ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين
ذكر ما كان فيها من الأحداث
ففيها غزا المسلمون اللان، وغزوا أيضًا الروم، فهزموهم هزيمةً منكرة - فيما ذكروا - وقتلوا جماعةً من بطارقتهم.
وقيل: في هذه السنة ولد الحجاج بن يوسف.
وولى معاوية في هذه السنة مروان بن الحكم المدينة، فاستقضى مروان عبد الله بن الحارث بن نوفل. وعلى مكة خالد بن العاص بن هشام، وكان على الكوفة من قبله المغيرة بن شعبة، وعلى القضاء شريح، وعلى البصرة عبد الله بن عامر، وعلى قضائها عمرو بن يثربي، وعلى خراسان قيس بن الهيثم من قبل عبد الله بن عامر.
وذكر علي بن محمد، عن محمد بن الفضل العبسي، عن أبيه، قال: بعث عبد الله بن عامر قيس بن الهيثم على خراسان حين ولاه معاوية البصرة وخراسان، فأقام قيس بخراسان سنتين.
وقد قيل في أمر ولاية قيس ما ذكره حمزة بن أبي صالح السلمي، عن زياد بن صالح، قال: بعث معاوية حين استقامت له الأمور قيس ابن الهيثم إلى خراسان، ثم ضمها إلى ابن عامر، فترك قيسًا عليها.
ذكر الخبر عن تحرك الخوارج
وفي هذه السنة تحركت الخوارج الذين انحازوا عمن قتل منهم بالنهروان ومن كان ارتث من جرحاهم بالنهروان، فبرءوا، وعفا عنهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ذكر الخبر عما كان منهم في هذه السنة
ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني النضر بن صالح ابن حبيب، عن جرير بن مالك بن زهير بن جذيمة العبسي، عن أبي بن عمارة العبسي، أن حيان بن ظبيان السلمي كان يرى رأي الخوارج، وكان ممن ارتث يوم النهروان، فعفا عنه علي رضي الله عنه في الأربعمائة الذين عفا عنهم من المرتثين يوم النهر، فكان في أهله وعشيرته، فلبث شهرًا أو نحوه. ثم إنه خرج إلى الري في رجال كانوا يرون ذلك الرأي، فلم يزالوا مقيمين بالري حتى بلغهم قتل علي كرم الله وجهه، فدعا أصحابه أولئك - وكانوا بضعة عشر رجلًا، أحدهم سالم بن ربيعة العبسي - فأتوه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الإخوان من المسلمين، إنه قد بلغني أن أخاكم ابن ملجم أخا مراد قعد لقتل علي بن أبي طالب عند أغباش الصبح مقابل السدة التي في المسجد مسجد الجماعة، فلم يبرح راكدًا ينتظر خروجه حتى خرج عليه حين أقام المقيم الصلاة صلاة الصبح، فشد عليه فضرب رأسه بالسيف، فلم يبق إلا ليلتين حتى مات، فقال سالم بن ربيعة العبسي: لا يقطع الله يمينًا علت قذاله بالسيف؛ قال: فأخذ القوم يحمدون الله على قتله رضي الله عنه ولا رضى عنهم ولا رحمهم! قال النضر بن صالح: فسألت بعد ذلك سالم بن ربيعة في إمارة مصعب ابن الزبير عن قوله ذلك في علي رضي الله عنه، فأقر لي به، وقال: كنت أرى رأيهم حينًا، ولكن قد تركته؛ قال: فكان في أنفسنا أنه قد تركه؛ قال: فكان إذا ذكروا له ذلك يرمضه. قال: ثم إن حيان بن ظبيان قال لأصحابه: إنه والله ما يبقى على الدهر باقٍ، وما تلبث الليالي والأيام والسنون والشهور على ابن آدم حتى تذيقه الموت، فيفارق الإخوان الصالحين، ويدع الدنيا التي لا يبكي عليها إلا العجزة، ولم تزل ضارةً لمن كانت له همًا وشجنًا؛ فانصرفوا بنا رحمكم الله إلى