ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين عليه السلام للمصير إلى ما قبلهم وأمر مسلم بن عقيل رضي الله عنه

حدثني زكرياء بن يحيى الضرير، قال: حدثنا أحمد بن جناب المصيصي - ويكنى أبا الوليد - قال: حدثنا خالد بن يزيد بن أسد بن عبد الله القسري، قال: حدثنا عمار الدهني، قال: قلت لأبي جعفر: حدثني بمقتل الحسين حتى كأني حضرته؛ قال: مات معاوية والوليد بن عتبة بن أبي سفيان على المدينة، فأرسل إلى الحسين بن علي ليأخذ بيعته، فقال له: أخرني وارفق، فأخره، فخرج إلى مكة، فأتاه أهل الكوفة ورسلهم: إنا قد حبسنا أنفسنا عليك، ولسنا نحضر الجمعة مع الوالي، فاقدم علينا - وكان النعمان بن بشير الأنصاري على الكوفة؛ قال: فبعث الحسين إلى مسلم بن عقيل بن أبي طالب ابن عمه فقال له: سر إلى الكوفة فانظر ما كتبوا به إلي، فإن كان حقًا خرجنا إليهم. فخرج مسلم حتى أتى المدينة، فأخذ منهما دليلين، فمرا به في البرية، فأصابهم عطشٌ، فمات أحد الدليلين، وكتب مسلم إلى الحسين يستعفيه، فكتب إليه الحسين: أن امض إلى الكوفة.
فخرج حتى قدمها، ونزل على رجل من أهلها يقال له ابن عوسجة؛ قال: فلما تحدث أهل الكوفة بمقدمه دبوا إليه فبايعوه، فبايعه منهم اثنا عشر ألفًا. قال: فقام رجل ممن يهوى يزيد بن معاوية إلى النعمان بن بشير، فقال له: إنك ضعيف أو متضعف؛ قد فسد البلاد! فقال له النعمان: أن أكون ضعيفًا وأنا في طاعة الله أحب إلي من أن أكون قويًا في معصية الله، وما كنت لأهتك سترًا ستره الله.
فكتب بقول النعمان إلى يزيد، فدعا مولىً له يقال له: سرجون؛ - وكان يستشيره - فأخبره الخبر، فقال له: أكنت قابلًا من معاوية لو كان حيًا؟ قال: نعم؛ قال: فاقبل مني؛ فإنه ليس للكوفة إلا عبيد الله ابن زياد، فولها إياه - وكان يزيد عليه ساخطًا، وكان هم بعزله عن البصرة - فكتب إليه برضائه، وأنه قد ولاه الكوفة مع البصرة، وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيل فيقتله إن وجده.
قال: فأقبل عبيد الله في وجوه أهل البصرة حتى قدم الكوفة متثلمًا، ولا يمر على مجلس من مجالسهم فيسلم إلا قالوا: عليك السلام يابن بنت رسول الله - وهم يظنون أنه الحسين بن علي رضي الله عنه - حتى نزل القصر، فدعا مولىً له فأعطاه ثلاثة آلاف، وقال له: اذهب حتى تسأل عن الرجل الذي يبايع له أهل الكوفة فأعلمه أنك رجل من أهل حمص جئت لهذا الأمر، وهذا مالٌ تدفعه إليه ليتقوى. فلم يزل يتلطف ويرفق به حتى دل على شيخ من أهل الكوفة يلي البيعة، فلقيه فأخبره، فقال له الشيخ: لقد سرني لقاؤك إياي، وقد ساءني؛ فأما ما سرني من ذلك فما هداك الله له، وأما ما ساءني فإن أمرنا لم يستحكم بعد. فأدخله إليه، فأخذ منه المال وبايعه، ورجع إلى عبيد الله فأخبره.
فتحول مسلم حين قدم عبيد الله بن زياد من الدار التي كان فيها إلى منزل هانىء بن عروة المرادي، وكتب مسلم بن عقيل إلى الحسين بن علي رضي الله عنه يخبره ببيعة اثني عشر ألفًا من أهل الكوفة، ويأمره بالقدوم. وقال عبيد الله لوجوه أهل الكوفة: ما لي أرى هانىء بن عروة لم يأتني فيمن أتاني! قال: فخرج إليه محمد بن الأشعث في ناس من قومه وهو على باب داره، فقالوا: إن الأمير قد ذكرك واستبطأك، فانطلق إليه، فلم يزالوا به حتى ركب معهم وسار حتى دخل على عبيد الله وعنده شريح القاضي، فلما نظر إليه قال لشريح: أتتك بحائنٍ رجلاه؛ فلما سلم عليه قال: يا هانىء، أين مسلم؟ قال: ما أدري؛ فأمر عبيد الله مولاه صاحب الدراهم فخرج إليه، فلما رآه قطع به، فقال: أصلح الله الأمير! والله ما دعوته إلى منزلي ولكنه جاء فطرح نفسه علي؛ قال: ائتني به؛ قال: والله لو كانت تحت قدمي ما رفعتهما عنه؛ قال: أدنوه إلي، فأدني فضربه على حاجبه فشجه، قال: وأهوى هانىءٌ إلى سيف شرطي ليسله، فدفع عن ذلك، وقال: قد أحل الله دمك، فأمر به فحبس في جانب القصر.
