أما بعد، فقد جاءني كتابك تذكر أن ابن العاص قد نزل بأداني أرض مصر في لجبٍ من جيشه خراب، وإن من كان بها على مثل رأيه قد خرج إليه، وخروج من يرى رأيه إليه خيرٌ لك من إقامتهم عندك. وذكرت أنك قد رأيت في بعض من قبلك فشلًا، فلا تفشل، وإن فشلوا فحصن قريتك، واضمم إليك شيعتك، واندب إلى القوم كنانة بن بشر المعروف بالنصيحة والنجدة والبأس، فإني نادبٌ إليك الناس على الصعب والذلول، فاصبر لعدوك، وامض على بصيرتك، وقاتلهم على نيتك، وجاهدهم صابرًا محتسبًا، وإن كانت فئتك أقل الفئتين؛ فإن الله قد يعز القليل، ويخذل الكثير. وقد قرأت كتاب الفاجر ابن الفاجر معاوية، والفاجر ابن الكافر عمرو، المتحابين في عمل المعصية، والمتوافقين المرتشيين في الحكومة، المنكرين في الدنيا، قد استمتعوا بخلاقهم كما استمتع الذين من قبلهم بخلاقهم، فلا يهلك إرعادهما وإبراقهما، وأجبهما إن كنت لم تجبهما بما هما أهله، فإنك تجد مقالًا ما شئت؛ والسلام.
قال أبو مخنف: فحدثني محمد بن يوسف بن ثابت الأنصاري. عن شيخ من أهل المدينة، قال: كتب محمد بن أبي بكر إلى معاوية بن أبي سفيان جواب كتابه: أما بعد، فقد أتاني كتابك تذكرني من أمر عثمان أمرًا لا أعتذر إليك منه، وتأمرني بالتنحي عنك كأنك لي ناصح، وتخوفين المثلة كأنك شفيق، وأنا أرجو أن تكون لي الدائرة عليكم، فأجتاحكم في الوقعة، وإن تؤتوا النصر ويكن لكم الأمر في الدنيا، فكم لعمري من ظالم قد نصرتم، وكم من مؤمن قتلتم ومثلتم به! وإلى الله مصيركم ومصيرهم، وإلى الله مرد الأمور، وهو أرحم الراحمين، والله المستعان على ما تصفون. والسلام.
وكتب محمد إلى عمرو بن العاص: أما بعد، فقد فهمت ما ذكرت في كتابك يابن العاص، زعمت أنك تكره أن يصيبني منك ظفر، وأشهد أنك من المبطلين. وتزعم أنك لي نصيح، وأقسم أنك عندي ظنين، وتزعم أن أهل البلد قد رفضوا رأيي وأمري، وندموا على اتباعي، فأولئك لك وللشيطان الرجيم أولياء، فحسبنا الله رب العالمين، وتوكلنا على الله رب العرش العظيم؛ والسلام.
قال: أقبل عمرو بن العاص حتى قصد مصر، فقام محمد بن أبي بكر في الناس، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله، ثم قال: أما بعد معاشر المسلمين والمؤمنين، فإن القوم الذين كانوا ينتهكون الحرمة، وينعشون الضلال، ويشبون نار الفتنة، ويتسلطون بالجبرية، قد نصبوا لكم العداوة، وساروا إليكم بالجنود. عباد الله! فمن أراد الجنة والمغفرة فليخرج إلى هؤلاء القوم فليجاهدهم في الله؛ انتدبوا إلى هؤلاء القوم رحمكم الله مع كنانة ابن بشر.
قال: فانتدب معه نحو من ألفي رجل، وخرج محمد في ألفي رجل، واستقبل عمرو بن العاص كنانة وهو على مقدمة محمد، فأقبل عمرو نحو كنانة، فلما دنا من كنانة سرح الكتائب كتيبةً بعد كتيبة، فجعل كنانة لا تأتيه كتيبةٌ من كتائب أهل الشام إلا شد عليها بمن معه، فيضربها حتى يقربها لعمرو بن العاص. ففعل ذلك مرارًا؛ فلما رأى ذلك عمرو بعث إلى معاوية بن حديج السكوني، فأتاه في مثل الدهم، فأحاط بكنانة وأصحابه، واجتمع أهل الشأم عليهم من كل جانب، فلما رأى ذلك كنانة بن بشر نزل عن فرسه، ونزل أصحابه وكنانة يقول: " وما كان لنفسٍ أن تموت إلا بإذن الله كتابًا مؤجلًا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين ". فضاربهم بسيفه حتى استشهد رحمة الله.
