قال أبو مخنف: عن الحارث بن حصيرة، عن عبد الله بن شريك العامري، قال: لما قبض بن ذي الجوشن الكتاب قام هو وعبد الله بن أبي المحل - وكانت عمته أم البنين ابنة حزام عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فولدت له العباس وعبد الله وجعفرًا وعثمان - فقال عبد الله بن أبي المحل بن حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب: أصلح الله الأمير! إن بني أختنا مع الحسين، فإن رأيت أن تكتب لهم أمانًا فعلت؛ قال: نعم ونعمة عين. فأمر كاتبه، فكتب لهم أمانًا، فبعث به عبد الله بن أبي المحل مع مولىً له يقال له: كزمان، فلما قدم عليهم دعاهم، فقال: هذا أمانٌ بعث به خالكم؛ فقال له الفتية: أقرىء خالنا السلام، وقل له: أن لا حاجة لنا في أمانكم، أمان الله خيرٌ من أمان ابن سمية. قال: فأقبل شمر بن ذي الجوشن بكتاب عبيد الله بن زياد إلى عمر ابن سعد، فلما قدم به عليه فقرأه قال له عمر: ما لك ويلك! لا قرب الله دارك، وقبح الله ما قدمت به علي! والله إني لأظنك أنت ثنيته أن يقبل ما كتبت به إليه، أفسدت علينا أمرًا كنا رجونا أن يصلح، لا يستسلم والله حسين، إن نفسًا أبيةً لبين جنبيه، فقال له شمر: أخبرني ما أنت صانع؟ أتمضي لأمر أميرك وتقتل عدوه، وإلا فخل بيني وبين الجند والعسكر؛ قال: لا ولا كرامة لك، وأنا أتولى ذلك؛ قال: فدونك، وكن أنت على الرجال؛ قال: فنهض إليه عشية الخميس لتسعٍ مضين من المحرم؛ قال: وجاء شمر حتى وقف على أصحاب الحسين، فقال: أين بنو أختنا؟ فخرج إليه العباس وجعفر وعثمان بنو علي، فقالوا له: ما لك وما تريد؟ قال: أنتم يا بني أختي آمنون؛ قال له الفتية: لعنك الله ولعن أمانك! لئن كنت خالنا أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له! قال: ثم إن عمر بن سعد نادى: يا خيل الله اركبي وأبشري. فركب في الناس، ثم زحف نحوهم بعد صلاة العصر، وحسين جالس أمام بيته محتبيًا بسيفه، إذ خفق برأسه على ركبتيه، وسمعت أخته زينب الصيحة فدنت من أخيها، فقالت: يا أخي، أما تسمع الأصوات قد اقتربت! قال: فرفع الحسين رأسه فقال: إني رأيت رسول الله في المنام فقال لي: إنك تروح إلينا؛ فلطمت أخته وجهها وقالت: يا ويلتا! فقال: ليس لك الويل يا أخية، اسكني رحمك الرحمن! وقال العباس بن علي: يا أخي، أتاك القوم؛ قال: فنهض؛ ثم قال: يا عباس، اركب بنفسي أنت يا أخي حتى تلقاهم فتقول لهم: ما لكم؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عما جاء بهم؟ فأتاهم العباس؛ فاستقبلهم في نحو من عشرين فارسًا فيهم زهير بن القين وحبيب ابن مظاهر، فقال لهم العباس: ما بدا لكم؟ وما تريدون؟ قالوا: جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم؛ قال: فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم؛ قال: فوقفوا ثم قالوا: القه فأعلمه ذلك، ثم القنا بما يقول؛ قال: فانصرف العباس راجعًا يركض إلى الحسين يخبره بالخبر، ووقف أصحابه يخاطبون القوم، فقال حبيب ابن مظاهر لزهير بن القين: كلم القوم إن شئت. وإن شئت كلمتهم، فقال له زهير: أنت بدأت بهذا، فكن أنت تكلمهم، فقال له حبيب بن مظاهر: أما والله لبئس القوم عند الله غدًا قومٌ يقدمون عليه قد قتلوا ذرية نبيه عليه السلام وعترته وأهل بيته وعباد أهل هذا المصر المجتهدين بالأسحار، والذاكرين الله كثيرًا؛ فقال له عزرة بن قيس: إنك لتزكي نفسك ما استطعت؛ فقال له زهير: يا عزرة، إن الله قد زكاها وهداها، فاتق الله يا عزرة فإني لك من الناصحين، أنشدك الله يا عزرة أن تكون ممن يعين الضلال على قتل النفوس الزكية! قال: يا زهير، ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت، إنما كنت عثمانيًا؛ قال: أفلست تستدل بموقفي هذا أني منهم! أما والله ما كتبت إليه كتابًا قط، ولا أرسلت إليه رسولًا قط، ولا وعدته نصرتي قط، ولكن الطريق جمع بيني وبينه، فلما رأيته ذكرت به رسول الله ومكانه منه، وعرفت ما يقدم عليه من عدوه وحزبكم، فرأيت أن أنصره، وأن أكون في حزبه، وأن أجعل نفسي دون نفسه، حفظًا لما ضيعتم من حق الله وحق رسوله عليه السلام. قال: وأقبل العباس بن علي يركض حتى انتهى إليهم، فقال: يا هؤلاء، إن أبا عبد الله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشية حتى ينظر في هذا الأمر، فإن هذا أمرٌ لم يجر بينكم وبينه فيه
منطقٌ، فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله، فإما رضيناه فأتينا بالأمر الذي تسألونه وتسومونه، أو كرهنا فرددناه، وإنما أراد بذلك أن يردهم عنه تلك العشية حتى يأمربأمره، ويوصي أهله، فلما أتاهم العباس بن علي بذلك قال عمر بن سعد: ما ترى يا شمر؟ قال: ما ترى أنت، أنت الأمير والرأي رأيك؛ قال: قد أردت ألا أكون؛ ثم أقبل على الناس فقال: ماذا تريدون؟ فقال عمرو بن الحجاج بن سلمة الزبيدي: سبحان الله! والله لو كانوا من الديلم ثم سألوك هذه المنزلة لكان ينبغي لك أن تجيبهم إليها؛ وقال قيس بن الأشعث: اجبهم إلى ما سألوك، فلعمري ليصبحنك بالقتال غدوة؛ فقال: والله لو أعلم أن يفعلوا ما أخرجتهم العشية؛ قال: وكان العباس بن علي حين أتى حسينًا بما عرض عليه عمر بن سعد قال: ارجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة وتدفعهم عند العشية لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يلعم أني قد كنت أحب الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار!، فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله، فإما رضيناه فأتينا بالأمر الذي تسألونه وتسومونه، أو كرهنا فرددناه، وإنما أراد بذلك أن يردهم عنه تلك العشية حتى يأمربأمره، ويوصي أهله، فلما أتاهم العباس بن علي بذلك قال عمر بن سعد: ما ترى يا شمر؟ قال: ما ترى أنت، أنت الأمير والرأي رأيك؛ قال: قد أردت ألا أكون؛ ثم أقبل على الناس فقال: ماذا تريدون؟ فقال عمرو بن الحجاج بن سلمة الزبيدي: سبحان الله! والله لو كانوا من الديلم ثم سألوك هذه المنزلة لكان ينبغي لك أن تجيبهم إليها؛ وقال قيس بن الأشعث: اجبهم إلى ما سألوك، فلعمري ليصبحنك بالقتال غدوة؛ فقال: والله لو أعلم أن يفعلوا ما أخرجتهم العشية؛ قال: وكان العباس بن علي حين أتى حسينًا بما عرض عليه عمر بن سعد قال: ارجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة وتدفعهم عند العشية لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يلعم أني قد كنت أحب الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار! قال أبو مخنف: حدثني الحارث بن حصيرة، عن عبد الله بن شريك العامري، عن علي بن الحسين قال: أتانا رسولٌ من قبل عمر بن سعد فقام مثل حيث يسمع الصوت فقال: إنا قد أجلناكم إلى غد، فإن استسلمتم سرحنا بكم إلى أميرنا عبيد الله بن زياد، وإن أبيتم فلسنا بتاركيكم.
قال أبو مخنف: وحدثني عبد الله بن عاصم الفائشي، عن الضحاك بن عبد الله المشرقي - بطن من همدان - أن الحسين بن علي رضي الله عنه جمع أصحابه.
قال أبو مخنف: وحدثني أيضًا الحارث بن حصيرة، عن عبد الله بن شريك العامري، عن علي بن الحسين، قالا: جمع الحسين أصحابه بعد ما رجع عمر بن سعد، وذلك عند قرب المساء، قال علي بن الحسين: فدنوت منه لأسمع وأنا مريض، فسمعت أبي وهو يقول لأصحابه: أثني على الله تبارك وتعالى أحسن الثناء، وأحمده على السراء والضراء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلمتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعًا وأبصارًا وأفئدة، ولم تجعلنا من المشركين؛ أما بعد، فإني لا أعلم أصحابًا أولى ولا خيرًا من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعًا خيرًا؛ ألا وإني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدًا، ألا وإني قد رأيت لكم فانطلقوا جميعًا في حل، ليس عليكم مني ذمام، هذا ليلٌ قد غشيكم، فاتخذوه جملًا.
قال أبو مخنف: حدثنا عبد الله بن عاصم الفائشي - بطن من همدان - عن الضحاك بن عبد الله المشرقي، قال: قدمت ومالك بن النضر الأرحبي على الحسين، فسلمنا عليه، ثم جلسنا إليه، فرد عليا، ورحب بنا، وسألنا عما جئنا له، فقلنا: جئنا لنسلم عليك، وندعو الله لك بالعافية، ونحدث بك عهدًا، ونخبرك خبر الناس، وإنا نحدثك أنهم قد جمعوا على حربك فر رأيك. فقال الحسين رضي الله عنه: حسبي الله ونعم الوكيل! قال: فتذممنا وسلمنا عليه، ودعونا الله له، قال: فما يمنعكما من نصرتي؟ فقال مالك ابن النضر: علي دين، ولي عيال، فقلت له: إن علي دينًا، وإن لي لعيالًا، ولكنك إن جعلتني في حلٍّ من الانصراف إذا لم أجد مقاتلًا قاتلت عنك ما كان لك نافعًا، وعنك دافعًا! قال: قال: فأنت في حل؛ فأقمت معه، فلما كان الليل قال: هذا الليل قد غشيكم، فاتخذوه جملًا، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله، فإن القوم إنما يطلبوني، ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري؛ فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبد الله بن جعفر: لم نفعل لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك أبدًا؛ بدأهم بهذا القول العباس بن علي. ثم إنهم تكلموا بهذا ونحوه، فقال الحسين رضي الله عنه: يا بني عقيل، حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا قد أذنت لكم؛ قالوا: فما يقول الناس! يقولون إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا! لا والله لا نفعل، ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا، ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك! قال أبو مخنف: حدثني عبد الله بن عاصم، عن الضحاك بن عبد الله المشرقي، قال: فقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي فقال: أنحن نخلي عنك ولما نعذر إلى الله في أداء حقك! أما والله حتى أكسر في صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولا أفارقك؛ ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك. قال: وقال سعيد بن عبد الله الحنفي: والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا حفظنا غيبة رسول الله فيك، والله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق حيًا ثم أذر؛ يفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك! وإنما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدًا.
