إذا مت مات الجود وانقطع الندى ** من الناس إلا من قليل مصرد
وردت أكف السائلين وأمسكوا ** من الدين والدنيا بخلفٍ مجدد
فقالت إحدى بناته - أو غيرها: كلا يا أمير المؤمنين، بل يدفع الله عنك؛ فقال متمثلًا:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ** ألفيت كل تميمةٍ لا تنفع
ثم أغمي عليه، ثم أفاق، فقال: لمن حضره من أهله: اتقوا الله عز وجل، فإن الله سبحانه يقي من اتقاه، ولا واقي لمن لا يتقي الله؛ ثم قضى.
حدثنا أحمد، عن علي، عن محمد بن الحكم، عمن حدثه أن معاوية لما حضر أوصى بنصف ماله أن يرد إلى بيت المال، كان أراد أن يطيب له الباقي، لأن عمر قاسم عماله.
ذكر الخبر عمن صلى على معاوية حين مات

حدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، قال: صلى على معاوية الضحاك بن قيس الفهري، وكان يزيد غائبًا حين مات معاوية.
وحدثت عن هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني عبد الملك ابن نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة، قال: لما مات معاوية خرج الضحاك بن قيس حتى صعد المنبر وأكفان معاوية بين يديه تلوح، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن معاوية كان عود العرب، وحد العرب، قطع الله عز وجل به الفتنة، وملكه على العباد، وفتح به البلاد. ألا إنه قد مات، فهذه أكفانه، فنحن مدرجوه فيها، ومدخلوه قبره، ومخلون بينه وبين عمله، ثم هو البرزخ إلى يوم القيامة، فمن كان منكم يريد أن يشهده فليحضر عند الأولى. وبعث البريد إلى يزيد بوجع معاوية، فقال يزيد في ذلك:
جاء البريد بقرطاسٍ يخب به ** فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
قلنا: لك الويل ماذا في كتابكم؟ ** قالوا: الخليفة أمسى مثبتًا وجعا
فمادت الأرض أو كادت تميد بنا ** كأن أغبر من أركانها انقطعا
من لا تزل نفسه توفي على شرفٍ ** توشك مقاليد تلك النفس أن تقعا
لما انتهينا وباب الدار منصفقٌ ** وصوت رملة ريع القلب فانصدعا
حدثني عمر، قال: حدثنا علي، عن إسحاق بن خليد، عن خليد ابن عجلان مولى عباد، قال: مات معاوية ويزيد بحوارين، وكانوا كتبوا إليه حين مرض، فأقبل وقد دفن، فأتى قبره فصلى عليه، ودعا له، ثم أتى منزله، فقال: جاء الريد بقرطاس.. الأبيات.
ذكر الخبر عن نسبه وكنيته

أما نسبه فإنه ابن أبي سفيان، واسم أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، وأمه هند بنت عتبة ابن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، وكنيته أبو عبد الرحمن.
ذكر نسائه وولده

من نسائه ميسون بنت بحدل بن أنيف بن ولجة بن قنافة بن عدي ابن زهير بن حارثة بن جناب الكلبي، ولدت له يزيد بن معاوية. قال علي: ولدت ميسون لمعاوية مع يزيد أمةً - رب المشارق - فماتت صغيرة، ولم يذكرها هشام في أولاد معاوية.
ومنهن فاختة ابنة قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف. ولدت له عبد الرحمن وعبد الله بني معاوية، وكان عبد الله محمقًا ضعيفًا، وكان يكنى أبا الخير. حدثني أحمد، عن علي بن محمد، قال: مر عبد الله بن معاوية يومًا بطحان قد شد بغله في الرحا للطحن، وجعل في عنقه جلاجل، فقال له: لم جعلت في عنق بغلك هذه الجلاجل؟ فقال الطحان: جعلتها في عنقه لأعلم إن قد قام فلم تدر الرحا، فقال له: أرأيت إن هو قام وحرك رأسه كيف تعلم أنه لا يدير الرحا؟ فقال له الطحان: إن بغلي هذا - أصلح الله الأمير - ليس له عقل مثل عقل الأمير! وأما عبد الرحمن فإنه مات صغيرًا.
