قال هشام، عن أبي مخنف: وخرج محمد بن سعد بن أبي وقاص يومئذ يقاتل، فلما انهزم الناس مال عليهم يضربهم بسيفه حتى غلبته الهزيمة، فذهب فيمن ذهب من الناس، وأباح مسلم المدينة ثلاثًا يقتلون الناس ويأخذون الأموال؛ فأفزع ذلك من كان بها من الصحابة، فخرج أبو سعيد الخدري حتى دخل في كهف في الجبل، فبصر به رجل من أهل الشأم، فجاء حتى اقتحم عليه الغار.
قال أبو مخنف: فحدثني الحسن بن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، قال: دخل إلي الشامي يمشي بسيفه، قال: فانتضيت سيفي فمشيت إليه لأرعبه لعله ينصرف عني، فأبى إلا الإقدام علي، فلما رأيت أن قد جد شمت سيفي، ثم قلت له: " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسطٍ يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين "، فقال لي: من أنت لله أبوك! فقلت: أنا أبو سعيد الخدري؛ قال: صاحب رسول الله ؟ قلت: نعم؛ فانصرف عني.
قال هشام: حدثني عوانة، قال: دعا الناس مسلم بن عقبة بقباء إلى البيعة، وطلب الأمان لرجلين من قريش: ليزيد بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى ومحمد بن أبي الجهم بن حذيفة العدوي ولمعقل ابن سنان الأشجعي، فأتى بهما بعد الوقعة بيوم فقال: بايعا، فقال القرشيان: نبايعك على كتاب الله وسنة نبيه؛ فقال: لا والله لا أقيلكم هذا أبدًا، فقد مهما فضرب أعناقهما، فقال له مروان: سبحان الله! أتقتل رجلين من قريش أتيا ليؤمنا فضربت أعناقهما! فنخس بالقضيب في خاصرته ثم قال: وأنت والله لو قلت بمقالتهما ما رأيت السماء إلا برقةً.
قال هشام: قال أبو مخنف: وجاء معقل بن سنان، فجلس مع القوم، فدعا بشراب ليسقى، فقال له مسلم: أي الشراب أحب إليك؟ قال: العسل، قال: اسقوه، فشرب حتى ارتوى، فقال له: أقضيت ريك من شرابك؟ قال: نعم، قال: لا والله لا تشرب بعده شرابًا أبدًا إلا الحميم في نار جهنم، أتذكر مقالتك لأمير المؤمنين: سرت شهرًا، ورجعت شهرًا، وأصبحت صفرًا، اللهم غير - تعني يزيد! فقدمه فضرب عنقه.
قال هشام: وأما عوانة بن الحكم فذكر أن مسلم بن عقبة بعث عمرو بن محرز الأشجعي فأتاه بمعقل بن سنان فقال له مسلم: مرحبًا بأبي محمد! أراك عطشان! قال: أجل، قال: شوبوا له عسلًا بالثلج الذي حملتموه معنا - وكان له صديقًا قبل ذلك - فشابوه له، فلما شرب معقل قال له: سقاك الله من شراب الجنة؛ فقال له مسلم: أما والله لا تشرب بعدها شرابًا أبدًا حتى تشرب من شراب الحميم؛ قال: أنشدك الله والرحيم! فقال له مسلمٍ: أنت الذي لقيتني بطبرية ليلة خرجت من عند يزيد، فقلت: سرنا شهرًا ورجعنا من عند يزيد صفرًا، نرجع إلى المدينة فنخلع هذا الفاسق، ونبايع لرجل من أبناء المهاجرين! فيم غطفان وأشجع من الخلع والخلافة! إني آليت بيمين لا ألقاك في حرب أقدر فيه على ضرب عنقك إلا فعلت، ثم أمر به فقتل.
قال هشام: قال عوانة: وأتى بزيد بن وهب بن زمعة؛ فقال: بايع، قال: أبايعك على سنة عمر؛ قال: اقتلوه؛ قال: أنا أبايع، قال: لا والله لا أقيلك عثرتك، فكلمه مروان بن الحكم - لصهر كان بينهما - فأمر بمروان فوجئت عنقه، ثم قال: بايعوا على أنكم خول ليزيد بن معاوية، ثم أمر به فقتل.
قال هشام: قال عوانة، عن أبي مخنف. قال: قال عبد الملك بن نوفل ابن مساحق: ثم إن مروان أتي بعلي بن الحسين، وقد كان علي بن الحسين حين أخرجت بنو أمية منع ثقل مروان وامرأته وآواها، ثم خرجت إلى الطائف، فهي أم أبان ابنة عثمان بن عفان، فبعث ابنه عبد الله معها، فشكر ذلك له مروان - وأقبل علي بن الحسين يمشي بين مروان وعبد الملك يلتمس بهما عند مسلم الأمان، فجاء حتى جلس عنده بينهما، فدعا مروان بشراب ليتحرم بذلك من مسلم، فأتي له بشراب، فشرب منه مروان شيئًا يسيرًا، ثم ناوله عليًا، فلما وقع في يده قالله مسلم: لا تشرب من شرابنا، فأرعدت كفه، ولم يأمنه على نفسه، وأمسك القدح بكفه لا يشربه ولا يضعه، فقال: إنك إنما جئت تمشي بين هؤلاء لتأمن عندي؛ والله لو كان هذا الأمر إليهما لقتلتك، ولكن أمير المؤمنين أوصاني بك، وأخبرني أنك كاتبته، فذلك نافعك عندي، فإن شئت فاشرب شرابك الذي في يدك، وإن شئت دعونا بغيره، فقال: هذه التي في كفي أريد؛ قال: اشربها، ثم قال: إلي ها هنا، فأجلسه معه.
