ذكر ولاية عبد الله بن خازم خراسان

ومما كان في هذه السنة تولية عبد الله بن عامر عبد الله بن خازم بن ظبيان خراسان وانصراف قيس بن الهيثم عنه، وكان السبب في ذلك - فيما ذكر أبو مخنف عن مقاتل بن حيان - أن ابن عامر استبطأ قيس بن الهيثم بالخراج، فأراد أن يعزله، فقال له ابن خازم: ولني خراسان فأكفيكها وأكفيك قيس بن الهيثم. فكتب له عهده أو هم بذلك، فبلغ قيسًا أن ابن عامر وجد عليه، وإمساكه عن الهدية، وأنه قد ولي ابن خازم، فخاف ابن خازم أن يشاغبه ويحاسبه، فترك خراسان، وأقبل فازداد عليه ابن عامر غضبًا، وقال: ضيعت الثغر! فضربه وحبسه، وبعث رجلًا من بني يشكر على خراسان.
قال ابن مخنف: بعث ابن عامر أسلم بن زرعة الكلابي حين عزل قيس ابن الهيثم؛ قال علي بن محمد: أخبرنا أبو عبد الرحمن الثقفي، عن أشياخه، أن ابن عامر استعمل قيس بن الهيثم على خراسان أيام معاوية، فقال له ابن خازم: إنك وجهت إلى خراسان رجلًا ضعيفًا، وإني أخاف إن لقي حربًا أن ينهزم بالناس، فتهلك خراسان، وتفتضح أخوالك. قال ابن عامر: فما الرأي؟ قال: تكتب لي عهدًا: إن هو انصرف عن عدوك قمت مقامه. فكتب له، فجاشت جماعةٌ من طخارستان، فشاور قيس ابن الهيثم فأشار عليه ابن خازم أن ينصرف حتى يجتمع إليه أطرافه؛ فانصرف، فلما سار من مكانه مرحلةً أو مرحلتين أخرج ابن خازم عهده، وقام بأمر الناس، ولقي العدو فهزمهم، وبلغ الخبر المصرين والشأم فغضب القيسية وقالوا: خدع قيسًا وابن عامر؛ فأكثروا في ذلك حتى شكوا إلى معاوية، فبعث إليه فقدم، فاعتذر مما قيل فيه؛ فقال له معاوية: قم فاعتذر إلى الناس غدًا؛ فرجع ابن خازم إلى أصحابه فقال: إني قد أمرت بالخطبة، ولست بصاحب كلام، فاجلسوا حول المنبر، فإذا تكلمت فصدقوني، فقام من الغد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنما يتكلف الخطبة إمامٌ لا يجد منها بدًا، أو أحمق يهمر من رأسه لا يبالي ما خرج منه، ولست بواحد منهما؛ وقد علم من عرفني أني بصير بالفرس وثاب عليها، وقاف عند المهالك، أنفذ بالسرية، وأقسم بالسوية؛ أنشدكم بالله من كان يعرف ذلك مني لما صدقني! قال أصحابه حول المنبر: صدقت؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إنك ممن نشدت فقل بما تعلم؛ قال: صدقت.
قال علي: أخبرنا شيخٌ من بني تميم يقال له معمر، عن بعض أهل العلم أن قيس بن الهيثم قدم على ابن عامر من خراسان مراغمًا لابن خازم، قال: فضربه ابن عامر مائةً وحلقه وحبسه، قال: فطلبت إليه أمه، فأخرجه.
وحج بالناس في هذه السنة - فيما قيل - مروان بن الحكم، وكان على المدينة، وكان على مكة خالد بن العاص بن هشام، وعلى الكوفة المغيرة بن شعبة، وعلى قضائها شريح، وعلى البصرة وفارس وسجستان وخراسان عبد الله بن عامر، وعلى قضائها عمير بن يثربي.
ثم دخلت سنة أربع وأربعين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمما كان فيها من ذلك دخول المسلمين مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بلاد الروم ومشتاهم بها، وغزو بسر بن أبي أرطاة البحر.
عزل عبد الله بن عامر عن البصرة

