فقال له أبو برزة: ارفع قضيبك، فوالله لربما رأيت فا رسول الله على فيه يلثمه! وسرح عمر بن سعد بحرمه وعياله إلى عبيد الله، ولم يكن بقي من أهل بيت الحسين بن علي رضي الله عنه إلا غلام كان مريضًا مع النساء، فأمر به عبيد الله ليقتل، فطرحت زينب نفسها عليه وقالت: والله لا يقتل حتى تقتلوني! فرق لها، فتركه وكف عنه.
قال: فجهزهم وحملهم إلى يزيد، فلما قدموا عليه جمع من كان بحضرته من أهل الشأم، ثم أدخلوهم، فهنئوه بالفتح، قال رجل منهم أزرق أحمر ونظر إلى وصيفةٍ من بناتهم فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه، فقالت زينب: لا والله ولا كرامة لك ولا له إلا أن يخرج من دين الله، قال: فأعادها الأزرق، فقال له يزيد: كف عن هذا؛ ثم أدخلهم على عياله، فجهزهم وحملهم إلى المدينة، فلما دخلوها خرجت امرأةٌ من بني عبد المطلب ناشرةً شعرها، واضعةً كمها على رأسها تلقاهم وهي تبكي وتقول:
ماذا تقولون إن قال النبي لكم ** ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم!
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي ** منهم أسارى وقتلى ضرجوا بدم
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم ** أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمي!
حدثني الحسين بن نصر قال: حدثنا أبو ربيعة، قال: حدثنا أبو عوانة، عن حصين بن عبد الرحمن قال: بلغنا أن الحسين رضي الله عنه.. وحدثنا محمد بن عمار الرازي. قال: حدثنا سعيد بن سليمان، قال: حدثنا عباد بن العوام قال: حدثنا حصين، أن الحسين بن علي رضي الله عنه كتب إليه أهل الكوفة: إنه معك مائة ألف، فبعث إليهم مسلم بن عقيل، فقدم الكوفة، فنزل دار هانىء بن عروة، فاجتمع إليه الناس، فأخبر ابن زياد بذلك. زاد الحسين بن نصر في حديثه: فأرسل إلى هانىء فأتاه، فقال: ألم أوقرك! ألم أكرمك! ألم أفعل بك! قال: بلى، قال: فما جزاء ذلك؟ قال: جزاؤه أن أمنعك؛ قال: تمنعني! قال: فأخذ قضيبًا مكانه فضربه به، وأمر فكتف ثم ضرب عنقه، فبلغ ذلك مسلم بن عقيل، فخرج ومعه ناس كثير، فبلغ ابن زياد ذلك، فأمر بباب القصر فأغلق، وأمر مناديًا فنادى: يا خيل الله اركبي، فلا أحد يجيبه، فظن أنه في ملإ من الناس.