وقال غير أبي جعفر: الذي جاء بهانىء بن عروة إلى عبيد الله بن زياد عمرو بن الحجاج الزبيدي:
ذكر من قال ذلك
حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو قتيبة، قال: حدثنا يونس ابن أبي إسحاق، عن العيزار بن حريث، قال: حدثنا عمارة بن عقبة ابن أبي معيط، فجلس في مجلس ابن زياد فحدث، قال: طردت اليوم حمرًا فأصبت منها حمارًا فعقرته، فقال له عمرو بن الحجاج الزبيدي: إن حمارًا تعقره أنت لحمارٌ حائن؛ فقال: ألا أخبرك بأحين من هذا كله! رجل جيء بأبيه كافرًا إلى رسول الله ، فأمر به أن يضرب عنقه، فقال: يا محمد فمن للصبية؟ قال: النار، فأنت من الصبية، وأنت في النار؛ قال: فضحك ابن زياد.
رجع الحديث إلى حديث عمار الدهني؛ عن أبي جعفر. قال: فبينا هو كذلك إذ خرج الخبر إلى مذحج، فإذا على باب القصر جلبة سمعها عبيد الله، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مذحج، فقال لشريح: اخرج إليهم فأعلمهم أني إنما حبسته لأسائله، ورعث عينًا عليه من مواليه يسمع ما يقول، فمر بهانىء بن عروة، فقال له هانىء: اتق الله يا شريح، فإنه قاتلي، فخرج شريح حتى قام على باب القصر، فقال: لا بأس عليه، إنما حبسه الأمير ليسائله، فقالوا: صدق، ليس على صاحبكم بأس، فتفرقوا، فأتى مسلمًا الخبر، فنادى بشعاره، فاجتمع إليه أربعة آلاف من أهل الكوفة، فقدم مقدمته، وعبى ميمنته وميسرته، وسار في القلب إلى عبيد الله، وبعث عبيد الله إلى وجوه أهل الكوفة فجمعهم عنده في القصر، فلما سار إليه مسلم فانتهى إلى باب القصر أشرفوا على عشائرهم فجعلوا يكلمونهم ويردونهم، فجعل أصحاب مسلم يتسللون حتى أمسى في خمسمائة، فلما اختلط الظلام ذهب أولئك أيضًا.
فلما رأى مسلم أنه قد بقي وحده يتردد في الطرق أتى بابًا فنزل عليه، فخرجت إليه امرأة، فقال لها: اسقني، فسقته، ثم دخلت فمكثت ما شاء الله، ثم خرجت فإذا هو على الباب؛ قالت: يا عبد الله، إن مجلسك مجلس ريبة، فقم؛ قال: إني أنا مسلم بن عقيل، فهل عندك مأوى؟ قالت: نعم، ادخل، وكان ابنها مولىً لمحمد بن الأشعث، فلما علم به الغلام انطلق إلى محمد فأخبره، فانطلق محمد إلى عبيد الله فأخبره، فبعث عبيد الله عمرو بن حريث المخزومي - وكان صاحب شرطه - إليه، ومعه عبد الرحمن ابن محمد بن الأشعث، فلم يعلم مسلم حتى أحيط بالدار، فلما رأى ذلك مسلمٌ خرج إليهم بسيفه فقاتلهم، فأعطاه عبد الرحمن الأمان، فأمكن من يده، فجاء به إلى عبيد الله، فأمر به فأصعد إلى أعلى القصر فضربت عنقه، وألقى جثته إلى الناس، وأمر بهانىء فسحب إلى الكناسة، فصلب هنالك، وقال شاعرهم في ذلك:
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري ** إلى هانىء في السوق وابن عقيل
أصابهما أمر الإمام فأصبحا ** أحاديث من يسعى بكل سبيل
أيركب أسماء الهماليج آمنًا ** وقد طلبته مذحجٌ بذحول!
