أما بعد، فوالله ما تقرن بي الصعبة، ولا يقعقع لي بالشنان، وإني لنكلٌ لمن عاداني، وسمٌّ لمن حاربني، أنصف القارة من راماها. يا أهل البصرة، إن أمير المؤمنين ولاني الكوفة وأنا غادٍ إليها الغداة، وقد استخلفت عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان، وإياكم والخلاف والإرجاف، فوالذي لا إله غيره لئن بلغني عن رجل منكم خلافٌ لأقتلنه وعريفه ووليه، ولآخذن الأدنى بالأقصى حتى تستمعوا لي، ولا يكون فيكم مخالف ولا مشاق، أنا ابن زياد، أشبهته من بين من وطىء الحصى ولم ينتزعني شبه خال ولا ابن عم.
ثم خرج من البصرة واستخلف أخاه عثمان بن زياد، وأقبل إلى الكوفة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي، وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته، حتى دخل الكوفة وعليه عمامة سوداء، وهو متلثم والناس قد بلغهم إقبال حسين إليهم، فهم ينتظرون قدومه، فظنوا حين قدم عبيد الله أنه الحسين، فأخذ لا يمر على جماعة من الناس إلا سلموا عليه، وقالوا: مرحبًا بك يابن رسول الله! قدمت خير مقدم، فرأى من تباشيرهم بالحسين رضي الله عنه ما ساءه، فقال مسلم بن عمرو لما أكثروا: تأخروا، هذا الأمير عبيد الله بن زياد، فأخذ حين أقبل على الظهر؛ وإنما معه بضعة عشر رجلًا، فلما دخل القصر وعلم الناس أنه عبيد الله بن زياد دخلهم من ذلك كآبة وحزن شديد، وغاظ عبيد لله ما سمع منهم، وقال: ألا أرى هؤلاء كما أرى.
قال هشام: قال أبو مخنف: فحدثني المعلى بن كليب، عن أبي وداك، قال: لما نزل القصر نودي: الصلاة جامعة؛ قال: فاجتمع الناس، فخرج إلينا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن أمير المؤمنين أصلحه الله ولاني مصركم وثغركم، وأمرني بإنصاف مظلومكم، وإعطاء محرومكم، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، وبالشدة على مريبكم وعاصيكم، وأنا متبع فيكم أمره، ومنفذ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم ومطيعكم كالوالد البر، وسوطي وسيفي على من ترك أمري، وخالف عهدي، فليبق امرؤٌ على نفسه. الصدق ينبىء عنك لا الوعيد؛ ثم نزل.
فأخذ العرفاء والناس أخذًا شديدًا، فقال: اكتبوا إلى الغرباء، ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين، ومن فيكم من الحرورية وأهل الريب الذين رأيهم الخلاف والشقاق، فمن كتبهم لنا فبرىء، ومن لم يكتب لنا أحدًا، فيضمن لنا ما في عرافته ألا يخالفنا منهم مخالف، ولا يبغي علينا منهم باغٍ، فمن لم يفعل برئت منه الذمة، وحلال لنا ماله وسفك دمه، وايما عريفٍ وجد في عرافته من بيغة أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا صلب على باب داره، وألقيت تلك العرافة من العطاء، وسير إلى موضع بعمان الزارة.
وأما عيسى بن يزيد الكناني فإنه قال - فيما ذكر عمر بن شبة، عن هارون بن مسلم، عن علي بن صالح، عنه - قال: لما جاء كتاب يزيد إلى عبيد الله بن زياد، انتخب من أهل البصرة خمسمائة، فيهم عبد الله بن الحارث بن نوفل، وشريك بن الأعور - وكان شيعةً لعلي، فكان أول من سقط بالناس شريك، فيقال: إنه تساقط غمرةً ومعه ناس - ثم سقط عبد الله ابن الحارث وسقط معه ناس، ورجوا أن يلوي عليهم عبيد الله ويسبقه الحسين إلى الكوفة، فجعل لا يلتفت إلى من سقط، ويمضي حتى ورد القادسية، وسقط مهران مولاه، فقال: أيا مهران، على هذه الحال، إن أمسكت عنك حتى تنظر إلى القصر فلك مائة ألف، قال: لا، والله ما أستطيع. فنزل عبيد الله فأخرج ثيابًا مقطعة من مقطعات اليمن، ثم اعتجر بمعجرة يمانية، فركب بغلته، ثم انحدر راجلًا وحده، فجعل يمر بالمحارس فكلما نظروا إليه لم يشكوا أنه الحسين، فيقولون: مرحبًا بك يابن رسول الله! وجعل لا يكلمهم، وخرج إليه الناس من دورهم وبيوتهم، وسمع بهم النعمان بن بشير فغلق عليه وعلى خاصته، وانتهى إليه عبيد الله وهو لا يشك أنه الحسين، ومعه الخلق يضجون، فكلمه النعمان، فقال: أنشدك الله إلا تنحيت عني! ما أنا بمسلم إليك أمانتي، وما لي في قتلك من أرب؛ فجعل لا يكلمه. ثم إنه دنا وتدلى الآخر بين شرفتين، فجعل يكلمه فقال: افتح لا فتحت، فقد طال ليلك، فسمعها إنسانٌ خلفه، فتكفى إلى القوم، فقال: أي قوم، ابن مرجانة، والذي لا إله غيره! فقالوا: ويحك! إنما هو الحسين، ففتح له النعمان، فدخل، وضربوا الباب في وجوه الناس، فانفضوا، وأصبح فجلس على المنبر فقال: أيها الناس، إني لأعلم أنه قد سار معي، وأظهر الطاعة لي من هو عدو للحسين حين ظن أن الحسين قد دخل البلد وغلب عليه، والله ما عرفت منكم أحدًا؛ ثم نزل.