قال هشام: وقال عوانة بن الحكم: لما أتي بعلي بن الحسين إلى مسلم، قال: من هذا؟ قالوا: هذا علي بن الحين؛ قال: مرحبًا وأهلًا؛ ثم أجلسه معه على السرير والطنفسة، ثم قال: إن أمير المؤمنين أوصاني بك قبلًان وهو يقول: إن هؤلاء الخبثاء شغلوني عنك وعن وصلتك؛ ثم قال لعلي: لعل أهلك فزعوا! قال: إي والله، فأمر بدابته فأسرجت، ثم حمله فرده عليها.
قال هشام: وذكر عوانة أن عمرو بن عثمان لم يكن فيمن خرج من بني أمية، وأنه أتي به يومئذ إلى مسلم بن عقبة فقال: يا أهل الشام، تعرفون هذا؟ قالوا: لا؛ قال: هذا الخبيث ابن الطيب، هذا عمرو بن عثمان بن عفان أمير المؤمنين، هيه يا عمرو! إذا ظهر أهل المدينة قلت: أنا رجل منكم، وإن ظهر أهل الشام قلت: أنا ابن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، فأمر به فنتفت لحيته، ثم قال: يا أهل الشام، إن أم هذا كانت تدخل الجعل في فيها ثم تقول: يا أمير المؤمنين حاجيتك، ما في فمي؟ وفي فمها ما ساءها وناءها، فخلى سبيله، وكانت أمه من دوس.
قال أبو جعفر الطبري: فحدثني أحمد بن ثابت، عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وحدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، عن محمد بن عمر، قالا: كانت وقعة الحرة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين. وقال بعضهم: لثلاث ليالٍ بقين منه.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عبد الله بن جعفر، عن ابن عوف، قال: حج ابن الزبير بالناس سنة ثلاث وستين، وكان يسمى يومئذ العائذ، ويرون الأمر شورى. قال: فلما كانت ليلة هلال المحرم ونحن في منزلنا إذ قدم علينا سعيدٌ مولى المسور بن محرمة، فخبرنا بما أوقع مسلم بأهل المدينة وما نيل منهم، فجاءهم أمرٌ عظيم، فرأيت القوم شهروا وجدوا وأعدوا وعرفوا أنه نازل بهم.
وقد ذكر من أمر وقعة الحرة ومقتل ابن الغسيل أمرٌ غير الذي روي عن أبي مخنف، عن الذين روى ذلك عنهم، وذلك ما حدثني أحمد بن زهير قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا جويرية بن أسماء، قال: سمعت أشياخ أهل المدينة يحدثون أن معاوية لما حضرته الوفاة دعا يزيد فقال له: إن لك من أهل المدينة يومًا، فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة، فإنه رجل قد عرفت نصيحته. فلما هلك معاوية وفد إليه وفدٌ من أهل المدينة، وكان ممن وفد عليه عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر، وكان شريفًا فاضلًا سيدًا عابدًا، معه ثمانية بنين له، فأعطاه مائة ألف درهم، وأعطى بنيه لكل واحد منهم عشرة آلاف سوى كسوتهم وحملانهم، فلما قدم المدينة عبد الله بن حنظلة أتاه الناس فقالوا: ما وراءك؟ قال: جئتكم من عند رجل والله لو لم أجد إلا بني هؤلاء لجاهدته بهم؛ قالوا: قد بلغنا أنه أجداك وأعطاك وأكرمك؛ قال: قد فعل، وما قبلت منه إلا لأتقوى به؛ وحضض الناس فبايعوه، فبلع ذلك يزيد، فبعث مسلم بن عقبة إليهم، وقد بعث أهل المدينة إلى كل ماء بينهم وبين الشأم، فصبوا فيه زقًا من قطران، وعور، فأرسل الله السماء عليهم، فلم يستقوا بدلوٍ حتى وردوا المدينة، فخرج إليهم أهل المدينة بجموع كثيرة، وهيئة لم ير مثلها. فلما رآهم أهل الشأم هابوهم وكرهوا قتالهم، ومسلم شديد الوجع، فبينما الناس في قتالهم إذ سمعوا التكبير من خلفهم في جوفالمدينة، وأقحم عليهم بنو حارثة أهل الشأم، وهم على الجد، فانهزم الناس، فكان من أصيب في الخندق أكثر ممن قتل من الناس، فدخلوا المدينة، وهزم الناس وعبد الله بن حنظلة مستندٌ إلى أحد بنيه يغط نومًا، فنبهه ابنه، فلما فتح عينيه فرأى ما صنع الناس أمر أكبر بنيه، فتقدم حتى قتل، فدخل مسلم بن عقبة المدينة، فدعا الناس للبيعة على أنهم خولٌ ليزيد بن معاوية، يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء.
ثم دخلت سنة أربع وستين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
قال أبو جعفر: فمن ذلك مسير أهل الشأم إلى مكة لحرب عبد الله بن الزبير ومن كان على مثل رأيه في الامتناع على يزيد بن معاوية.
ولما فرغ مسلم بن عقبة من قتال أهل المدينة وإنهاب جنده أموالهم ثلاثًا، شخص بمن معه من الجند متوجهًا إلى مكة، كالذي ذكر هشام ابن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني عبد الملك بن نوفل، أن مسلمًا خرج بالناس إلى مكة يريد ابن الزبير، وخلف على المدينة روح بن زنباع الجذامي.