قال: وقال زهير بن القين: والله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل كذا ألف قتلة، وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك. قال: وتكلم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضًا في وجه واحد، فقالوا: والله لا نفارقك، ولكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا، فإذا نحن قتلنا كنا وفينا، وقضينا ما علينا.
قال أبو مخنف: حدثني الحارث بن كعب وأبو الضحاك، عن علي ابن الحسين بن علي قال: إني جالس في تلك العشية التي قتل أبي صبيحتها، وعمتي زينب عندي تمرضني، إذ اعتزل أبي بأصحابه في خباء له، وعنده حوى، مولى أبي ذر الغفاري، وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول:
يا دهر أفٍّ لك من خليل ** كم لك بالإشراق والأصيل
من صاحبٍ أو طالبٍ قتيل ** والدهر لا يقنع بالبديل
وإنما الأمر إلى الجليل ** وكل حيٍّ سالك السبيل
قال: فأعادها مرتين أو ثلاثًا حتى فهمتها، فعرفت ما أراد، فخنقتني عبرتي، فرددت دمعي ولزمت السكون، فعلمت أن البلاء قد نزل. فأما عمتي فإنها سمعت ما سمعت، وهي امرأة وفي النساء الرقة والجزع، فلم تملك نفسها أن وثبت تجر ثوبها، وإنها لحاسرة حتى انتهت إليه؛ فقالت: واثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة! اليوم ماتت فاطمة أمي وعلي أبي وحسن أخي، يا خليفة الماضي، وثمال الباقي؛ قال: فنظر إليها الحسين رضي الله عنه فقال: يا أخية، لا يذهبن حلمك الشيطان؛ قالت: بأبي أنت وأمي يا أبا عبد الله! استقتلت نفسي فداك؛ فرد غصته، وترقرقت عيناه، وقال: لو ترك القطا ليلًا لنام؛ قالت: يا ويلتي، أفتغضب نفسئك اغتصابًا، فذلك أقرح لقلبي، وأشد على نفسي! ولطمت وجهها، وأهوت إلى جيبها وشقته، وخرت مغشيًا عليها، فقام إليها الحسين فصب على وجهها الماء، وقال لها: يا أخية، اتقي الله وتعزي بعزاء الله، واعلمي أن أهل الأرض يموتون، وأن أهل السماء لا يبقون، وأن كل شيء هالكٌ إلا وجه الله الذي خلق الأرض بقدرته، ويبعث الخلق فيعودون، وهو فرد وحده، أبي خيرٌ مني، وأمي خيرٌ مني، وأخي خيرٌ مني، ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله أسوة؛ قال: فعزاها بهذا ونحوه، وقال لها: يا أخية، إني أقسم عليك فأبري قسمي، لا تشقي علي جيبًا، ولا تخمشي علي وجهًا، ولا تدعي علي بالويل والثبور إذا أنا هلكت؛ قال: ثم جاء بها حتى أجلسها عندي، وخرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقربوا بعض بيوتهم من بعض، وأن يدخلوا الأطناب بعضها في بعض، وأن يكونوا هم بين اليوت إلا الوجه الذي يأتيهم منه عدوهم.
قال أبو مخنف: عن عبد الله بن عاصم، عن الضحاك بن عبد الله المشرقي، قال: فلما أمسى حسين وأصحابه قاموا الليل كله يصلون ويستغفرون، ويدعون ويتضرعون؛ قال: فتمر بنا خيلٌ لهم تحرسنا، وإن حسينًا ليقرأ: " ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا ولهم عذابٌ مهينٌ، ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ". فسمعها رجل من تلك الخيل التي كانت تحرسنا، فقال: نحن ورب الكعبة الطيبون. ميزنا منكم. قال: فعرفته فقلت لبرير بن حضير: تدري من هذا؟ قال: لا؛ قلت هذا أبو حرب السبيعي عبد الله بن شهر - وكان مضحاكًا بطالًا، وكان شريفًا شجاعًا فاتكًا، وكان سعيد بن قيس ربما حبسه في جناية - فقال له برير بن حضير: يا فاسق، أنت يجعلك الله في الطيبين! فقال له: من أنت؟ قال: أنا برير بن حضير؛ قال: إنا لله! عز علي! هلكت والله، هلكت والله يا برير! قال: يا أبا حرب، هل لك أن تتوب إلى الله من ذنوبك العظام! فوالله إنا لنحن الطيبون، ولكنكم لأنتم الخبيثون؛ قال: وأنا على ذلك من الشاهدين، قلت: ويحك! أفلا ينفعك معرفتك! قال: جعلت فداك! فمن ينادم يزيد بن عذرة العنزي من عنز بن وائل! قال: ها هو ذا معي؛ قال: قبح الله رأيك على كل حال! أنت سفيه. قال: ثم انصرف عنا، وكان الذي يحرسنا بالليل في الخيل عزرة بن قيس الأحمسي، وكان على الخيل؛ قال: فلما صلى عمر بن سعد الغداة يوم السبت - وقد بلغنا أيضًا أنه كان يوم الجمعة، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء - خرج فيمن معه من الناس.