وأقبل عمرو بن العاص بنحو محمد بن أبي بكر، وقد تفرق عنه أصحابه لما بلغهم قتل كنانة، حتى بقي وما معه أحد من أصحابه، فلما رأى ذلك محمد خرج يمشي في الطريق حتى انتهى إلى خربة في ناحية الطريق، فأوى إليها، وجاء عمرو بن العاص حتى دخل الفسطاط، وخرج معاوية بن حديج في طلب محمد حتى انتهى إلى علوج في قارع الطريق، فسألهم: هل مر بكم أحد تنكرونه؟ فقال أحدهم: لا والله، إلا أني دخلت تلك الخربة، فإذا أنا برجل فيها جالس، فقال ابن حديج: هو هو ورب الكعبة؛ فانطلقوا يركضون حتى دخلوا عليه، فاستخرجوه وقد كاد يموت عطشًا؛ فأقبلوا به نحو فسطاط مصر. قال: ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص - وكان في جنده فقال: أتقتل أخي صبرًا! ابعث إلى معاوية بن حديج فانهه، فبعث إليه عمرو بن العاص يأمره أن يأتيه بمحمد بن أبي بكر، فقال معاوية: أكذاك! قتلتم كنانة بن بشر وأخلي أنا عن محمد بن أبي بكر! هيهات، " أكفاركم خيرٌ من أولئكم أم لكم براءةٌ في الزبر ". فقال لهم محمد: اسقوني من الماء، قال له معاوية بن حديج: لا سقاه الله إن سقاك قطرةً أبدًا! إنكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتى قتلتموه صائمًا محرمًا، فتلقاه الله بالرحيق المختوم، والله لأقتلنك بابن أبي بكر فيسقيك الله الحميم والغساق! قال له محمد: يابن اليهودية النساجة، ليس ذلك إليك وإلى من ذكرت، إنما ذلك إلى الله عز وجل يسقي أولياءه، ويظمىء أعداءه؛ أنت وضرباؤك ومن تولاه، أما والله لو كان سيفي في يدي ما بلغتم مني هذا؛ قال له معاوية: أتدري ما أصنع بك؟ أدخلك في جوف حمار، ثم أحرقه عليك بالنار؛ فقال له محمد: إن فعلتم بي ذلك، فطالما فعل ذلك بأولياء الله! وإني لأرجو هذه النار التي تحرقني بها ان يجعلها الله علي بردًا وسلامًا كما جعلها على خليله إبراهيم، وأن يجعلها عليك وعلى أوليائك كما جعلها على نمروذ وأوليائه، إن الله يحرقك ومن ذكرته قبل وإمامك - يعني معاوية، وهذا - وأشار إلى عمرو بن العاص - بنار تلظى عليكم؛ كلما خبت زادها الله سعيرًا. قال له معاوية: إني إنما أقتلك بعثمان؛ قال له محمد: وما أنت وعثمان! إن عثمان عمل بالجور، ونبذ حكم القرآن، وقد قال الله تعالى: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون "، فنقمنا ذلك عليه فقتلناه، وحسنت أنت له ذلك ونظراؤك، فقد برأنا الله إن شاء الله من ذنبه، وأنت شريكه في إثمه وعظم ذنبه، وجاعلك على مثاله. قال: فغضب معاوية فقدمه فقتله، ثم ألقاه في جيفة حمار، ثم أحرقه بالنار؛ فلما بلغ ذلك عائشة جزعت عليه جزعًا شديدًا، وقنتت عليه في دبر الصلاة تدعو على معاوية وعمرو، ثم قبضت عيال محمد إليها. فكان القاسم بن محمد بن أبي بكر في عيالها.