وأما الواقدي فإنه قال: خلف عليها عمرو بن محرز الأشجعي؛ قال: ويقال: خلف عليها روح بن زنباع الجذامي.
ذكر موت مسلم بن عقبة ورمي الكعبة وإحراقها
رجع الحديث إلى أبي مخنف. قال: حتى إذا انتهى إلى المشلل - ويقال: إلى قفا المشلل - نزل به الموت، وذلك في آخر المحرم من سنة أربع وستين، فدعا حصين بن نمير السكوني فقال له: يابن برذعة الحمار، أما والله لو كان هذا الأمر إلي ما وليتك هذا الجند، ولكن أمير المؤمنين ولاك بعدي، وليس لأمر أمير المؤمنين مردٌّ؛ خذ عني أربعًا: أسرع السير، وعجل الوقاع، وعم الأخبار، ولا تمكن قرشيًا من أذنك. ثم إنه مات، فدفن بقفا المشلل.
قال هشام بن محمد الكلبي: وذكر عوانة أن مسلم بن عقبة شخص يريد ابن الزبير، حتى إذا بلغ ثنية هرشا نزل به الموت، فبعث إلى رءوس الأجناد، فقال: إن أمير المؤمنين عهد إلي إن حدث بي حدث الموت أن أستخلف عليكم حصين بن نمير السكوني، والله لو كان الأمر إلي ما فعلت، ولكن أكره معصية أمر أمير المؤمنين عند الموت؛ ثم دعا به فقال: انظر يا برذعة الحمار فاحفظ ما أوصيك به؛ عم الأخبار، ولا ترع سمعك قريشًا أبدًا، ولا تردن أهل الشأم عن عدوهم، ولا تقميمن إلا ثلاثًا حتى تناجز ابن الزبير الفاسق؛ ثم قال: اللهم إني لم أعمل عملًا قط بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله أحب إلي من قتلي أهل المدينة، ولا أرجى عندي في الآخرة. ثم قال لبني مرة: زراعتي التي بحوران صدقةٌ على مرة، وما أغلقت عليه فلانة بابها فهو لها - يعني أم ولده - ثم مات.
ولما مات خرج حصين بن نمير بالناس، فقدم على ابن الزبير مكة وقد بايعه أهلها وأهل الحجاز.
قال هشام: قال عوانة: قال مسلم قبل الوصية: إن ابني يزعم أن أم ولدي هذه سقتني السم؛ وهو كاذب، هذا داءٌ يصيبنا في بطوننا أهل البيت. قال: وقدم عليه - يعني ابن الزبير - كل أهل المدينة، وقد قدم عليه نجدة بن عامر الحنفي في أناس من الخوارج يمنعون البيت، فقال لأخيه المنذر: ما لهذا الأمر ولدفع هؤلاء القوم غيري وغيرك - وأخوه المنذر ممن شهد الحرة، ثم لحق به - فجرد إليهم أخاه في الناس، فقاتلهم ساعةً قتالًا شديدًا. ثم إن رجلًا من أهل الشأم دعا المنذر إلى المبارزة - قال: والشأمي على بغلة له - فخرج إليه المنذر، فضرب كل واحد منهما صاحبه ضربةً خر صاحبه لها ميتًا، فجثا عبد الله بن الزبير على ركبتيه وهو يقول: يا رب أبرها من أصلها ولا تشدها، وهو يدعو على الذي بارز أخاه. ثم إن أهل الشأم شدوا عليهم شدةً منكرة، وانكشف أصحابه انكشافةً، وعثرت بغلته فقال: تعسًا! ثم نزل وصاح بأصحابه: إلي؛ فأقبل إليه المسور بن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، ومصعب بن عبد الرحمن ابن عوف الزهري، فقاتلوا حتى قتلوا جميعًا. وصابرهم ابن الزبير يجالدهم حتى الليل، ثم انصرفوا عنه؛ وهذا في الحصار الأول. ثم إنهم أقاموا عليه يقاتلونه بقية المحرم وصفر كله، حتى إذا مضت ثلاثة أيام من شهر ربيع الأول يوم السبت سنة أربع وستين قذفوا البيت بالمجانيق، وحرقوه بالنار، وأخذوا يرتجزون ويقولون:
خطارةٌ مثل الفنيق المزبد ** نرمي بها أعواد هذا المسجد
قال هشام: قال أبو عوانة: جعل عمرو بن حوط السدوسي يقول:
كيف ترى صنيع أم فروه ** تأخذهم بين الصفا والمروه
يعني بأم فروة المنجنيق.
وقال الواقدي: سار الحسين بن نمير حين دفن مسلم بن عقبة بالمشلل لسبع بقين من المحرم، وقدم مكة لأربع بقين من المحرم، فحاصر ابن الزبير أربعًا وستين يومًا حتى جاءهم نعي يزيد بن معاوية لهلال ربيع الآخر.
ذكر الخبر عن حرق الكعبة
وفي هذه السنة حرقت الكعبة.
ذكر السبب في إحراقها
قال محمد بن عمر: احترقت الكعبة يوم السبت لثلاث ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين قبل أن يأتي نعي يزيد بن معاوية بتسعة وعشرين يومًا، وجاء نعيه لهلال ربيع الآخر ليلة الثلاثاء.
قال محمد بن عمر: حدثنا رياح بن مسلم، عن أبيه، قال: كانوا يوقدون حول الكعبة، فأقبلت شررة هبت بها الريح، فاحترقت ثياب الكعبة، واحترق خشب البيت يوم السبت لثلاث ليال خلون من ربيع الأول.