قال: وعبأ الحسين أصحابه، وصلى بهم صلاة الغداة، وكان معه اثنان وثلاثون فارسًا وأربعون راجلًا، فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه، وحبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه، وأعطى رايته العباس بن علي أخاه، وجعلوا البيوت في ظهورهم، وأمر بحطب وقصب كان من وراء البيوت يحرق بالنار مخافة أن ياتوهم من ورائهم. قال: وكان الحسين رضي الله عنه أتى بقصب وحطب إلى مكان من ورائهم منخفض كأنه ساقية، فحفروه في ساعة من الليل، فجعلوه كالخندق، ثم ألقوا فيه ذلك الحطب والقصب، وقالوا: إذا عدوا علينا فقاتلونا ألقينا فيه النار كيلا نؤتي من ورائنا، وقاتلنا القوم من وجه واحد. ففعلوا، وكان لهم نافعًا.
قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج الكندي، عن محمد بن بشر، عن عمرو الحضرمي، قال: لما خرج عمر بن سعد بالناس كان على ربع أهل المدينة يومئذ عبد الله بن زهير بن سليم الأزدي، وعلى ربع مذحج وأسد عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي، وعلى ربع ربيعة وكندة قيس بن الأشعث بن قيس، وعلى ربع تميم وهمدان الحر بن يزيد الرياحي؛ فشهد هؤلاء كلهم مقتل الحسين إلا الحر بن يزيد فإنه عدل إلى الحسين، وقتل معه. وجعل عمر على ميمنته عمرو بن الحجاج الزبيدي، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن بن شرحبيل بن الأعور بن عمر بن معاوية - وهو الضباب بن كلاب - وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسي، وعلى الرجال شبث بن ربعي الرياحي، وأعطى الراية ذويدًا مولاه.
قال أبو مخنف: حدثني عمرو بن مرة الجملي، عن أبي صالح الحنفي، عن غلام لعبد الرحمن بن عبد ربه الأنصاري، قال: كنت مع مولاي، فلما حضر الناس وأقبلوا إلى الحسين، أمر الحسين بفسطاط فضرب، ثم أمر بمسك فميث في جفنة عظيمة أو صحفة؛ قال: ثم دخل الحسين ذلك الفسطاط فتطلى بالنورة. قال: ومولاي عبد الرحمن بن عبد ربه وبرير ابن حضير الهمداني على باب الفسطاط تحتك مناكبهما، فازدحما أيهما يطلى على أثره، فجعل برير يهازل عبد الرحمن، فقال له عبد الرحمن: دعنا، فوالله ما هذه بساعة باطل، فقال له برير: والله لقد علم قومي أني ما أحببت الباطل شابًا ولا كهلًا، ولكن والله إني لمستبشرٌ بما نحن لاقون، والله إن بيننا وبين الحور العين إلا أن يميل هؤلاء علينا بأسيافهم، ولوددت أنهم قد مالوا علينا بأسيافهم. قال: فلما فرغ الحسين دخلنا فاطلينا؛ قال: ثم إن الحسين ركب دابته ودعا بمصحف فوضعه أمامه؛ قال: فاقتتل أصحابه بين يديه قتالًا شديدًا، فلما رأيت القوم قد صرعوا أفلت وتركتهم.
قال أبو مخنف، عن بعض أصحابه، عن أبي خالد الكاهلي، قال: لما صبحت الخيل الحسين رفع الحسين يديه، فقال: اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من هم يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، أنزلته بك، وشكوته إليك، رغبةً مني إليك، عمن سواك، ففرجته وكشفته، فأنت ولي كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل رغبة.