ومنهن نائلة بنت عمارة الكلبية، تزوجه؛ فحدثني أحمد، عن علي قال: لما تزوج معاوية نائلة قال لميسون: انطلقي فانظري إلى ابنة عمك، فنظرت إليها، فقال: كيف رأيتها؟ فقالت: جميلة كاملة، ولكن رأيت تحت سرتها خالًا ليوضعن رأس زوجها في حجرها، فطلقها معاوية، فتزوجها حبيب بن مسلمة الفهري، ثم خلف عليها بعد حبيب النعمان بن بشير الأنصاري، فقتل، ووضع رأسه في حجرها.
ومنهن كتوة بنت قرظة أخت فاختة، فغزا قبرس وهي معه، فماتت هنالك.
ذكر بعض ما حضرنا من ذكر أخباره وسيره

حدثني أحمد بن زهير، عن علي، قال: لما بويع لمعاوية بالخلافة صير على شرطته قيس بن حمزة الهمداني، ثم عزله، واستعمل زميل بن عمرو العذري - ويقال السكسكي. وكان كاتبه وصاحب أمره سرجون بن منصور الرومي، وعلى حرسه رجلٌ من الموالي يقال له المختار؛ وقيل: رجل يقال له مالك، ويكنى أبا المخارق، مولىً لحمير. وكان أول من اتخذ الحرس، وكان على حجابه سعد مولاه، وعلى القضاء فضالة بن عبيد الأنصاري، فمات فاستقضى أبا إدريس عائذ الله بن عبد الله الخولاني. إلى ها هنا حديث أحمد، عن علي.
وقال غير علي: وكان على ديوان الخاتم عبد الله بن محصن الحميري، وكان أول من اتخذ ديوان الخاتم. قال: وكان سبب ذلك أن معاوية أمر لعمرو بن الزبير في معونته وقضاء دينه بمائة ألف درهم، وكتب بذلك إلى زياد بن سمية وهو على العراق، ففض عمرو الكتاب وصير المائة مائتين، فلما رفع زياد حسابه أنكرها معاوية، فأخذ عمرًا بردها وحبسه، فأداها عنه أخوه عبد الله بن الزبير، فأحدث معاوية عند ذلك ديوان الخاتم وخزم الكتب، ولم تكن تخزم.
حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله بن المبارك، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، قال: قال عمر بن الخطاب: تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية! حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: قرأت على عبد الله، عن فليح، قال: أخبرت أن عمرو ابن العاص وفد إلى معاوية ومعه أهل مصر، فقال لهم عمرو: انظروا: إذا دخلتم على ابن هند فلا تسلموا عليه بالخلافة، فإنه أعظم لكم في عينه، وصغروه ما استطعتم. فلما قدموا عليه قال معاوية لحجابه: إني كأني أعرف ابن النابغة وقد صغر أمري عند القوم، فانظروا إذا دخل الوفد فتعتعوهم أشد تعتعة تقدرون عليها، فلا يبلغني رجل منهم إلا وقد همته نفسه بالتلف. فكان أول من دخل عليه رجل من أهل مصر يقال له ابن الخياط، فدخل وقد تعتع، فقال: السلام عليك يا رسول الله، فتتابع القوم على ذلك، فلما خرجوا قال لهم عمرو: لعنكم الله! نهيتكم أن تسلموا عليه بالإمارة، فسلمتم عليه بالنبوة! قال: ولبس معاوية يومًا عمامته الحرقانية واكتحل، وكان من أجمل الناس إذا فعل ذلك. شك عبد الله فيه سمعه أو لم يسمعه.
حدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، قال: حدثنا أبو محمد الأموي، قال: خرج عمر بن الخطاب إلى الشأم، فرأى معاوية في موكب يتلقاه، وراح إليه في موكب، فقال له عمر: يا معاوية، تروح في موكب وتغدو في مثله؛ وبلغني أنك تصبح في منزلك وذوو الحاجات ببابك! قال: يا أمير المؤمنين، إن العدو بها قريب منا، ولهم عيون وجواسيس، فأردت يا أمير المؤمنين أن يروا للإسلام عزًا؛ فقال له عمر: إن هذا لكيد رجل لبيب، أو خدعة رجل أريب؛ فقال معاوية: يا أمير المؤمنين، مرني بما شئت أصر إليه؛ قال: ويحك! ما ناظرتك في أمر أعيب عليك فيه إلا تركتني ما أدري آمرك أم أنهاك! حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن معمر، عن جعفر بن برقان، أن المغيرة كتب إلى معاوية: أما بعد، فإني قد كبرت سني، ودق عظمي، وشنفت لي قريش، فإن رأيت أن تعزلني فاعزلني.
فكتب إليه معاوية: جاءني كتابك تذكر فيه أنه كبرت سنك، فلعمري ما أكل عمرك غيرك، وتذكر أن قريشًا شنفت لك، ولعمري ما أصبت خيرًا إلا منهم. وتسألني أن أعزلك، فقد فعلت؛ فإن تك صادقًا فقد شفعتك، وإن تك مخادعًا فقد خدعتك.
حدثني أحمد، عن علي بن محمد، عن علي بن مجاهد، قال: قال معاوية: إذا لم يكن الأموي مصلحًا لما له، حليمًان لم يشبه من هو منه، وإذا لم يكن الهاشمي سخيًا جوادًا لم يشبه من هو منه، ولا يقدمك من الهاشمي اللسان والسخاء والشجاعة.
حدثني أحمد، عن علي، عن عوانة وخلاد بن عيدة، قال: تغدى معاوية يومًا وعنده عبيد الله بن أبي بكرة، ومعه ابنه بشير - ويقال: غير بشير - فأكثر من الأكل، فلحظه معاوية، وفطن عبيد الله بن أبي بكرة، فأراد أن يغمز ابنه، فلم يمكنه، ولم يرفع رأسه حتى فرغ، فلما خرج لامه على ما صنع، ثم عاد إليه وليس معه ابنه، فقال معاوية: ما فعل ابنك التلقامة؟ قال: اشتكى؛ فقال: قد علمت أن أكله سيورثه داءً.
حدثني أحمد، عن علي، عن جويرية بن أسماء، قال: قدم أبو موسى على معاوية، فدخل عليه في برنسٍ أسود، فقال: السلام عليك يا أمين الله، قال: وعليك السلام؛ فلما خرج قال معاوية: قدم الشيخ لأوليه، ولا والله لا أوليه.
حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبو صالح سليمان بن صالح قال: حدثني عبد الله بن المبارك، عن سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال، عن أبي بردة، قال: دخلت على معاوية حيث أصابته قرحته، فقال: هلم يابن أخي، نحوي فانظر، فنظرت فإذا هي قد سبرت، فقلت: ليس عليك بأس يا أمير المؤمنين، فدخل يزيد فقال معاوية: إن وليت من أمر الناس شيئًا فاستوص بهذا، فإن أباه كان لي خليلًا أو نحو ذلك من القول غير أني رأيت في القتال ما لم يره.
حدثني أحمد، عن علي، عن شهاب بن عبيد الله، عن يزيد بن سويد، قال: أذن معاوية للأحنف وكان يبدأ بإذنه، ثم دخل محمد بن الأشعث فجلس بين معاوية والأحنف، فقال معاوية: إنا لم نأذن له قبلك فتكون دونه، وقد فعلت فعال من أحسن من نفسه ذلًا، إنا كما نملك أموركم نملك إذنكم، فأريدوا منا ما نريد منكم، فإنه أبقى لكم.