قال محمد بن عمر: وحدثني عبد الله بن زيد، قال: حدثني عروة بن أذينة، قال: قدمت مكة مع أمي يوم احترقت الكعبة قد خلصت إليها النار، ورأيتها مجردة من الحرير، ورأيت الركن قد اسود وانصدع في ثلاثة أمكنة، فقلت: ما أصاب الكعبة؟ فأشاروا إلى رجل من أصحاب عبد الله بن الزبير، قالوا: هذا احترقت بسببه، أخذ قبسًا في رأس رمح له فطيرت الريح به، فضربت أستار الكعبة ما بين الركن اليماني والأسود.
ذكر خبر وفاة يزيد بن معاوية
وفيها هلك يزيد بن معاوية، وكانت وفاته بقرية من قرى حمص يقال لها حوارين من أرض الشأم، لأربع عشرة ليلةً خلت من ربيع الأول سنة أربع وستين وهو ابن ثمان وثلاثين سنةً في قول بعضهم.
حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا محمد بن يحيى، عن هشام بن الوليد المخزومي، أن الزهري كتب لجده أسنان الخلفاء، فكان فيما كتب من ذلك: ومات يزيد بن معاوية وهو ابن تسع وثلاثين؛ وكانت ولايته ثلاث سنين وستة أشهر في قول بعضهم، ويقال: ثمانية أشهر.
وحدثني أحمد بن ثابت عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، أنه قال: توفي يزيد بن معاوية يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وكانت خلافته ثلاث سنين وثمانية أشهر إلا ثمان ليالٍ، وصلى على يزيد ابنه معاوية بن يزيد.
وأما هشام بن محمد الكلبي فإنه قال في سن يزيد خلاف الذي ذكره الزهري؛ والذي قال هشام في ذلك - فيما حدثنا عنه -: استخلف أبو خالد يزيد ابن معاوية بن أبي سفيان وهو ابن اثنتين وثلاثين سنةً وأشهر في هلال رجب سنة ستين، وولي سنتين وثمانية أشهر، وتوفي لأربع عشرة ليلةً خلت من ربيع الأول سنة ثلاثٍ وستين وهو ابن خمس وثلاثين، وأمه ميسون بنت بحدل بن أنيف بن ولجة بن قنافة بن عدي بن زهير بن حارثة الكلبي.
ذكر عدد ولده
فمنهم معاوية بن يزيد بن معاوية، يكنى أبا ليلى، وهو الذي يقول فيه الشاعر:
إني أرى فتنةً قد حان أولها ** والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا
وخالد بن يزيد - وكان يكنى أبا هاشم، وكان يقال: إنه أصاب عمل الكيمياء - وأبو سفيان، وأمههما أم هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، تزوجها بعد يزيد مروان، وهي التي يقول لها الشاعر:
انعمي أم خالدٍ ** رب ساعٍ لقاعد
وعبد الله بن يزيد، قيل: إنه من أرمى العرب في زمانه، وأمه أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر، وهو الأسوار، وله يقول الشاعر:
زعم الناس أن خير قريش ** كلهم حين يذكر الأسوار
وعبد الله الأصغر، وعمر، وأبو بكر، وعتبة؛ وحرب، وعبد الرحمن، والربيع، ومحمد؛ لأمهات أولادٍ شتى.
خلافة معاوية بن يزيد
وفي هذه السنة بويع لمعاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بالشأم بالخلافة، ولعبد الله بن الزبير بالحجاز.
ولما هلك يزيد بن معاوية مكث الحصين بن نمير وأهل الشأم يقاتلون ابن الزبير وأصحابه بمكة - فيما ذكر هشام عن عوانة - أربعين يومًا، قد حصروهم حصارًا شديدًا، وضيقوا عليهم. ثم بلغ موته ابن الزبير وأصحابه، ولم يبلغ الحصين بن نمير وأصحابه؛ فحدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: حدثنا عبد العزيز بن خالد بن رستم الصنعاني أبو محمد قال: حدثنا زياد بن جيل، قال: بينا حصين بن نمير يقاتل ابن الزبير، إذ جاء موت يزيد؛ فصاح بهم ابن الزبير، فقال: إن طاغيتكم قد هلك، فمن شاء منكم أن يدخل فيما دخل فيه الناس فليفعل، فمن كره فليلحق بشأمه، فغدوا عليه يقاتلونه. قال: فقال ابن الزبير للحصين بن نمير: ادن مني أحدثك، فدنا منه فحدثه، فجعل فرس أحدهما يجفل - والجفل: الروث - فجاء حمام الحرم يلتقط من الجفل، فكف الحصين فرسه عنهن، فقال له ابن الزبير: ما لك؟ قال: أخاف أن يقتل فرسي حمام الحرم؛ فقال له ابن الزبير: أتتحرج من هذا وتريد أن تقتل المسلمين! فقال له: لا أقاتلك؛ فأذن لنا نطف بالبيت، وننصرف عنك، ففعل فانصرفوا.