وفي هذه السنة عزل معاوية عبد الله بن عامر عن البصرة.
ذكر الخبر عن سبب عزله
كان سبب ذلك أن ابن عامر كان رجلًا لينًا كريمًا، لا يأخذ على أيدي السفهاء، ففسدت البصرة بسبب ذلك أيام عمله بها لمعاوية فحدثني عمر بن شبة، قال: أخبرنا يزيد الباهلي، قال: شكا ابن عامر إلى زياد فساد الناس وظهور الخبث، فقال: جرد فيهم السيف، فقال: إني أكره أن أصلحهم بفساد نفسي.
حدثني عمر، قال: قال أبو الحسن: كان ابن عامر لينًا سهلًا، سهل الولاية، لا يعاقب في سلطانه، ولا يقطع لصًا، فقيل له في ذلك؛ فقال: أنا أتألف الناس، فكيف أنظر إلى رجل قد قطعت أباه وأخاه!
حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا مسلمة بن محارب، قال: وفد ابن الكواء، واسم ابن الكواء عبد الله بن أبي أوفى إلى معاوية، فسأله عن الناس، فقال ابن الكواء: أما أهل البصرة فقد غلب عليها سفهاؤها، وعاملها ضعيف، فبلغ ابن عامر قول ابن الكواء، فاستعمل طفيل ابن عوف اليشكري على خراسان، وكان الذي بينه وبين ابن الكواء متباعدًا، فقال ابن الكواء: إن ابن دجاجة لقليل العلمفي، أظن أن ولاية طفيل خراسان تسوءني! لوددت أنه لم يبق في الأرض يشكريٌّ إلا عاداني، وأنه ولاهم. فعزل معاوية ابن عامر، وبعث الحارث بن عبد الله الأزدي. قال: وقال القحذمي: قال ابن عامر: أي الناس أشد عداوةً لابن الكواء؟ قالوا: عبد الله بن أبي شيخ، فولاه خراسان؛ فقال ابن الكواء ما قال.
وذكر عن عمر، عن أبي الحسن، عن شيخ من ثقيف وابي عبد الرحمن الإصبهاني، أن ابن عامر أوفد إلى معاوية وفدًا، فوافقوا عنده وفد أهل الكوفة، وفيهم ابن الكواء اليشكري، فسألهم معاوية عن العراق وعن أهل البصرة خاصة؛ فقال له ابن الكواء: يا أمير المؤمنين، إن أهل البصرة أكلهم سفهاؤهم، وضعف عنهم سلطانهم، وعجز ابن عامر وضعفه. فقال له معاوية: تكلم عن أهل البصرة وهم حضور! فلما انصرف الوفد إلى البصرة بلغوا ابن عامر ذلك، فغضب، فقال: أي أهل العراق أشد عداوةً لابن الكواء! فقيل له: عبد الله بن أبي شيخ اليشكري، فولاه خراسان، وبلغ ابن الكواء ذلك فقال ما قال.
حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: لما ضعف ابن عامر عن عمله، وانتشر الأمر بالبصرة عليه، كتب إليه معاوية يستزيره، قال عمر: فحدثني أبو الحسن أن ذلك كان في سنة أربع وأربعين، وأنه استخلف على البصرة قيس ابن الهيثم، فقدم على معاوية، فرده على عمله، فلما ودعه قال له معاوية: إني سائلك ثلاثًا، فقل: هن لك. قال: هن لك وأنا ابن أم حكيم، قال: ترد علي عملي. ولا تغضب، قال: قد فعلت؛ قال: وتهب لي مالك بعرفة؛ قال: قد فعلت. قال: وتهب لي دورك بمكة؛ قال: قد فعلت، قال: وصلتك رحم! قال: فقال ابن عامر: يا أمير المؤمنين، إني سائلك ثلاثًا فقل: هن لك؛ قال: هن لك وأنا ابن هند؛ قال: ترد علي مالي بعرفة، قال: قد فعلت، قال: ولا تحاسب لي عاملًا، ولا تتبع لي أثرًا. قال: قد فعلت، قال: وتنكحني ابنتك هندًا؛ قال: قد فعلت.
قال: ويقال: إن معاوية قال له: اختر بين أن أتتبع أثرك وأحاسبك بما صار إليك، وأردك إلى عملك، وبين أن أسوغك ما أصبت، وتعتزل، فاختار أن يسوغه ذلك ويعتزل.
استلحاق معاوية نسب زياد ابن سمية بأبيه