وأما أبو مخنف فإنه ذكر من قصة مسلم بن عقيل وشخوصه إلى الكوفة ومقتله قصةً هي أشبع وأتم من خبر عمار الدهني عن أبي جعفر الذي ذكرناه؛ ما حدثت عن هشام بن محمد، عنه، قال: حدثني عبد الرحمن بن جندب، قال: حدثني عقبة بن سمعان مولى الرباب ابنة امرىء القيس الكلبية امرأة حسين - وكانت مع سكينة ابنة حسين، وهو مولىً لأبيها، وهي إذ ذاك صغيرة - قال: خرجنا فلزمنا الطريق الأعظم، فقال للحسين أهل بيته: لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير لا يلحقك الطلب؛ قال: لا، والله لا افارقه حتى يقضي الله ما هو أحب إليه، قال: فاستقبلنا عبد الله بن مطيع فقال للحسين: جعلت فداك! أين تريد؟ قال: أما الآن فإني أريد مكة، وأما بعدها فإني أستخير الله، قال: خار الله لك، وجعلنا فداك؛ فإذا أنت أتيت مكة فإياك أن تقرب الكوفة، فإنها بلدةٌ مشئومة، بها قتل أبوك، وخذل أخوك، واغتيل بطعنة كادت تأتي على نفسه؛ الزم الحرم؛ فإنك سيد العرب، لا يعدل بك والله أهل الحجاز أحدًا، ويتداعى إليك الناس من كل جانب؛ لا تفارق الحرم فداك عمي وخالي، فوالله لئن هلكت لنسترقن بعدك.
فأقبل حتى نزل مكة، فأقبل أهلها يختلفون إليه وياتونه ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزبير بها قد لزم الكعبة، فهو قائم يصلي عندها عامة النهار ويطوف، ويأتي حسينًا فيمن يأتيه، فيأتيه اليومين المتواليين، ويأتيه بين كل يومين مرة، ولا يزال يشير عليه بالرأي وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير، قد عرف أن أهل الحجاز لا يبايعونه ولا يتابعونه أبدًا ما دام حسين بالبلد، وأن حسينًا أعظم في أعينهم وأنفسهم منه، وأطوع في الناس منه.
فلما بلغ أهل الكوفة هلاك معاوية ارجف أهل العراق بيزيد، وقالوا: قد امتنع حسين وابن الزبير، ولحقا بمكة، فكتب أهل الكوفة إلى حسين، وعليهم النعمان بن بشير.
قال أبو مخنف: فحدثني الحجاج بن علي، عن محمد بن بشر الهمداني، قال: اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد، فذكرنا هلاك معاوية، فحمدنا الله عليه، فقال لنا سليمان بن صرد: إن معاوية قد هلك، وإن حسينًا قد تقبض على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوه فاكتبوا إليه، وإن خفتم الوهل والفشل فلا تغروا الرجل من نفسه، قالوا: لا، بل نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه؛ قال: فاكتبوا إليه، فكتبوا إليه: بسم الله الرحمن الرحيم. لحسين بن علي من سليمان بن صرد والمسيب ابن نجبة ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة. سلامٌ عليك، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمر عليها بغير رضًا منها، ثم قتل خيارها، واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولةً بين جبابرتها وأغنيائها، فبعدًا له كما بعدت ثمود! إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق. والنعمان ابن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشأم إن شاء الله؛ والسلام ورحمة الله عليك.
قال: ثم سرحنا بالكتاب مع عبد الله بن سبع الهمداني وعبد الله بن وال، وأمرناهما بالنجاء؛ فخرج الرجلان مسرعين حتى قدما على حسين لعشر مضين من شهر رمضان بمكة، ثم لبثنا يومين، ثم سرحنا إليه قيس ابن مسهر الصيداوي وعبد الرحمن بن عبد الله بن الكدن الأرحبي وعمارة بن عبيد السلولي، فحملوا معهم نحوًا من ثلاثة وخمسين صحيفةً؛ الصحيفة من الرجل والاثنين والأربعة.
قال: ثم لبثنا يومين آخرين، ثم سرحنا إليه هانىء بن هانىء السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي، وكتبنا معهما: بسم الله الرحمن الرحيم. لحسين بن علي من شيعته من المؤمنين والمسلمين، أما بعد، فحيهلا، فإن الناس ينتظرونك، ولا أرى لهم في غيرك، فالعجل العجل؛ والسلام عليك.
وكتب شبث بن ربعي وحجار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم وعزرة بن قيس وعمرو بن الحجاج الزبيدي ومحمد بن عمير التميمي: أما بعد، فقد اخضر الجناب، وأينعت الثمار، وطمت الجمام، فإذا شئت فاقدم على جندٍ لك مجند؛ والسلام عليك.