وأما عوانة بن الحكم فإنه قال - فيما ذكر هشام، عنه - قال: لما بلغ ابن الزبير موت يزيد - وأهل الشأم لا يعلمون بذلك، قد حصروه حصارًا شديدًا وضيقوا عليه - أخذ يناديهم هو وأهل مكة: علام تقاتلون؟ قد هلك طاغيتكم؛ وأخذوا لا يصدقونه حتى قدم ثابت بن قيس بن المنقع النخعي من أهل الكوفة في رءوس أهل العراق، فمر بالحصين بن نمير - وكان له صديقًا، وكان بينهما صهر، وكان يراه عند معاوية، فكان يعرف فضله وإسلامه وشرفه - فسأل عن الخبر، فأخبره بهلاك يزيد، فبعث الحصين ابن نمير إلى عبد الله بن الزبير، فقال: موعد ما بيننا وبينك الليلة الأبطح، فالتقيا، فقال له الحصين: إن يك هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس بهذا الأمر؛ هلم فلنبايعك، ثم اخرج معي إلى الشأم، فإن هذا الجند الذين معي هم وجوه أهل الشأم وفرسانهم، فوالله لا يختلف عليك اثنان، وتؤمن الناس وتهدر هذه الدماء التي كانت بيننا وبينك، والتي كانت بيننا وبين أهل الحرة؛ فكان سعيد بن عمرو يقول: ما منعه أن يبايعهم ويخرج إلى الشأم إلا تطيرٌ، لأن مكة التي منعه الله بها؛ وكان ذلك من جند مروان، وإن عبد الله والله لو سار معهم حتى يدخل الشأم ما اختلف عليه منهم اثنان. فزعم بعض قريش أنه قال: أنا أهدر تلك الدماء! أما والله لا أرضى أن أقتل بكل رجل منهم عشرة، وأخذ الحصين يكلمه سرًا، وهو يجهر جهرًا، وأخذ يقول: لا والله لا أفعل؛ فقال له الحصين بن نمير: قبح الله من يعدك بعد هذه داهيًا قط أو أديبًا! قد كنت أظن أن لك رأيًا. ألا أراني أكلمك سرًا وتكلمني جهرًا، وأدعوك إلى الخلافة، وتعدني القتل والهلكة! ثم قام فخرج وصاح في الناس، فأقبل فيهم نحو المدينة، وندم ابن الزبير على الذي صنع، فأرسل إليه: أما أن أسير إلى الشأم فلست فاعلًا، وأكره الخروج من مكة، ولكن بايعوا لي هنالك فإني مؤمنكم وعادلٌ فيكم. فقال له الحصين: أرأيت إن لم تقدم بنفسك، ووجدت هنالك أناسًا كثيرًا من أهل هذا البيت يطلبونها يجيبهم الناس، فما أنا صانعٌ؟ فأقبل بأصحابه ومن معه نحو المدينة، فاستقبله علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ومعه قتٌّ وشعيرٌ، وهو على راحلة له، فسلم على الحصين، فلم يكد يلتفت إليه، ومع الحصين بن نمير فرسٌ له عتيق، وقد فني قته وشعيره، فهو غرضٌ، وهو يسب غلامه ويقول: من أين نجد هنا لدابتنا علفًا! فقال له علي بن الحسين: هذا علفٌ عندنا، فاعلف منه دابتك، فأقبل على عليٍّ عند ذلك بوجهه، فأمر له بما كان عنده من علف، واجترأ أهل المدينة وأهل الحجاز على أهل الشأم فذلوا حتى كان لا ينفرد منهم رجل إلا أخذ بلجام دابته ثم نكس عنها، فكانوا يجتمعون في معسكرهم فلا يفترقون. وقالت لهم بنو أمية: لا تبرحوا حتى تحملونا معكم إلى الشأم، ففعلوا، ومضى ذلك الجيش حتى دخل الشأم، وقد أوصيى يزيد بن معاوية بالبيعة لابنه معاوية ابن يزيد، فلم يلبث إلا ثلاثة أشهر حتى مات.
وحدثني عمر، عن علي بن محمد، قال: لما استخلف معاوية بن يزيد وجمع عمال أبيه، وبويع له بدمشق، هلك بها بعد أربعين يومًا من ولايته.
ويكنى أبا عبد الرحمن، وهو أبو ليلى، وأمه أم هاشم بنت أبي هاشم ابن عتبة بن ربيعة، وتوفي وهو ابن ثلاث عشرة سنةً وثمانية عشر يومًا.
وفي هذه السنة بايع أهل البصرة عبيد الله بن زياد، على أن يقوم لهم بأمرهم حتى يصطلح الناس على إمام يرتضونه لأنفسهم، ثم أرسل عبيد الله رسولًا إلى الكوفة يدعوهم إلى مثل الذي فعل من ذلك أهل البصرة، فأبوا عليه، وحصبوا الوالي الذي كان عليهم، ثم خالفه أهل البصرة أيضًا، فهاجت بالبصرة فتنة، ولحق عبيد الله بن زياد بالشأم.
ذكر الخبر عما كان من أمر عبيد الله بن زياد وأمر أهل البصرة معه بها بعد موت يزيد
وحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن الحسن، قال: كتب الضحاك ابن قيس إلى قيس بن الهيثم حين مات يزيد بن معاوية: سلامٌ عليك، أما بعد، فإن يزيد بن معاوية قد مات، وأنتم إخواننا، فلا تسبقونا بشيء حتى نختار لأنفسنا.