وفي هذه السنة استلحق معاوية نسب زياد بن سمية بأبيه أبي سفيان فيما قيل.
حدثني عمر بن شبة، قال: زعموا أن رجلًا من عبد القيس كان مع زياد لما وفد على معاوية، فقال لزياد: إن لابن عامر عندي يدًا، فإن أذنت لي أتيته، قال: على أن تحدثني ما يجري بينك وبينه؛ قال: نعم، فأذن له فأتاه، فقال له ابن عامر: هيه هيه! وابن سمية يقبح آثاري، ويعرض بعمالي! لقد هممت أن آتي بقسامة من قريش يحلفون أن أبا سفيان لم ير سمية؛ قال: فلما رجع سأله زياد، فأبى أن يخبره، فلم يدعه حتى أخبره، فأخبر ذلك زيادٌ معاوية، فقال معاوية لحاجبه: إذا جاء ابن عامر فاضرب وجه دابته عن أقصى الأبواب، ففعل ذلك به، فأتى ابن عامر يزيد، فشكا إليه ذلك، فقال له: هل ذكرت زيادًا؟ قال: نعم، فركب معه يزيد حتى أدخله، فلما نظر إليه معاوية قام فدخل، فقال يزيد لابن عامر: اجلس فكم عسى أن تقعد في البيت عن مجلسه! فلما أطالا خرج معاوية وفي يده قضيبٌ يضرب به الأبواب، ويتمثل:
لنا سياقٌ ولكم سياق ** قد علمت ذلكم الرفاق
ثم قعد فقال: يابن عامر، أنت القائل في زياد ما قلت! أما والله لقد علمت العرب أني كنت أعزها في الجاهلية، وإن الإسلام لم يزدني إلا عزًا، وأني لم أتكثر بزيادٍ من قلة، ولم أتعزز به من ذلة، ولكن عرفت حقًا له فوضعته موضعه، فقال: يا أمير المؤمنين، نرجع إلى ما يحب زياد، قال: إذًا نرجع إلى ما تحب؛ فخرج ابن عامر إلى زياد فترضاه.
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا عبد الرحمن بن صالح، قال: حدثنا عمرو بن هاشم، عن عمر بن بشير الهمداني، عن أبي إسحاق، أن زيادًا لما قدم الكوفة، قال: قد جئتكم في أمرٍ ما طلبته إلا إليكم، قالوا: ادعنا إلى ما شئت، قال: تلحقون نسبي بمعاوية؛ قالوا: أما بشهادة الزور فلا؛ فأتى البصرة، فشهد له رجل.
وحج بالناس في هذه السنة معاوية.
وفيها عمل مروان المقصورة، وعملها - أيضًا فيما ذكر - معاوية بالشأم. وكانت العمال في الأمصار فيها العمال الذين ذكرنا قبل أنهم كانوا العمال في سنة ثلاث وأربعين.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين

ذكر الأحداث المذكورة التي كانت فيها

فمن ذلك استعمال معاوية الحارث بن عبد الله الأزدي فيها على البصرة. فحدثني عمر، قال: حدثني علي بن محمد، قال: عزل معاوية ابن عامر وولى الحارث بن عبد الله الأزدي البصرة في أول سنة خمس وأربعين، فأقام بالبصرة أربعة أشهر، ثم عزله. قال: وقد قيل: هو الحارث بن عمرو وابن عبد عمرو، وكان من أهل الشأم، وكان معاوية عزل ابن عامر ليولي زيادًا، فولى الحارث كالفرس المحلل، فولى الحارث شرطته عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي، ثم عزله معاوية وولاها زيادًا.
ذكر الخبر عن ولاية زياد البصرة

حدثني عمر، قال: حدثنا عليٌّ، قال: حدثنا بعض أهل العلم أن زيادًا لما قدم الكوفة ظن المغيرة أنه قدم واليًا على الكوفة، فأقام زياد في دار سلمان بن ربيعة الباهلي، فأرسل إليه المغيرة وائل بن حجر الحضرمي أبا هنيدة، وقال له: اعلم لي علمه. فأتاه فلم يقدر منه على شيء، فخرج من عنده يريد المغيرة، وكان زاجرًا، فرأى غرابًا ينعق، فرجع إلى زياد فقال: يا أبا المغيرة، هذا الغراب يرحلك عن الكوفة. ثم رجع إلى المغيرة، وقدم رسول معاوية على زياد من يومه: أن سر إلى البصرة.
وأما عبد الله بن أحمد المروزي فحدثني، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن إسحاق - يعني ابن يحيى - عن معبد بن خالد الجدلي، قال: قدم علينا زيادٌ - الذي يقال له ابن أبي سفيان - من عند معاوية، فنزل دار سلمان بن ربيعة الباهلي ينتظر أمر معاوية. قال: فبلغ المغيرة بن شعبة - وهو أميرٌ على الكوفة - أن زيادًا ينتظر أن تجيء إمارته على الكوفة، فدعا قطن بن عبد الله الحارثي فقال: هل فيك من خير؟ تكفيني الكوفة حتى آتيك من عند أمير المؤمنين؛ قال: ما أنا بصاحب ذا، فدعا عتيبة بن النهاس العجلي، فعرض عليه فقبل، فخرج المغيرة إلى معاوية، فلما قدم عليه سأله أن يعزله، وأن يقطع له منازل بقرقيسيا بين ظهري قيس، فلما سمع بذلك معاوية خاف بائقته، وقال: والله لترجعن إلى عملك يا أبا عبد الله. فأبى عليه، فلم يزده ذلك إلا تهمة، فرده إلى عمله، فطرقنا ليلًا، وإني لفوق القصر أحرسه، فلما قرع الباب أنكرناه، فلما خاف أن ندلي عليه حجرًا تسمى لنا، فنزلت إليه فرحبت له وسلمت، فتمثل: