم: إن الله لم يطلع على الغيب أحدًا، وما يدرينا ما تريد! فقال عمرو بن العاص: أرى والله أمر هذه البلاد الكثير خراجها، والكثير عددها وعدد أهلها، أهمك أمرها، فدعوتنا إذًا لتسألنا عن رأينا في ذلك، فإن كنت لذلك دعوتنا، وله جمعتنا، فاعزم وأقدم، ونعم الرأي رأيت! ففي افتتاحها عزك وعز أصحابك، وكبت عدوك، وذل أهل الخلاف عليك. قال له معاوية مجيبًا: أهمك يا بن العاص ما أهمك - وذلك لأن عمرو بن العاص كان صالح معاوية حين بايعه على قتال علي بن أبي طالب، على أن له مصر طعمة ما بقي - فأقبل معاوية على أصحابه فقال: إن هذا - يعني عمرًا - قد ظن ثم حقق ظنه، قالوا له: لكنا لا ندري؛ قال معاوية: فإن أبا عبد الله قد أصاب، قال عمرو: وأنا أبو عبد الله؛ قال: إن أفضل الظنون ما أشبه اليقين.
ثم إن معاوية حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فقد رأيتم كيف صنع الله بكم في حربكم عدوكم، جاءوكم وهم لا يرون إلا أنهم سيقيضون بيضتكم، ويخربون بلادكم، ما كانوا يرون إلا أنكم في أيديهم، فردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرًا مما أحبوا، وحاكمناهم إلى الله، فحكم لنا عليهم. ثم جمع لنا كلمتنا، وأصلح ذات بيننا، وجعلهم أعداء متفرقين يشهد بعضهم على بعض بالكفر، ويسفك بعضهم دم بعض. والله إني لأرجو أن يتم لنا هذا الأمر، وقد رأيت أن نحاول أهل مصر، فكيف ترون ارتثاءنا لها! فقال عمرو: قد أخبرتك عما سألتني عنه، وقد أشرت عليك بما سمعت؛ فقال معاوية: إن عمرًا قد عزم وصرم، ولم يفسر، فكيف لي أن أصنع! قال له عمرو: فإني أشير عليك كيف تصنع، أرى أن تبعث جيشًا كثيفًا، عليهم رجلٌ حازم صارم تأمنه وتثق به، فيأتي مصر حتى يدخلها، فإنه سيأتيه من كان من أهلها على رأينا فيظاهره عى من بها من عدونا، فإذا اجتمع بها جندك ومن بها من شيعتك على من بها من أهل حربك، رجوت أن يعين الله بنصرك، ويظهر فلجك. قال له معاوية: هل عندك شيء دون هذا يعمل به فيما بيننا وبينهم؟ قال: ما أعلمه. قال: بلى، فإن غير هذا عندي. أرى أن نكاتب من بها من شيعتنا، ومن بها من أهل عدونا، فأما شيعتنا فآمرهم بالثبات على أمرهم. ثم أمنيهم قدومنا عليهم. وأما من بها من عدونا فندعوهم إلى صلحنا، ونمنيهم شكرنا، ونخوفهم حربنا، فإن صلح لنا ما قبلهم بغير قتال فذاك ما أحببنا، وإلا كان حربهم من وراء ذلك كله. إنك يابن العاص امرؤ بورك لك في العجلة، وأنا امرءٌ بورك لي في التؤدة؛ قال: فاعلم بما أراك الله، فوالله ما أرى أمرهم وأمرهم يصير إلا إلى الحرب العوان. قال: فكتب معاوية عند ذلك إلى مسلمة بن مخلد الأنصاري وإلى معاوية بن حديج الكندي - وكانا قد خالفا عليًا: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإن الله قد ابتعثكما لأمر عظيم أعظم به أجركما، ورفع به ذكركما، وزينكما به في المسلمين؛ طلبكما بدم الخليفة المظلوم، وغضبكما لله إذ ترك حكم الكتاب. وجاهدتما أهل البغي والعدوان. فأبشروا برضوان الله، وعاجل نصر أولياء الله. والمواساة لكما في الدنيا وسلطاننا حتى ينتهي في ذلك ما يرضيكما. ونؤدي به حقكما إلى ما يصير أمركما إليه. فاصبروا وصابروا عدوكما، وادعوا المدبر إلى هداكما وحفظكما، فإن الجيش قد أضل عليكما، فانقشع كل ما تكرهان. وكان كل ما تهويان. والسلام عليكما.
وكتب هذا الكتاب وبعث به مع مولً له يقال له سبيع.
فخرج الرسول بكتابه حتى قدم عليهما مصر ومحمد بن أبي بكر أميرها، وقد ناصب هؤلاء الحرب بها، وهو غير متخون بها يوم الإقدام عليه. فدفع كتابه إلى مسلمة بن مخلد وكتاب معاوية بن حديج، فقال مسلمة: امض بكتاب معاوية إليه حتى يقرأه. ثم القني به حتى أجيبه عني وعنه، فانطلق الرسول بكتاب معاوية بن حديج إليه، فأقرأه إياه، فلما قرأه قال: إن مسلمة ابن مخلد قد أمرني أن أرد إليه الكتاب إذا قرأته لكي يجب معاوية عنك وعنه. قال: قل له فليفعل؛ ودفع إليه الكتاب، فأتاه. ثم كتب مسلمة عن نفسه وعن معاوية بن حديج: أما بعد، فإن هذا الأمر الذي بذلنا له نفسنا، واتبعنا أمر الله فيه، أمرٌ نرجو به ثواب ربنا، والنصر ممن خالفنا، وتعجيل النقمة لمن سعى على إمامنا، وطأطأ الركض في جهادنا، ونحن بهذا الحيز من الأرض قد نفينا من كان به من أهل البغي، وأنهضنا من كان به من أهل القسط والعدل، وقد ذكرت المواساة في سلطانك ودنياك، وبالله إن ذلك لأمرٌ ما له نهضنا، ولا إياه أردنا، فإن يجمع الله لنا ما نطلب، ويؤتنا ما تمنينا، فإن الدنيا والآخرة لله رب العالمين، وقد يؤتيهما الله معًا عالمًا من خلقه، كما قال في كتابه، ولا خلف لموعوده، قال: " فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين "، عجل علينا خيلك ورجلك، فإن عدونا قد كان علينا حربًا، وكنا فيهم قليلًا، فقد أصبحوا لنا هائبين، وأصبحنا لهم مقرنين، فإن يأتنا الله بمدد من قبلك يفتح الله عليكم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل؛ والسلام عليك.
قال: فجاءه هذا الكتاب وهو يومئذ بفلسطين، فدعا النفر الذين سماهم في الكتاب فقال: ماذا ترون؟ قالوا: الرأي أن تبعث جندًا من قبلك، فإنك تفتتحها بإذن الله. قال معاوية: فتجهز يا أبا عبد الله إليها - يعني عمرو بن العاص - قال: فبعثه في ستة آلاف رجل، وخرج معاوية وودعه وقال له عند وداعه إياه: أوصيك يا عمرو بتقوى الله والرفق فإنه يمن، وبالمهل والتؤدة، فإن العجلة من الشيطان، وبأن تقبل ممن أقبل، وأن تعفو عمن أدبر، فإن قبل فبها ونعمت، وإن أبى فإن السطوة بعد المعذرة أبلغ في الحجة، وأحسن في العاقبة، وادع الناس إلى الصلح والجماعة، فإذا أنت ظهرت فليكن أنصارك آثر الناس عندك، وكل الناس فأول حسنًا. قال: فخرج عمرو يسير حتى نزل أداني أرض مصر، فاجتمعت العثمانية إليه، فأقام بهم، وكتب إلى محمد بن أبي بكر: أما بعد، فتنح عني بدمك يابن أبي بكر، فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر، إن الناس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك، ورفض أمرك، وندموا على اتباعك، فهم مسلموك لو قد التقت حلقتا البطان، فاخرج منها، فإني لك من الناصحين؛ والسلام: أما بعد، فإن غب البغي والظلم عظيم الوبال، وإن سفك الدم الحرام لا يسلم صاحبه من النقمة في الدنيا، ومن التبعة الموبقة في الآخرة، وإنا لا نعلم أحدًا كان أعظم على عثمان بغيًا، ولا أسوأ له عيبًا، ولا أشد عليه خلافًا منك؛ سعيت عليه في الساعين، وسفكت دمه في السافكين، ثم أنت تظن أني عنك نائمٌ أو ناسٍ لك، حتى تأتي فتأمر على بلاد أنت فيها جاري، وجل أهلها أنصاري، يرون رأيي، ويرقبون قولي، ويستصرخوني عليك. وقد بعثت إليك قومًا حناقًا عليك، يستسقون دمك، ويتقربون إلى الله بجهادك، وقد أعطوا الله عهدًا ليمثلن بك، ولو لم يكن منهم إليك ما عدا قتلك ما حذرتك ولا أنذرتك، ولأحببت أن يقتلوك بظلمك وقطيعتك وعدوك على عثمان يوم يطعن بمشاقصك بين خششائه وأوداجه، ولكن أكره أن أمثل بقرشي، ولن يسلمك الله من القصاص أبدًا أينما كنت. والسلام.
قال: فطوى محمد كتابيهما، وبعث بهما إلى علي، وكتب معهما: أما بعد، فإن ابن العاص قد نزل أداني أرض مصر، واجتمع إليه أهل البلد جلهم ممن كان يرى رأيهم، وقد جاء في جيش لجب خراب، وقد رأيت ممن قبلي بعض الفشل، فإن كان لك في أرض مصر حاجة فأمدني بالرجال والأموال؛ والسلام عليك.
فكتب إليه علي:
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 12 (0 من الأعضاء و 12 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)