حدثني عمر، قال: حدثنا زهير بن حرب، قال: حدثنا وهب بن حماد، قال: حدثنا محمد بن أبي عيينة؛ قال: حدثني شهرك، قال: شهدت عبيد الله بن زياد حين مات يزيد بن معاوية قام خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
يا أهل البصرة، انسبوني، فوالله لتجدن مهاجر والدي ومولدي فيكم، وداري، ولقد وليتكم وما أحصى ديوان مقاتلتكم إلا سبعين ألف مقاتل ولقد أحصى اليوم ديوان مقاتلتكم ثمانين ألفًا، وما أحصى ديوان عمالكم إلا تسعين ألفًا، ولقد أحصي اليوم مائة وأربعين ألفًا، وما تركت لكم ذا ظنةٍ أخافه عليكم إلا وهو في سجنكم هذا. وإن أمير المؤمنين يزيد بن معاويةً قد توفي، وقد اختلف أهل الشأم، وأنتم اليوم أكثر عددًا، وأعرضه فناءً، وأغناه عن الناس، وأوسعه بلادًا، فاختاروا لأنفسكم رجلًا ترتضونه لدينكم وجماعتكم، فأنا أول راض من رضيتموه وتابع، فإن اجتمع أهل الشأم على رجل ترتضونه، دخلتم فيما دخل فيه المسلمون، وإن كرهتم ذلك كنتم عى جديلتكم حتى تعطوا حاجتكم، فما بكم إلى أحد من أهل البلدان حاجةٌ، وما يستغني الناس عنكم.
فقامت خطباء أهل البصرة فقالوا: قد سمعنا مقالتك أيها الأمير، وإنا والله ما نعلم أحدًا أقوى عليها منك، فهلم فلنبايعك؛ فقال: لا حاجة لي في ذلك، فاختاروا لأنفسكم؛ فأبوا عليه، وأبى عليهم، حتى كرروا ذلك عليه ثلاث مرات، فلما أبوا بسط يده فبايعوه، ثم انصرفوا بعد البيعة وهم يقولون: لا يظن ابن مرجانة أنا نستقاد له في الجماعة والفرقة، كذب والله! ثم وثبوا عليه.
حدثني عمر، قال زهير: قال: حدثنا وهب، قال: وحدثنا الأسود ابن شيبان، عن خالد بن سمير، أن شقيق بن ثور ومالك بن مسمع وحضين ابن المنذر أتوا عبيد الله ليلًا وهو في دار الإمارة، فبلغ ذلك رجلًا من الحي من بني سدوس؛ قال: فانطلقت فلزمت دار الإمارة، فلبثوا معه حتى مضى عليه الليل، ثم خرجوا ومعهم بغلٌ موقرٌ مالًا؛ قال: فأتيت حضينًا فقلت: مر لي من هذا المال بشيء - قال: وعلى المال مولىً له يقال له: أيوب - فقال: يا أيوب، أعطه مائة درهم؛ قلت: أما مائة درهم والله لا أقبلها، فسكت عني ساعةً، وسار هنيهة، فأقبلت عليه فقلت: مر لي من هذا المال بشيء، فقال: يا أيوب، أعطه مائتي درهم، قلت: لا أقبل والله مائتين، ثم أمر بثلثمائة ثم أربعمائة، فلما انتهينا إلى الطفاوة قلت: مر لي بشيء؛ قال: أرأيت إن لم أفعل ما أنت صانع؟ قلت: أنطلق والله حتى إذا توسطت دور الحي وضعت إصبعي في أذني، ثم صرخت بأعلى صوتي: يا معشر بكر بن وائل، هذا شقيق بن ثور وحضين بن المنذر ومالك بن المسمع، قد انطلقوا إلى ابن زياد، فاختلفوا في دمائكم؛ قال: ما له فعل الله به وفعل! ويلك أعطه خمسمائة درهم؛ قال: فأخذتها ثم صبحت غاديًا على مالك - قال وهب: فلم أحفظ ما أمر له به مالك - قال: ثم رأيت حضينًا فدخلت عليه، فقال: ما صنع ابن عمك؟ فأخبرته وقلت: أعطني من هذا المال؛ فقال: إنا قد أخذنا هذا المال ونجونا به، فلن نخشى من الناس شيئًا، فلم يعطني شيئًا.
قال أبو جعفر: وحدثني أبو عبيدة معمر بن المثنى أن يونس بن حبيب الجرمي حدثه، قال: لما قتل عبيد الله بن زياد الحسين بن علي رضي الله عنه وبني أبيه، بعث برءوسهم إلى يزيد بن معاوية، فسر بقتلهم أولًا، وحسنت بذلك منزلة عبيد الله عنده، ثم لم يلبث إلا قليلًا حتى ندم على قتل الحسين، فكان يقول: وما كان علي لو احتملت الأذى وأنزلته معي في داري، وحكمته فيما يريد، وإن كان علي في ذلك وكفٌ ووهنٌ في سلطاني، حفظًا لرسول الله ورعايةً لحقه وقرابته! لع الله ابن مرجانة، فإنه أخرجه واضطره، وقد كان سأله أن يخلى سبيله ويرجع فلم يفعل، أو يضع يده في يدي، أو يلحق بثغر من ثغور المسلمين، وزرع لي في قلوبهم العداوة، فبغضني البر والفاجر، بما استعظم الناس من قتلي حسينًا؛ مالي ولابن مرجانة لعنه الله وغضب عليه! ثم إن عبيد الله بعث مولىً يقال له أيوب بن حمران إلى الشأم ليأتيه بخبر يزيد، فركب عبد الله ذات يوم حتى إذا كان في رحبة القصابين، إذا هو بأيوب بن حمران قد قدم، فلحقه فأسر إليه موت يزيد بن معاوية، فرجع عبيد الله من مسيره ذلك فأتى منزله، وأمر عبد الله بن حصن أحد بني ثعلبة بن يربوع فنادى: الصلاة جامعة.