مصرنا، فلنأت إخواننا فلندعهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلى جهاد الأحزاب، فإنه لا عذر لنا في القعود، وولاتنا ظلمة، وسنة الهدى متروكة، وثأرنا الذين قتلوا إخواننا في المجالس آمنون، فإن يظفرنا الله بهم نعمد بعد إلى التي هي أهدى وأرضى وأقوم، ويشفي الله بذلك صدور قوم مؤمنين، وإن نقتل فإن في مفارقة الظالمين راحةً لنا، ولنا بأسلافنا أسوة. فقالوا له: كلنا قائل ما ذكرت، وحامدٌ رأيك الذي رأيت، فرد بنا المصر فإنا معك راضون بهداك وأمرك؛ فخرج وخرجوا معه مقبلين إلى الكوفة، فذلك حين يقول:
خليلي ما بي من عزاءٍ ولا صبر ** ولا إربةٍ بعد المصابين بالنهر
سوى نهضاتٍ في كتائب جمةٍ ** إلى الله ما تدعو وفي الله ما تفري
إذا جاوزت قسطانة الري بغلتي ** فلست بسارٍ نحوها آخر الدهر
ولكنني سارٍ وإن قل ناصري ** قريبًا فلا أخزيكما مع من يسري
قال: وأقبل حتى نزل الكوفة، فلم يزل بها حتى قدم معاوية، وبعث المغيرة بن شعبة واليًا على الكوفة، فأحب العافية، وأحسن في الناس السيرة، ولم يفتش أهل الأهواء عن أهوائهم، وكان يؤتى فيقال له: إن فلانًا يرى رأي الشيعة، وإن فلانًا يرى رأي الخوارج. وكان يقول: قضى الله ألا تزالون مختلفين، وسيحكم الله بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون. فأمنه الناس، وكانت الخوارج يلقى بعضهم بعضًا، ويتذاكرون مكان إخوانهم بالنهروان ويرون أن في الإقامة الغبن والوكف، وأن في جهاد أهل القبلة الفضل والأجر.
قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح، عن أبي بن عمارة، أن الخوارج في أيام المغيرة بن شعبة فزعوا إلى ثلاثة نفر؛ منهم المستورد بن علفة، فخرج في ثلاثة رجل مقبلًا نحو جراجرايا على شاطىء دجلة.
قال أبو مخنف: وحدثني جعفر بن حذيفة الطائي من آل عامر بن جوين، عن المحل بن خليفة، أن الخوارج في أيام المغيرة بن شعبة فزعوا إلى ثلاثة نفر؛ منهم المستورد بن علفة التيمي من تيم الرباب، وإلى حيان بن ظبيان السلمي، وإلى معاذ بن جوين بن حصين الطائي السنبسي - وهو ابن عم زيد بن حصين، وكان زيد ممن قتله علي رضي الله عنه يوم النهروان، وكان معاذ بن جوين هذا في الأربعمائة الذين ارتشوا من قتلى الخوارج، فعفا عنهم علي رضي الله عنه - فاجتمعوا في منزل حيان بن ظبيان السلمي، فتشاوروا فيمن يولون عليهم. قال: فقال لهم المستورد: يأيها المسلمون والمؤمنون، أراكم الله ما تحبون، وعزل عنكم ما تكرهون، ولوا عليكم من أحببتم، فوالذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ما أبالي من كان الوالي علي منكم! وما شرف الدنيا نريد، وما إلى البقاء فيها من سبيل، وما نريد إلا الخلود في دار الخلود. فقال حيان بن ظبيان: أما أنا فلا حاجة لي فيها وأنا بك وبكل امرىءٍ من إخواني راضٍ، فانظروا من شئتم منكم فسموه، فأنا أول من يبايعه. فقال لهم معاذ بن جوين بن حصين: إذا قلتما أنتما هذا وأنتما سيدا المسلمين وذوا أنسابهم في صلاحكما ودينكما وقدركما، فمن يرئس المسلمين، وليس كلكم يصلح لهذا الأمر! وإنما ينبغي أن يلي على المسلمين إذا كانوا سواء في الفضل أبصرهم بالحرب، وأفقههم