قال حصين: فحدثني هلال بن يساف قال: لقيتهم تلك الليلة في الطريق عند مسجد الأنصار، فلم يكونوا يمرون في طريق يمينًا ولا شمالًا إلا وذهبت منهم طائفة، الثلاثون والأربعون، ونحو ذلك. قال: فلما بلغ السوق، وهي ليلة مظلمة، ودخلوا المسجد، قيل لابن زياد: والله ما نرى كثير أحد، ولا نسمع أصوات كثير أحد، فأمر بسقف المسجد فقلع، ثم أمر بحرادى فيها النيران، فجعلوا ينظرون، فإذا قريب خمسين رجلًا. قال: فنزل فصعد المنبر وقال للناس: تميزوا أرباعًا أرباعًا؛ فانطلق كل قوم إلى رأس ربعهم، فنهض إليهم قومٌ يقاتلونهم، فجرح مسلم جراحةً ثقيلة، وقتل ناس من أصحابه، وانهزموا؛ فخرج مسلم فدخل دارًا من دور كندة، فجاء رجل إلى محمد بن الأشعث وهو جالس إلى ابن زياد، فساره، فقال له: إن مسلمًا في دار فلان، فقال ابن زياد: ما قال لك؟ قال: إن مسلمًا في دار فلان، قال ابن زياد لرجلين: انطلقا فأتياني به، فدخلا عليه وهو عند امرأة قد أوقدت له النار، فهو يغسل عنه الدماء، فقالا له: انطلق، الأمير يدعوك، فقال: اعقدا لي عقدًا؛ فقالا: ما نملك ذاك؛ فانطلق معهما حتى أتاه فأمر به فكتف ثم قال: هيه هيه يابن خلية - قال الحسين في حديثه: يابن كذا - جئت لتنزع سلطاني! ثم أمر به فضربت عنقه. قال حصين: فحدثني هلال بن يساف أن ابن زياد أمر بأخذ ما بين واقصة إلى طريق الشأم إلى طريق البصرة، فلا يدعون أحدًا يلج ولا أحدًا يخرج، فأقبل الحسين ولا يشعر بشيء حتى لقي الأعراب، فسألهم، فقالوا: لا والله ما ندري، غير أنا لا نستطيع أن نلج ولا نخرج؛ قال: فانطلق يسير نحو طريق الشأم نحو يزيد، فلقيته الخيول بكربلاء، فنزل يناشدهم الله والإسلام، قال: وكان بعث إليه عمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن وحصين ابن نميم، فناشدهم الحسين الله والإسلام أن يسيروه إلى أمير المؤمنين، فيضع يده في يده، فقالوا: لا، إلا على حكم ابن زياد؛ وكان فيمن بعث إليه الحر بن يزيد الحنظلي ثم النهشلي على خيل، فلما سمع ما يقول الحسين قال لهم: ألا تقبلون من هؤلاء ما يعرضون عليكم! والله لو سألكم هذا الترك والديلم ما حل لكم أن تردوه! فأبوا إلا على حكم ابن زياد، فصرف الحر وجه فرسه، وانطلق إلى الحسين وأصحابه، فظنوا أنه إنما جاء ليقاتلهم، فلما دنا منهم قلب ترسه وسلم عليهم، ثم كر على أصحاب ابن زياد فقاتلهم، فقتل منهم رجلين، ثم قتل رحمة الله عليه.
وذكر أن زهير بن القين البجلي لقي الحسين وكان حاجًا، فأقبل معه، وخرج إليه ابن أبي بحرية المرادي ورجلان آخران وعمرو بن الحجاج ومعن السلمي؛ قال الحصين: وقد رأيتهما.
قال الحصين: وحدثني سعد بن عبيدة، قال: إن أشياخًا من أهل الكوفة لوقوف على التل يبكون ويقولون: اللهم أنزل نصرك، قال: قلت: يا أعداء الله، ألا تنزلون فتنصرونه! قال: فأقبل الحسين يكلم من بعث إليه ابن زياد، قال: وإني لأنظر إليه وعليه جبة من برود، فلما كلمهم انصرف، فرمان رجلٌ من بني تميم يقال له: عمر الطهوي بسهم، فإني لأنظر إلى السهم بين كتفيه متعلقًا في جبته، فلما أبوا عليه رجع إلى مصافه، وإني لأنظر إليهم، وإنهم لقريب من مائة رجل، فيهم لصلب علي بن أبي طالب رضي الله عنه خمسة، ومن بني هاشم ستة عشر، ورجل من بني سليم حليفٌ لهم، ورجلٌ من بني كنانة حليفٌ لهم، وابن عمر بن زياد.