وأخبر أن مسلم بن عقيل قدم قبله بليلة، وأنه بناحية الكوفة، فدعا مولىً لبني تميم فأعطاه مالًا، وقال: انتحل هذا الأمر، وأعنهم بالمال، واقصد لهانىء ومسلم وانزل عليه؛ فجاء هانئًا فأخبره أنه شيعة، وأن معه مالًا. وقدم شريك بن الأعور شاكيًا، فقال لهانىء: مر مسلمًا يكن عندي، فإن عبيد الله يعودني؛ وقال شريك لمسلم: أرأيتك إن أمكنتك من عبيد الله أضاربه أنت بالسيف؟ قال: نعم والله. وجاء عبيد الله شريكًا يعوده في منزل هانىء - وقد قال شريك لمسلم: إذا سمعتني أقول: اسقوني ماءً فاخرج عليه فاضربه - وجلس عبيد الله على فراش شريك، واقم على رأسه مهران، فقال: اسقوني ماء، فخرجت جاريةٌ بقدح، فرأت مسلمًا، فزالت، فقال شريك: اسقوني ماءً؛ ثم قال الثالثة: ويلكم تحموني الماء! اسقونيه ولو كانت فيه نفسي؛ ففطن مهران فغمز عبيد الله، فوثب، فقال شريك: أيها الأمير، إني أريد أن أوصي إليك؛ قال: أعود إليك، فجعل مهران يطرد به؛ وقال: أراد والله قتلك؛ قال: وكيف مع إكرامي شريكًا وفي بيت هانىء ويد أبي عنده يد! فرجع فأرسل إلى أسماء بن خارجة ومحمد بن الأشعث فقال: ائتياني بهانىء، فقالا له: إنه لا يأتي إلا بالأمان؛ قال: وما له وللأمان! وهل أحدث حدثًا! انطلقا فإن لم يأت إلا بأمان فآمناه، فأتياه فدعواه، فقال: إنه إن أخذني قتلني، فلم يزالا به حتى جاءا به وعبيد الله يخطب يوم الجمعة، فجلس في المسجد، وقد رجل هانىء غديرتيه، فلما صلى عبيد الله، قال: يا هانىء، فتبعه، ودخل فسلم، فقال عبيد الله: يا هانىء، أما تعلم أن أبي قدم هذا البلد فلم يترك أحدًا من هذه الشيعة إلا قتله غير أبيك وغير حجر، وكان من حجر ما قد علمت، ثم لم يزل يحسن صحبتك، ثم كتب إلى أمير الكوفة: إن حاجتي قبلك هانىء؟ قال: نعم، قال: فكان جزائي أن خبأت في بيتك رجلًا يقتلني! قال: ما فعلت، فأخرج التميمي الذي كان عينًا عليهم، فلما رآه هانىء علم أن قد أخبره الخبر، فقال: أيها الأمير، قد كان الذي بلغك، ولن أضيع يدك عني، فأنت آمنٌ وأهلك، فسر حيث شئت.
فكبا عبيد الله عندها، ومهران قائم على رأسه في يده معكزة، فقال: واذلاه! هذا العبد الحائك يؤمنك في سلطانك! فقال: خذه؛ فطرح المعكزة، وأخذ بضفيرتي هانىء، ثم أقنع بوجهه، ثم أخذ عبيد الله المعكزة فضرب بها وجه هانىء، وندر الزج، فارتز في الجدار، ثم ضرب وجهه حتى كسر أنفه وجبينه، وسمع الناس الهيعة، وبلغ الخبر مذحج، فأقبلوا، فأطافوا بالدار، وأمر عبيد الله بهانىء فألقي في بيت، وصيح المذحجيون، وأمر عبيد الله مهران أن يدخل عليه شريحًا، فخرج، فأدخله عليه، ودخلت الشرط معه، فقال: يا شريح، قد ترى ما يصنع بي! قال: أراك حيًا؛ قال: وحيٌّ أنا مع ما ترى! أخبر قومي أنهم إن انصرفوا قتلني؛ فخرج إلى عبيد الله فقال: قد رأيته حيًا، ورأيت أثرًا سيئًا؛ قال: وتنكر أن يعاقب الوالي رعيته! اخرج إلى هؤلاء فأخبرهم، فخرج، وأمر عبيد الله الرجل فخرج معه، فقال لهم شريح: ما هذه الرعة السيئة! الرجل حيٌّ، وقد عاتبه سلطانه بضرب لم يبلغ نفسه، فانصرفوا ولا تحلوا بأنفسكم ولا بصاحبكم. فانصرفوا.