قال أبو مخنف: فحدثني عبد الله بن عاصم، قال: حدثني الضحاك المشرقي، قال: لما أقبلوا نحونا فنظروا إلى النار تضطرم في الحطب والقصب الذي كنا ألهبنا فيه النار من ورائنا لئلا يأتونا من خلفنا، إذ أقبل إلينا منهم رجل يركض على فرس كامل الأداة، فلم يكلمنا حتى مر على أبياتنا، فنظر إلى أبياتنا فإذا هو لا يرى إلا حطبًا تلتهب النار فيه، فرجع راجعًا، فنادى بأعلى صوته: يا حسين، استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة! فقال الحسين: من هذا؟ كأنه شمر بن ذي الجوشن! فقالوا: نعم، أصلحك الله! هو هو، فقال: يابن راعية المعزى، أنت أولى بها صليًا؛ فقال له مسلم بن عوسجة: يابن رسول الله، جعلت فداك! ألا أرميه بسهم! فإنه قد أمكنني، وليس يسقط مني سهم، فالفاسق من أعظم الجبارين؛ فقال له الحسين: لا ترمه، فإني أكره أن أبدأهم، وكان مع الحسين فرس له يدعى حقًا حمل عليه ابنه علي بن الحسين؛ قال: فلما دنا منه القوم عاد براحلته فركبها، ثم نادى بأعلى صوته دعاءً
يسمع جل الناس: أيها الناس؛ اسمعوا قولي، ولا تعجلوني حتى أعظكم بما لحق لكم علي، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري، وصدقتم قولي، وأعطيتموني النصف، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم علي سبيل، وإن لم تقبلوا مني العذر، ولم تعطوا النصف من أنفسكم " فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمةً ثم اقضوا إلي ولا تنظرون "؛ " إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ". قال: فلما سمع أخواته كلامه هذا صحن وبكين، وبكى بناته فارتفعت أصواتهن، فأرسل إليهن أخاه العباس ابن علي وعليًا ابنه، وقال لهما: أسكتاهن، فلعمري ليكثرن بكاؤهن؛ قال: فلما ذهبا ليسكتاهن قال: لا يبعد ابن عباس؛ قال: فظننا أنه إنما قالها حين سمع بكاؤهن، لأنه قد كان نهاه أن يخرج بهن، فلما سكتن حمد الله وأثنى عليه، وذكر الله بما هو أهله، وصلى على محمد صلى الله عليه وعلى ملائكته وأنبيائه، فذكر من ذلك ما الله أعلم وما لا يحصى ذكره. قال: فوالله ما سمعت متكلمًا قط قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه؛ ثم قال: أما بعد، فانسبوني فانظروا من أنا، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا؛ هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم وابن وصيه وابن عمه، وأول المؤمنين بالله والمصدق لرسوله بما جاء به من عند ربه! أو ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي! أو ليس جعفر الشهيد الطيار ذو الجناحين عمي! أو لم يبلغكم قول مستفيض فيكم: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لي ولأخي: " وهذان سيدا شببا أهل الجنة "! فإن صدقتموني بما أقول - وهو الحق - فوالله ما تعمدت كذبًا مذ علمت أن الله يمقت عليه أهله، ويضربه من اختلقه، وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم؛ سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، أو أبا سعيد الخدري، أو سهل بن سعد الساعدي، أو زيد بن أرقم، أو أنس بن مالك؛ يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي. أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي! فقال له شمر بن ذي الجوشن: هو يعبد الله على حرفٍ إن كان يدري مايقول! فقال له حبيب بن مظاهر: والله إني لأراك تعبد الله على سبعين حرفًا، وأنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول؛ قد طبع الله على قلبك؛ ثم قال لهم الحسين: فإن كنتم في شك من هذا القول أفتشكون أثرًا ما أني ابن بنت نبيكم! فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري منكم ولا من غيركم، أنا ابن بنت نبيكم خاصة. أخبروني، أتطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو مالٍ لكم استهلكته، أو بقصاص من جراحة؟ قال: فأخذوا لا يكلمونه؛ قال: فنادى: يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إلي أن قد أينعت الثمار، واخضر الجناب، وطمت الجمام، وإنما تقدم على جند لك مجند، فأقبل! قالوا له: لم نفعل؛ فقال: سبحان الله! بلى والله، لقد فعلتم؛ ثم قال: أيها الناس، إذ كرهتموني فدعوني انصرف عنكم إلى مأمني من الأرض؛ قال: فقال له قيس بن الأشعث: أو لا تنزل على حكم بني عمك، فإنهم لن يروك إلا ما تحب، ولن يصل إليك منهم مكروه؟ فقال الحسين: أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؛ لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد. عباد الله، إني عذت بربي وربكم أن ترجمون أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب؛ قال: ثم إنه أناخ راحلته، وأمر عقبة بن سمعان فعقلها، وأقبلوا يزحفون نحوه. عبيد. عباد الله، إني عذت بربي وربكم أن ترجمون أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب؛ قال: ثم إنه أناخ راحلته، وأمر عقبة بن سمعان فعقلها، وأقبلوا يزحفون نحوه. قال أبو مخنف: فحدثني علي بن حنظلة بن أسعد الشامي، عن رجل من قومه شهد مقتل الحسين حين قتل يقال له كثير بن عبد الله الشعبي؛ قال: لما زحفنا قبل الحسين خرج إلينا زهير بن قين على فرس له ذنوب، شاكٍ في السلاح، فقال: يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب الله نذار! إن حقًا على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الآن إخوة، وعلى دين واحد وملة واحدة، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منا أهلٌ، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنا أمة وأنتم أمة، إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد، فإنكم لا تدركون منهما إلا بسوء عمر سلطانهما كله، ليسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقراءكم، أمثال حجر بن عدي وأصحابه، وهانىء بن عروة وأشباهه؛ قال: فسبوه، وأثنوا على عبيد الله بن زياد، ودعوا له، وقالوا: والله لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه، أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله سلمًا؛ فقال لهم: عباد الله، إن ولد فاطمة رضوان الله عليها أحق بالود والنصر من ابن سمية، فإن لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم؛ فخلوا بين الرجل وبين ابن عمه يزيد بن معاوية، فلعمري إن يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين؛ قال: فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم وقال: اسكت أسكت الله نأمتك، أبرمتنا بكثرة كلامك! فقال له زهير: يابن البوال على عقبيه، ما إياك أخاطب، إنما أنت بهيمة، والله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم؛ فقال له شمر: إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة؛ قال: أفبالموت تخوفني! فوالله للموت معه أحب إلي من الخلد معكم؛ قال: ثم أقبل على الناس رافعًا صوته، فقال: عباد الله، لا يغرنكم من دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه، فوالله لا تنال شفاعة محمد قومًا هراقوا دماء ذريته وأهل بيته، وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم؛ قال: فناداه رجل فقال له: إن أبا عبد الله يقول لك: أقبل، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء، لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والإبلاغ!