حدثني أحمد، عن علي، عن سحيم بن حفص، قال: خطب ربيعة بن عسل اليربوعي إلى معاوية، فقال معاوية: اسقوه سويقًا؛ وقال له معاوية: يا ربيعة، كيف الناس عندكم؟ قال: مختلفون على كذا وكذا فرقةً؛ قال: فمن أيهم أنت؟ قال: ما أنا على شيء من أمرهم؛ فقال معاوية: أراهم أكثر مما قلت؛ قال: يا أمير المؤمنين، أعني في بناء داري باثني عشر ألف جذع؛ قال معاوية: أين دارك؟ قال بالبصرة، وهي أكثر من فرسخين في فرسخين؛ قال: فدارك في البصرة، أو البصرة في دارك! فدخل رجلٌ من ولده على ابن هبيرة فقال: أصلح الله الأمير! أنا ابن سيد قومه، خطب أبي إلى معاوية، فقال ابن هبيرة لسلم بن قتيبة: ما يقول هذا؟ هذا ابن أحمق قومه؛ قال ابن هبيرة: هل زوج أباك معاوية؟ قال: لا، قال: فلا أرى أباك صنع شيئًا.
حدثني أحمد، عن علي، عن أبي محمد بن ذكوان القرشي، قال: تنازع عتبة وعنبسة ابنا أبي سفيان - وأم عتبة هند وأم عنبسة ابنة أبي أزيهر الدوسي - فأغلظ معاوية لعنبسة، وقال عنبسة: وأنت أيضًا يا أمير المؤمنين؟! فقال: يا عنبسة، إن عتبة ابن هند، فقال عنبسة:
كنا بخير صالحًا ذات بيننا ** قديمًا فأمست فرقت بيننا هند
فإن تك هندٌ لم تلدني فإنني ** لبيضاء ينميها غطارفةٌ نجد
أبوها أبو الأضياف في كل شتوة ** ومأوى ضعافٍ لا تنوء من الجهد
جفيناته ما إن تزال مقيمة ** لمن خاف من غوري تهامة أو نجد
فقال معاوية: لا أعيدها عليك أبدًا.
حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن حرملة بن عمران، قال: أتى معاوية في ليلة أن قيصر قصد له في الناس، وأن ناتل بن قيس الجذامي غلب فلسطين وأخذ بيت مالها، وأن المصريين الذين كان سجنهم هربوا، وأن علي بن أبي طالب قصد له في الناس، فقال لمؤذنه: أذن هذه الساعة - وذلك نصف الليل - فجاءه عمرو بن العاص، فقال: لم أرسلت إلي؟ قال: أنا ما أرسلت إليك؛ قال: ما أذن المؤذن هذه الساعة إلا من أجلي؛ قال: رميت بالقسي الأربع؛ قال عمرو: أما هؤلاء الذين خرجوا من سجنك، فإنهم إن خرجوا من سجنك فهم في سجن الله عز وجل، وهم قوم شراةٌ لا رحلة بهم، فاجعل لمن أتاك برجل منهم أو برأسه ديته، فإنك ستؤتى بهم، وانظر قيصر فوادعه، وأعطه مالًا وحللًا من حلل مصر، فإنه سيرضى منك بذاك، وانظر ناتل ابن قيس، فلعمري ما أغضبه الدين، ولا أراد إلا ما أصاب، فاكتب إليه، وهب له ذلك، وهنئه إياه، فإن كانت لك قدرةٌ عليه، وإن لم تكن لك فلا تأس عليه، واجعل حدك وحديدك لهذا الذي عنده دم ابن عمك. قال: وكان القوم كلهم خرجوا من سجنه غير أبرهة بن الصباح، قال معاوية: ما منعك من أن تخرج مع أصحابك؟ قال: ما منعني منه بغضٌ لعلي، ولا حبٌّ لك، ولكني لم أقدر عليه؛ فخلى سبيله.