قال أبو عبيدة: وأما عمير بن معن الكاتب، فحدثني قال: الذي بعثه عبيد الله حمران مولاه، فعاد عبيد الله عبد الله بن نافع أخي زياد لأمه، ثم خرج عبيد الله ماشيًا من خوخة كانت في دار نافع إلى المسجد، فلما كان في صحته إذا هو بمولاه حمران أدنى ظلمة عند المساء - وكان حمران رسول عبيد الله بن زياد إلى معاوية حياته وإلى يزيد - فلما رآه ولم يكن آن له أن يقدم - قال: مهيم! قال: خيرٌ، قال: وما وراءك؟ قال: أدنو منك؟ قال: نعم - وأسر إليه موت يزيد واختلاف أمر الناس بالشأم، وكان يزيد مات يوم الخميس للنصف من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين - فأقبل عبيد الله من فوره، فأمر مناديًا فنادى: الصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس صعد المنبر فنعى يزيد، وعرض بثلبه لقصد يزيد إياه قبل موته حتى يخافه عبيد الله، فقال الأحنف لعبيد الله: إنه قد كانت ليزيد في أعناقنا بيعة، وكان يقال: أعرض عن ذي فنن، فأعرض عنه، ثم قام عبيد الله يذكر اختلاف أهل الشام، وقال: إني قد وليتكم.. ثم ذكر نحو حديث عمر بن شبة، عن زهير بن حرب إلى: فبايعوه عن رضًا منهم ومشورةٍ. ثم قال: فلما خرجوا من عنده جعلوا يمسحون أكفهم بباب الدار وحيطانه، ويقولون: ظن ابن مرجانة أنا نوليه أمرنا في الفرقة! قال: فأقام عبيد الله أميرًا غير كثير حتى جعل سلطانه يضعف، ويأمرنا بالأمر فلا يقضى، ويرى الرأي فيرد عليه، ويأمر بحبس المخطىء فيحال بين أعوانه وبينه.
قال أبو عبيدة: فسمعت غيلان بن محمد يحدث عن عثمان البتي، قال: حدثني عبد الرحمن نب جوشن، قال: تبعت جنازةً فلما كان في سوق الإبل إذا رجلٌ على فرس شهباء متقنعٌ بسلاح وفي يده لواء، وهو يقول: أيها الناس، هلموا إلي أدعكم إلى ما لم يدعكم إليه أحد، أدعوكم إلى العائذ بالحرم - يعني عبد الله بن الزبير. قال: فتجمع إليه نويس، فجعلوا يصفقون على يديه، ومضينا حتى صلينا على الجنازة، فلما رجعنا إذا هو قد انضم إليه أكثر من الأولين، ثم أخذ بين دار قيس بن الهيثم بن أسماء بن الصلت السلمي ودار الحارثيين قبل بني تميم في الطريق الذي يأخذ عليهم، فقال: ألا من أرادني فأنا سلمة بن ذؤيب - وهو سلمة بن ذؤيب بن عبد الله بن محكم بن زيد بن رياح بن يربوع بن حنظلة - قال: فلقيني عبد الرحمن بن بكر عند الرحبة، فأخبرته بخبر سلمة بعد رجوعي، فأتى عبد الرحمن عبيد الله فحدثه بالحديث عني، فبعث إلي، فأتيته، فقال: ما هذا الذي خبر به عنك أبو بحر؟ قال: فاقتصصت عليه القصة حتى أتيت على آخرها، فأمر فنودي على المكان: الصلاة جامعة، فتجمع الناس، فأنشأ عبيد الله يقص أمره وأمرهم، وما قد كان دعاهم إلى من يرتضونه، فيبايعه معهم، وإنكم أبيتم غيري، وإنه بلغني أنكم مسحتم أكفكم بالحيطان وباب الدار، وقلتم ما قلتم، وإني آمر بالأمر فلا ينفذ، ويرد علي رأيي، وتحول القبائل بين أعواني وطلبتي، ثم هذا سلمة بن ذؤيب يدعو إلى الخلاف عليكم، إرادة أن يفرق جماعتكم، ويضرب بعضكم جباه بعض بالسيف. فقال الأحنف صخر بن قيس ابن معاوية بن حصين بن عبادة بن النزال بن مرة بن عبيد بن الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، والناس جميعًا: نحن نأتيك بسلمة؛ فأتوا سلمة، فإذا جمعه قد كشف، وإذا الفتق قد اتسع على الراتق، وامتنع عليهم، فلما رأوا ذلك قعدوا عن عبيد الله بن زياد فلم يأتوه.
قال أبو عبيدة: فحدثني غير واحد، عن سبرة بن الجارود الهذلي، عن أبيه الجارود، قال: وقال عبيد الله في خطبته: يا أهل البصرة، والله لقد لبسنا الخز واليمنة واللين من الثياب حتى لقد أجمنا ذلك وأجمته جلودنا، فما بنا إلى أن نعقبها الحديد! يا أهل البصرة، والله لو اجتمعتم على ذنب عير لتكسروه وما كسرتموه. قال الجارود: فوالله ما رمي بجماح حتى هرب، فتوارى عند مسعود فلما قتل مسعود لحق بالشأم.