قال أبو مخنف: عن أبي جناب الكلبي، عن عدي بن حرملة، قال: ثم إن الحر بن يزيد لما زحف عمر بن سعد قال له: أصلحك الله! مقاتلٌ أنت هذا الرجل؟ قال: إي والله قتالًا أيسره أن تسقط الرءوس وتطيح الأيدي؛ قال: أفما لكم في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضًا؟ قال عمر بن سعد: أما والله لو كان الأمر إلي لفعلت، ولكن أميرك قد أبى ذلك؛ قال: فأقبل حتى وقف من الناس موقفًا، ومعه رجل من قومه يقال له قرة بن قيس، فقال: يا قرة، هل سقيت فرسك اليوم؟ قال: لا؛ قال: إما تريد أن تسقيه؟ قال: فظننت والله أنه يريد أن يتنحى فلا يشهد القتال، وكره أن أراه حين يصنع ذلك، فيخاف أن أرفعه عليه؛ فقلت له: لم أسقه، وأنا منطلق فساقيه؛ قال: فاعتزلت ذلك المكان الذي كان فيه؛ قال: فوالله لو أنه أطلعني على الذي يريد لخرجت معه إلى الحسين؛ قال: فأخذ يدنو من حسين قليلًا قليلًا، فقال له رجل من قومه يقال له المهاجر ابن أوس: ما تريد يابن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟ فسكت وأخذه مثل العرواء، فقال له يابن يزيد، والله إن أمرك لمريب، والله ما رأيت منك في موقف قط مثل شيء أراه الآن، ولو قيل لي: من أشجع أهل الكوفة رجلًا ما ع***ك، فما هذا الذي أرى منك! قال: إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة شيئًا ولو قطعت وحرقت؛ ثم ضرب فرسه فلحق بحسين رضي الله عنه، فقال له: جعلني الله فداك يابن رسول الله! أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان، والله الذي لا إله إلا هو ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبدًا، ولا يبلغون منك هذه المنزلة. فقلت في نفسي: لا أبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم، ولا يرون أني خرجت من طاعتهم، وأما هم فسيقبلون من حسين هذه الخصال التي يعرض عليهم، ووالله لو ظننت أنهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك؛ وإني قد جئتك تائبًا مما كان مني إلى ربي، ومواسيًا لك بنفسي حتى أموت بين يديك، أفترى ذلك لي توبة؟ قال: نعم، يتوب الله عليك، ويغفر لك، ما اسمك؟ قال: أنا الحر بن يزيد؛ قال: أنت الحر كما سمتك أمك، أنت الحر إن شاء الله في الدنيا والآخرة؛ انزل؛ قال: أنا لك فارسًا خيرٌ مني راجلًا، أقاتلهم على فرسي ساعة، وإلى النزول ما يصير آخر أمري. قال الحسين: فاصنع يرحمك الله ما بدا لك. فاستقدم أمام أصحابه ثم قال: أيها القوم، ألا تقبلون من حسين خصلةً من هذه الخصال التي عرض عليكم فيعافيكم الله من حربه وقتاله؟ قالوا: هذا الأمير عمر بن سعد فكلمه، فكلمه بمثل ما كلمه به قبل، وبمثل ما كلم به أصحابه؛ قال عمر: قد حرصت، لو وجدت إلى ذلك سبيلًا فعلت، فقال: يا أهل الكوفة، لأمكم الهبل والعبر إذ دعوتموه حتى إذا أتاكم أسلمتموه، وزعتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه، ثم ع***م عليه لتقتلوه، أمسكتم بنفسه، وأخذتم بكظمه، وأحطتم به من كل جانب، فمنعتموه التوجه في بلاد الله العريضة حتى يأمن ويأمن أهل بيته، وأصبح في أيديكم كالأسير لا يملك لنفسه نفعًا، ولا يدفع ضرًا، وحلأتموه ونساءه وأصيبيته وأصحابه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهودي والمجوي والنصراني، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه، وها هم أولاء قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمدًا في ذريته! لا سقاكم الله يوم الظمإ إن لم تتوبوا وتنزعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه. فحملت عليه رجالة لهم ترمية بالنبل؛ فأقبل حتى وقف أمام الحسين.
قال أبو مخنف، عن الصقعب بن زهير وسليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قال: وزحف عمر بن سعد نحوهم، ثم نادى: يا ذويد، أدن رايتك؛ قال: فأدناها ثم وضع سهمه في كبد قوسه، ثم رمى فقال: اشهدوا أني أول من رمى.