وأما الواقدي فإنه ذكر لي أن سويد بن عبد العزيز حدثه عن ثابت ابن عجلان، عن القاسم بن عبد الرحمن، أن عمرو بن العاص خرج في أربعة آلاف، فيهم معاوية بن حديج، وأبو الأعور السلمي، فالتقوا بالمسناة، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، حتى قتل كنانة بن بشر بن عتاب التجيبي، ولم يجد محمد بن أبي بكر مقاتلًا، فانهزم، فاختبأ عند جبلة بن مسروق، فدل عليه معاوية بن حديج، فأحاط به. فخرج محمد فقاتل حتى قتل.
قال الواقدي: وكانت المسناة في صفر سنة ثمان وثلاثين، وأذرح في شعبان منها في عام واحد.
رجع الحديث إلى حديث أبي مخنف. وكتب عمرو بن العاص إلى معاوية عند قتله محمد بن أبي بكر وكنانة بن بشر: أما بعد، فإنا لقينا محمد بن أبي بكر وكنانة بن بشر في جموع جمة من أهل مصر، فدعوناهم إلى الهدى والسنة وحكم الكتاب، فرفضوا الحق، وتوركوا في الضلال، فجاهدناهم، واستنصرنا الله عليهم، فضرب الله وجوههم وأدبارهم، ومنحونا أكتافهم، فقتل الله محمد بن أبي بكر وكنانة ابن بشر وأماثل القوم، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليك.
ذكر خبر قتل محمد بن أبي حذيفة

وفيها قتل محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس.
ذكر الخبر عن مقتله
اختلف أهل السير في وقت مقتله؛ فقال الواقدي: قتل في سنة ست وثلاثين. قال: وكان سبب قتله أن معاوية وعمرًا سارا إليه وهو بمصر قد ضبطها، فنزلا بعين شمس، فعالجا الدخول، فلم يقدرا عليه، فخدعا محمد بن أبي حذيفة على أن يخرج في ألف رجل إلى العريش، فخرج وخلف الحكم بن الصلت على مصر، فلما خرج محمد بن أبي حذيفة إلى العريش تحصن، وجاء عمرو فنصب المجانيق حتى نزل في ثلاثين من أصحابه، فأخذوا فقتلوا. قال: وذاك قبل أن يبعث عليٌّ إلى مصر قيس بن سعد.
وأما هشام بن محمد الكلبي فإنه ذكر أن محمد بن أبي حذيفة إنما أخذ بعد أن قتل محمد بن أبي بكر ودخل عمرو بن العاص مصر وغلب عليها، وزعم أن عمرًا لما دخل هو وأصحابه مصر أصابوا محمد بن أبي حذيفة، فبعثوا به إلى معاوية وهو بفلسطين، فحبسه في سجن له، فمكث فيه غير كثير، ثم إنه هرب من السجن - وكان ابن خال معاوية - فأرى معاوية الناس أنه قد كره انفلاته، فقال لأهل الشأم: من يطلبه؟ قال: وقد كان معاوية يحب فيما يرون أن ينجو، فقال رجل من خثعم - يقال له عبد الله ابن عمرو بن ظلام. وكان رجلًا شجاعًا. وكان عثمانيًا: أنا أطلبه، فخرج في حاله حتى لحقه بأرض البلقاء بحوران وقد دخل في غارٍ هناك. فجاءت حمرٌ تدخله، وقد أصابها المطر، فلما رأت الحمر الرجل في الغار فزعت، فنفرت، فقال حصادون كانوا قريبًا من الغار: والله إن لنفر هذه الحمر من الغار لشأنًا. فذهبوا لينظروا، فإذا هم به، فخرجوا، ويوافقهم عبد الله بن عمرو بن ظلام الخثعمي، فسألهم عنه، ووصفه لهم. فقالوا له: ها هو ذا في الغار؛ قال: فجاء حتى استخرجه، وكره أن يرجعه إلى معاوية فيخلي سبيله. فضرب عنقه.