في الدين، وأشدهم اضطلاعًا بما حمل، وأنتما بحمد الله ممن يرضى بهذا الأمر، فليتوله أحدكما. قالا: فتوله أنت، فقد رضيناك، فأنت والحمد لله الكامل في دينك ورأيك، فقال لهما: أنتما أسن مني، فليتوله أحدكما، فقال حينئذ جماعة من حضرهما من الخوارج: قد رضينا بكم أيها الثلاثة، فولوا أيكم أجبتم؛ فليس في الثلاثة رجل إلا قال لصاحبه: تولها أنت، فإني بك راضٍ، وإني فيها غير ذي رغبة. فلما كثر ذلك بينهم قال حيان بن ظبيان، فإن معاذ بن جوين قال: إني لا ألى عليكما وأنتما أسن مني، وأنا أقول لك مثل ما قال لي ولك، لا ألى عليك وأنت أسن مني، ابسط يدك أبايعك. فبسط يده فبايعه، ثم بايعه معاذ بن جوين، ثم بايعه القوم جميعًا، وذلك في جمادى الآخرة. فاتعد القوم أن يتجهزوا ويتيسروا ويستعدوا، ثم يخرجوا في غرة الهلال هلال شعبان سنة ثلاث وأربعين، فكانوا في جهازهم وعدتهم.
وقيل: في هذه السنة سار بسر بن أبي أرطاة العامري إلى المدينة ومكة واليمن، وقتل من قتله في مسيره ذلك من المسلمين.
وذلك قول الواقدي، وقد ذكرت من خالفه في وقت مسيره هذا السير.
وزعم الواقدي أن داود بن حيان حدثه، عن عطاء بن أبي مروان، قال: أقام بسر بن أبي أرطاة بالمدينة شهرًا يستعرض الناس، ليس أحدٌ ممن يقال هذا أعان على عثمان إلا قتله.
وقال عطاء بن أبي مروان: أخبرني حنظلة بن علي الأسلمي، قال: وجد قومًا من بني كعب وغلمانهم على بئرٍ لهم فألقاهم في البئر.
ذكر قدوم زياد على معاوية
وفي هذه السنة قدم زيادٌ - فيما حدثني عمر - قال: حدثنا أبو الحسن، عن سليمان بن أرقم، قدم على معاوية من فارس، فصالحه على مال يحمله إليه.
وكان سبب قدومه بعد امتناعه بقلعة من قلاع فارس، ما حدثني عمر قال: حدثنا أبو الحسن، عن مسلمة بن محارب، قال: كان عبد الرحمن بن أبي بكرة يلي ما كان لزياد بالبصرة، فبلغ معاوية أن لزياد أموالًا عند عبد الرحمن، وخاف زيادٌ على أشياء كانت في يد عبد الرحمن لزياد، فكتب إليه يأمره بإحرازها، وبعث معاوية إلى المغيرة بن شعبة لينظر في أموال زياد، فقدم المغيرة، فأخذ عبد الرحمن، فقال: لئن كان أساء إلي أبوك لقد أحسن زياد. وكتب إلى معاوية: إني لم أصب في يد عبد الرحمن شيئًا يحل لي أخذه. فكتب معاوية إلى المغيرة أن عذبه. قال: وقال بعض المشيخة: إنه عذب عبد الرحمن بن أبي بكرة إذ كتب إليه معاوية، وأراد أن يعذر ويبلغ معاوية ذلك، فقال: احتفظ بما أمرك به عمك، فألقى على وجهه حريرةً ونضحها بالماء، فكانت تلتزق بوجهه، فغشي عليه، ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم خلاه، وكتب إلى معاوية: إني عذبته، فلم أصب عنده شيئًا، فحفظ لزياد يده عنده.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن عبد الملك بن عبد الله الثقفي، عن أشياخ من ثقيف، قالوا: دخل المغيرة بن شعبة على معاوية، فقال معاوية حين نظر إليه:
إنما موضع سر المرء إن ** باح بالسر أخوه لمنتصح
فإذا بحت بسرٍّ فإلى ** ناصحٍ يستره أو لا تبح
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 18 (0 من الأعضاء و 18 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)