قال أبو مخنف: حدثني أبو جناب، قال: كان منا رجل يدعى عبد الله بن عمير، من بني عليم، كان قد نزل الكوفة، واتخذ عند بئر الجعد من همدان دارًا، وكانت معه امرأةٌ له من النمر بن قاسط يقال لها أم وهب بنت عبد، فرأى القوم بالنخيلة يعرضون ليسرحوا إلى الحسين، قال: فسأل عنهم، فقيل له: يسرحون إلى حسين بن فاطمة بنت رسول الله ؛ فقال: والله لقد كنت على جهاد أهل الشرك حريصًا، وإني لأرجو ألا يكون جهاد هؤلاء الذين يغزون ابن بنت نبيهم أيسر ثوابًا عند الله من ثوابه إياي في جهاد المشركين؛ فدخل إلى امرأته فأخبرها بما سمع، وأعلمها بما يريد، فقالت: أصبت أصاب الله بك أرشد أمورك، افعل وأخرجني معك؛ قال: فخرج بها ليلًا حتى أتى حسينًا، فأقام معه، فلما دنا منه عمر بن سعد ورمى بسهم ارتمى الناس، فلما ارتموا خرج يسار مولى زياد بن أبي سفيان وسالم مولى عبيد الله بن زياد، فقالا: من يبارز؟ ليخرج إلينا بعضكم، قال: فوثب حبيب بن مظاهر وبرير بن حضير، فقال لهما حسين: اجلسا؛ فقام عبد الله بن عمير الكلبي فقال: أبا عبد الله، رحمك الله! ائذن لي فلأخرج إليهما؛ فرأى حسين رجلًا آدم طويلًا شديد الساعدين بعيد ما بين المنكبين، فقال حسين: إني لأحسبه للأقران قتالًا، اخرج إن شئت؛ قال: فخرج إليهما، فقالا له: من أنت؟ فانتسب لهما، فقالا: لا نعرفك، ليخرج إلينا زهير بن القين أو حبيب بن مظاهر أو برير بن حضير، ويسار مستنتلٌ أمام سالم، فقال له الكلبي: يابن الزاية، وبك رغبةٌ عن مبارزة أحد من الناس، وما يخرج إليك أحد من الناس إلا وهو خير منك؛ ثم شد عليه فضربه بسيفه حتى برد، فإنه لمشتغل به يضربه بسيفه إذ شد عليه سالم، فصاح به: قد رهقك العبد؛ قال: فلم يأبه له حتى غشيه فبدره الضربة، فاتقاه الكلبي بيده اليسرى، فأطار أصابع كفه اليسرى، ثم مال عليه الكلبي فضربه حتى قتله، وأقبل الكلبي مرتجزًا وهو يقول، وقد قتلهما جميعًا:
إن تنكروني فأنا ابن كلب ** حسبي بيتي في عليمٍ حسبي
إني امرؤٌ ذو مرة وعصب ** ولست بالخوار عند النكب
إني زعيمٌ لك أم وهب ** بالطعن فيهم مقدمًا والضرب
ضرب غلام مؤمنٍ بالرب
فأخذت أم وهب امرأته عمودًا، ثم أقبلت نحو زوجها تقول له: فداك أبي وأمي! قاتل دون الطيبين ذرية محمد، فأقبل إليها يردها نحو النساء فأخذت تجاذب ثوبه، ثم قالت: إني لن أدعك دون أن أموت معك، فناداها حسين، فقال: جزيتم من أهل بيت خيرًا، ارجعي رحمك الله إلى النساء فاجلسي معهن، فإنه ليس على النساء قتال؛ فانصرفت إليهن. قال: وحمل عمرو بن الحجاج وهو على ميمنة الناس في الميمنة، فلما أن دنا من حسين جثوا له على الركب، وأشرعوا الرماح نحوهم، فلم تقدم خيلهم على الرماح، فذهبت الخيل لترجع، فرشقوهم بالنبل، فصرعوا منهم رجالًا، وجرحوا منهم آخرين.
قال أبو مخنف: فحدثني حسين أبو جعفر، قال: ثم إن رجلًا من بني تميم - يقال له عبد الله بن حوزة - جاء حتى وقف أمام الحسين، فقال: يا حسين، يا حسين! فقال حسين: ما تشاء؟ قال: أبشر بالنار؛ قال: كلا، إني أقدم على رب رحيمٍ، وشفيع مطاع، من هذا؟ قال له أصحابه: هذا ابن حوزة؛ قال: رب حزه إلى النار؛ قال: فاضطرب به فرسه في جدول فوقع فيه، وتعلقت رجله بالركاب، ووقع رأسه في الأرض، ونفر الفرس، فأخذ يمر به فيضرب برأسه كل حجرٍ وكل شجرة حتى مات.
قال أبو مخنف: وأما سويد بن حية؛ فزعم لي أن عبد الله بن حوزة حين وقع فرسه بقيت رجله اليسرى في الركاب، وارتفعت اليمنى فطارت، وعدا به فرسه يضرب رأسه كل حجر وأصل شجرة حتى مات.
قال أبو مخنف عن عطاء بن السائب، عن عبد الجبار بن وائل الحضرمي، عن أخيه مسروق بن وائل، قال: كنت في أوائل الخيل ممن سار إلى الحسين، فقلت: أكون في أوائلها لعلي أصيب رأس الحسين، فأصيب به منزلةً عند عبيد الله بن زياد؛ قال: فلما انتهينا إلى حسين تقدم رجلٌ من القوم يقال له ابن حوزة، فقال: أفيكم حسين؟ قال: فسكت حسينٌ؛ فقالها ثانية، فأسكت حتى إذا كانت الثالثة قال: قولوا له: نعم، هذا حسين، فما حاجتك؟ قال: يا حسين، أبشر بالنار؛ قال: كذبت، بل أقدم على رب غفور وشفيع مطاع، فمن أنت؟ قال: ابن حوزة؛ قال؛ فرفع الحسين يديه حتى رأينا بياض إبطيه من فوق الثياب ثم قال: اللهم حزه إلى النار؛ قال: فغضب ابن حوزة، فذهب ليقحم إليه الفرس وبينه وبينه نهر؛ قال: فعلقت قدمه بالركاب، وجالت به الفرس فسقط عنها؛ قال: فانقطعت قدمه وساقه وفخذه، وبقي جانبه الآخر متعلقًا بالركاب. قال: فرجع مسروق وترك الخيل من ورائه؛ قال: فسألته، فقال: لقد رأيت من أهل هذا البيت شيئًا لا أقاتلهم أبدًا؛ قال: ونشب القتال.