قال: وحدثني سعد بن عبيدة، قال: إنا لمستنقعون في الماء مع عمر بن سعد، إذ أتاه رجل فساره وقال له: قد بعث إليك ابن زياد جويرية بن بدر التميمي، وأمره إن لم تقاتل القوم أن يضرب عنقك؛ قال: فوثب إلى فرسه فركبه، ثم دعا سلاحه فلبسه، وإنه على فرسه، فنهض بالناس إليهم فقاتلوهم، فجيء برأس الحسين إلى ابن زياد، فوضع بين يديه، فجعل ينكت بقضيبه، ويقول: إن أبا عبد الله قد كان شمط؛ قال: وجيء بنسائه وبناته وأهله، وكان أحسن شيء صنعه أن أمر لهن بمنزل في مكان معتزل، وأجرى عليهن رزقًا، وأمر لهن بنفقة وكسوة. قال: فانطلق غلامان منهم لعبد الله بن جعفر - أو ابن جعفر - فأتيا رجلًا من طيىء فلجآ إليه، فضرب أعناقهما، وجاء برءوسهما حتى وضعهما بين يدي ابن زياد؛ قال: فهم بضرب عنقه، وأمر بداره فهدمت.
قال: وحدثني مولىً لمعاوية بن أبي سفيان قال: لما أتي يزيد برأس الحسين فوضع بين يديه، قال: رأيته يبكي، وقال: لو كان بينه وبينه رحم ما فعل هذا.
قال حصين: فلما قتل الحسين لبثوا شهرين أو ثلاثةً، كأنما تلطخ الحوائط بالدماء ساعة تطلع الشمس حتى ترتفع.
قال: وحدثني العلاء بن أبي عاثة قال: حدثني رأس الجالوت، عن أبيه قال: ما مررت بكربلاء إلا وأنا أركض دابتي حتى أخلف المكان، قال: قلت: لم؟ قال: كنا نتحدث أن ولد نبي مقتول في ذلك المكان؛ قال: وكنت أخاف أن أكون أنا، فلما قتل الحسين قلنا: هذا الذي كنا نتحدث. قال: وكنت بعد ذلك إذا مررت بذلك المكان أسير ولا أركض.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا علي بن محمد، عن جعفر بن سليمان الضبعي قال: قال الحسين: والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فرم الأمة؛ فقدم للعراق فقتل بنينوى يوم عاشوراء سنة إحدى وستين.
قال الحارث: قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، قال: قتل الحسين بن علي رضي الله عنه في صفر سنة إحدى وستين وهو يومئذ ابن خمس وخمسين.
حدثني بذلك أفلح بن سعيد، عن ابن كعب القرظي، قال الحارث: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، عن أبي معشر، قال: قتل الحسين لعشر خلون من المحرم. قال الواقدي: هذا أثبت.
قال الحارث: قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرنا عطاء ابن مسلم، عمن أخبره، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، قال: أول رأس رفع على خشبة. رأس الحسين رضي الله عنه.
قال أبو مخنف: عن هشام بن الوليد، عمن شهد ذلك، قال: أقبل الحسين ابن علي بأهله من مكة ومحمد بن الحنفية بالمدينة؛ قال: فبلغه خبره وهو يتوضأ في طست؛ قال: فبكى حتى سمعت وكف دموعه في الطست.
قال أبو مخنف: حدثني يونس بن أبي إسحاق السبيعي. قال: ولما بلغ عبيد الله إقبال الحسين من مكة إلى الكوفة، بعث الحصين بن تميم صاحب شرطه حتى نزل القادسية ونظم الخيل ما بين القادسية إلى خفان، وما بين القادسية إلى القطقطانة وإلى لعلع، وقال الناس: هذا الحسين يريد العراق.
قال أبو مخنف: وحدثني محمد بن قيس أن الحسين أقبل حتى إذا بلغ الحاجر من بطن الرمة بعث قيس بن مسهر الصيداوي إلى أهل الكوفة، وكتب معه إليهم: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين، سلامٌ عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم، واجتماع ملئكم على نصرنا، والطب بحقنا، فسألت الله أن يحسن لنا الصنع، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فاكمشوا أمركم وجدوا، فإني قادم عليكم في أيامي هذه إن شاء الله؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.