وذكر هشام، عن أبي مخنف، عن المعلى بن كليب، عن أبي الوداك، قال: نزل شريك بن الأعور على هانىء بن عروة المرادي، وكان شريك شيعيًا، وقد شهد صفين مع عمار.
وسمع مسلم بن عقيل بمجيء عبيد الله ومقالته التي قالها، وما أخذ به العرفاء والناس، فخرج من دار المختار - وقد علم به - حتى انتهى إلى دار هانىء بن عروة المرادي، فدخل بابه، وأرسل إليه أن اخرج، فخرج إليها هانىء، فكره هانىء مكانه حين رآه، فقال له مسلم: أتيتك لتجيرني وتضيفني؛ فقال: رحمك الله! لقد كلفتني شططا، ولولا دخولك داري وثقتك لأحببت ولسألتك أن تخرج عني، غير أنه يأخذني من ذلك ذمامٌ، وليس مردود مثلي على مثلك عن جهل؛ ادخل.
فآواه، وأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هانىء بن عروة، ودعا ابن زياد مولىً له يقال له معقل، فقال له: خذ ثلاثة آلاف درهم، ثم اطلب مسلم ابن عقيل، واطلب لنا أصحابه، ثم أعطهم هذه الثلاثة آلاف؛ فقل لهم: استعينوا بها على حرب عدوكم، وأعلمهم أنك منهم، فإنك لو قد أعطيتها إياهم اطمأنوا إليك، ووثقوا بك، ولم يكتموك شيئًا من أخبارهم؛ ثم اغد عليهم ورح. ففعل ذلك، فجاء حتى أتى إلى مسلم بن عوسجة الأسدي من بني سعد بن ثعلبة في المسجد الأعظم وهو يصلي، وسمع الناس يقولون: إن هذا يبايع للحسين، فجاء فجلس حتى فرغ من صلاته ثم قال: يا عبد الله، إني امرؤ من أهل الشأم، مولىً لذي الكلاع، أنعم الله علي بحب أهل هذا البيت وحب من أحبهم، فهذه ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجلٍ منهم بلغني أنه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله ، وكنت أريد لقاءه فلم أجد أحدًا يدلني عليه ولا يعرف مكانه، فإني لجالسٌ آنفًا في المسجد إذ سمعت نفرًا من المسلمين يقولون: هذا رجلٌ له علم بأهل هذا البيت؛ وإني أتيتك لتقبض هذا المال وتدخلني على صاحبك فأبايعه، وإن شئت أخذت بيعتي له قبل لقائه، فقال: احمد الله على لقائك إياي، فقد سرني ذلك لتنال ما تحب، ولينصر الله بك أهل بيت نبيه، ولقد ساءني معرفتك إياي بهذا الأمر من قبل أن ينمى مخافة هذا الطاغية وسطوته.
فأخذ بيعته قبل أن يبرح، وأخذ عليه المواثيق المغلظة ليناصحن وليكتمن، فأعاه من ذلك ما رضي به، ثم قال له: اختلف إلي أيامًا في منزلي، فأنا طالبٌ لك الإذن على صاحبك. فأخذ يختلف مع الناس، فطلب له الإذن. فمرض هانىء بن عروة، فجاء عبيد الله عائدًا له، فقال له عمارة بن عبيد السلولي: إنما جماعتنا وكيدنا قتل هذا الطاغية، فقد أمكنك الله منه فاقتله؛ قال هانىء: ما أحب أن يقتل في داري، فخرج فما مكث إلا جمعةً حتى مرض شريك بن الأعور - وكان كريمًا على ابن زياد وعلى غيره من الأمراء، وكان شديد التشيع - فأرسل إليه عبيد الله: إني رائحٌ إليك العشية؛ فقال لمسلم: إن هذا الفاجر عائدي العشية، فإذا جلس فاخرج إليه فاقتله، ثم اقعد في القصر، ليس أحدٌ يحول بينك وبينه، فإن برئت من وجعي هذا أيامي هذه سرت إلى البصرة وكفيتك أمرها.
فلما كان من العشي أقبل عبيد الله لعيادة شريك، فقام مسلم بن عقيل ليدخل، وقال له شريك: لا يفوتنك إذا جلس؛ فقام هانىء بن عروة إليه فقال: إني لا أحب أن يقتل في داري - كأنه استقبح ذلك - فجاء عبيد الله ابن زياد فدخل فجلس، فسأل شريكًا عن وجعه، ما الذي تجد؟ ومتى اشتكيت؟ فلما طال سؤاله إياه، ورأى أن الآخر لا يخرج، خشي أن يفوته، فأخذ يقول:
ما تنتظرون بسلمى أن تحيوها