قال أبو مخنف: وحدثني يوسف بن يزيد، عن عفيف بن زهير بن أبي الأخنس - وكان قد شهد مقتل الحسين - قال: وخرج يزيد بن معقل من بني عميرة بن ربيعة وهو حليف لبني سليمة من عبد القيس، فقال: يا برير ابن حضير، كيف ترى الله صنع بك! قال: صنع الله والله بي خيرًا، وصنع الله بك شرًا؛ قال: كذبت، وقبل اليوم ما كنت كذابًا، هل تذكر وأنا أماشيك في بني لوذان وأنت تقول: إن عثمان بن عفان كان على نفسه مسرفًا، وإن معاوية بن أبي سفيان ضال مضل، وإن إمام الهدى والحق علي بن أبي طالب؟ فقال له برير: أشهد أن هذا رأيي وقولي؛ فقال له يزيد بن معقل: فإني أشهد أنك من الضالين؛ فقال له برير بن حضير: هل لك فلأ باهلك، ولندع الله أن يلعن الكاذب وأن يقتل المبطل، ثم اخرج فلأبارزك؛ قال: فخرجا فرفعا أيديهما إلى الله يدعوانه أن يلعن الكاذب، وأن يقتل المحق المبطل؛ ثم برز كل واحد منهما لصاحبه، فاختلفا ضربتين، فضرب يزيد بن معقل برير بن حضير ضربةً خفيفة لم تضره شيئًا، وضربه برير بن حضير ضربةً قدت المغفر، وبلغت الدماغ، فخر كأنما هوى من حالق، وإن سيف ابن حضير لثابت في رأسه، فكأني أنظر إليه ينضنضه من رأسه، وحمل عليه رضى بن منقذ العبدي فاعتنق بريرًا، فاعتركا ساعةً. ثم إن بريرًا قعد على صدره فقال رضي: أين أهل المصاع والدفاع؟ قال: فذهب كعب بن جابر بن عمرو الأزدي ليحمل عليه، فقلت: إن هذا برير بن حضير القارىء الذي كان يقرئنا القرآن في المسجد؛ فحمل عليه بالرمح حتى وضعه في ظهره، فلما وجد مس الرمح برك عليه فعض بوجهه، وقطع طرف أنفه، فطعنه كعب ابن جابر حتى ألقاه عنه، وقد غيب السنان في ظهره، ثم أقبل عليه يضربه بسيفه حتى قتله؛ قال عفيف: كأني أنظر إلى العبدي الصريع قام ينفض التراب عن قبائه، ويقول: أنعمت علي يا أخا الأزد نعمةً لن أنساها أبدًا؛ قال: فقلت: أنت رأيت هذا؟ قال: نعم، رأي عيني وسمع أذني.
فلما رجع كعب بن جابر قالت له امرأته، أو أخته النوار بنت جابر: أعنت على ابن فاطمة، وقتلت سيد القراء؛ لقد أتيت عظيمًا من الأمر، والله لا أكلمك من رأسي كلمةً أبدًا.
وقال كعب بن جابر:
سلي تخبري عني وأنت ذميمةٌ ** غداة حسينٍ والرماح شوارع
ألم آت أقصى ما كرهت ولم يخل ** علي غداة الروع ما أنا صانع
معي يزنيٌّ لم تخنه كعوبه ** وأبيض مخشوب الغرارين قاطع
فجردته في عصبةٍ ليس دينهم ** بديني وإني بابن حربٍ لقانع
ولم تر عيني مثلهم في زمانهم ** ولا قبلهم في الناس إذ أنا يافع
أشد قراعًا بالسيوف لدى الوغى ** ألا كل من يحمي الذمار مقارع
وقد صبروا للطعن والضرب حسرًا ** وقد نازلوا لو أن ذلك نافع
فأبلغ عبيد الله إما لقيته ** بأني مطيعٌ للخليفة سامع
قتلت بريرًا ثم حملت نعمةً ** أبا منقذٍ لما دعا: من يماصع؟
قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب، قال: سمعته في إمارة مصعب بن الزبير؛ وهو يقول: يا رب إنا قد وفينا، فلا تجعلنا يا رب كمن قد غدر؛ فقال له أبي: صدق، ولقد وفى وكرم، وكسبت لنفسك شرًا؛ قال: كلا، إني لم أكسب لنفسي شرًا، ولكني كسبت لها خيرًا.
قال: وزعموا أن رضي بن منقذ العبدي رد بعد على كعب بن جابر جواب قوله، فقال:
لو شاء ربي ما شهدت قتالهم ** ولا جعل النعماء عندي ابن جابر
لقد كان ذاك اليوم عارًا وسبةً ** يعيره الأبناء بعد المعاشر
فيا ليت أني كنت من قبل قتله ** ويوم حسينٍ كنت في رمس قابر
قال: وخرج عمرو بن قرظة الأنصاري يقاتل دون حسين وهو يقول:
قد علمت كتيبة الأنصار ** أني سأحمي حوزة الذمار
ضرب غلامٍ غير نكسٍ شاري ** دون حسينٍ مهجتي وداري
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 5 (0 من الأعضاء و 5 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)