قال يونس: وكان في بيت مال عبيد الله يوم خطب الناس قبل خروج سلمة ثمانية آلاف ألف أو أقل - وقال علي بن محمد: تسعة عشر ألف ألف - فقال للناس: إن هذا فيئكم، فخذوا أعطياتكم وأرزاق ذراريكم منه، وأمر الكتيبة بتحصيل الناس وتخريج الأسماء، واستعجل الكتاب في ذلك حتى وكل بهم من يحبسهم بالليل في الديوان، وأسرجوا بالشمع. قال: فلما صنعوا ما صنعوا وقعدوا عنه، وكان من خلاف سلمة عليه ما كان، كف عن ذلك، ونقلها حين هرب، فهي إلى اليوم تردد في آل زياد، فيكون فيهم العرس أو المأتم فلا يرى في قريش مثلهم، ولا في قريش أحسن منهم في الغضارة والكسوة. فدعا عبيد الله رؤساء خاصة السلطان، فأرادهم أن يقاتلوا معه، فقالوا: إن أمرنا قوادنا قاتلنا معك، فقال إخوة عبيد الله لعبيد الله: والله ما من خليفة فتقاتل عنه فإن هزمت فئت إليه وإن استمددته أمدك، وقد علمت أن الحرب دول، فلا ندري لعلها تدول عليك، وقد اتخذنا بين أظهر هؤلاء اقوم أموالًا، فإن ظفروا أهلكونا وأهلكوها، فلم تبق لك باقية. وقال له أخوه عبد الله لأبيه وأمه مرجانة: والله لئن قاتلت القوم لأعتمدن على ظبة السيف حتى يخرج من صلبي. فلما رأى ذلك عبيد الله أرسل إلى حارث بن قيس بن صهبان بن عون بن علاج بن مازن بن أسود بن جهضم بن جذيمة بن مالك بن فهم، فقال له: يا حار، إن أبي كان أوصاني إن احتجت إلى الهرب يومًا أن أختاركم، وإن نفسي تأبى غيركم، فقال الحارث: قد أبلوك في أبيك ما قد علمت، وأبلوه فلم يجدوا عنده ولا عندك مكافأةً، وما لك مردٌّ إذا اخترتنا، وما أدري كيف أتاني لك إن أخرجتك نهارًا! إني أخاف ألا أصل بك إلى قومي حتى تقتل وأقتل، ولكني أقيم معك حتى إذا وارى دمسٌ دمسًا وهدأت القدم، ردفت خلفي لئلا تعرف، ثم أخذتك على أخوالي بني ناجية، قال عبيد الله: نعم ما رأيت، فأقام حتى إذا قيل: أخوك أم الذئب؛ حمله خلفه، وقد نقل تلك الأموال فأحرزها، ثم انطلق به يمر به على الناس، وكانوا يتحارسونه مخافة الحرورية فيسأل عبيد الله أين نحن؟ فيخبره؛ فلما كانوا في بني سليم قال عبيد الله: أين نحن؟ قال: في بني سليم؛ قال: سلمنا إن شاء الله، فلما أتى بني ناجية قال: أين نحن؟ قال: في بني ناجية؛ قال: نجونا إن شاء الله؛ فقال بنو ناجية: من أنت؟ قال: الحارث بن قيس؛ قالوا: ابن أختكم؛ وعرف رجل منهم عبيد الله فقال: ابن مرجانة! فأرسل سهمًا فوقع في عمامته، ومضى به الحارث حتى ينزله دار نفسه في الجهاضم، ثم مضى إلى مسعود بن عمرو بن عدي بن محارب بن صنيم بن مليح بن شرطان بن معن بن مالك بن فهم، فقالت الأزد ومحمد بن أبي عيينة، فلما رآه مسعود قال: يا حار، قد كان يتعوذ من سوء طوارق الليل، فنعوذ بالله من شر ما طرقتنا به؛ قال الحارث: لم أطرقك إلا بخير، وقد علمت أن قومك قد أنجوا زيادًا فوفوا له، فصارت لهم مكرمة في العرب يفتخرون بها عليهم، وقد بايعتم عبيد الله بيعة الرضا؛ رضًا عن مشورة، وبيعةً أخرى قد كانت في أعناقكم قبل البيعة - يعني بيعة الجماعة - فقال له مسعود: يا حار، أترى لنا أن نعادي أهل مصرنا في عبيد الله، وقد أبلينا في أبيه ما أبلينا، ثم لم نكافأ عليه، ولم نشكر! ما كنت أحسب أن هذا من رأيك؛ قال الحارث: إنه لا يعاديك أحد على الوفاء ببيعتك حتى تبلغه مأمنه.
قال أبو جعفر: وأما عمر فحدثني قال: حدثني زهير بن حرب، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا أبي، عن الزبير بن الخريت، عن أبي لبيد الجهضمي، عن الحارث بن قيس، قال: عرض نفسه - يعني عبيد الله بن زياد - علي، فقال: أما والله إني لأعرف سوء رأي كان في قومك؛ قال: فوقفت له، فأردفته على بغلتي - وذلك ليلًا - فأخذت على بني سليم، فقال: من هؤلاء؟ قلت: بنو سليم؛ قال: سلمنا إن شاء الله؛ ثم مررنا ببني ناجية وهم جلوسٌ ومعهم السلاح - وكان الناس يتحارسون إذ ذاك في مجالسهم - فقالوا: من هذا؟ قلت: الحارث بن قيس، قالوا: امض راشدًا، فلما مضينا قال رجل منهم: هذا والله ابن مرجانة خلفه، فرماه بسهم، فوضعه في كور عمامته، فقال: يا أبا محمد، من هؤلاء؟ قال: الذين كنت تزعم أنهم من قريش، هؤلاء بنو ناجية؛ قال: نجونا إن شاء الله، ثم قال: يا حارث، إنك قد أحسنت وأجملت، فهل أنت صانع ما أشير عليك؟ قد علمت منزلة مسعود بن عمرو في قومه وشرفه وسنه وطاعة قومه له، فهل لك أن تذهب بي إليه فأكون في داره، فهي وسط الأزد، فإنك إن لم تفعل صدع عليك أمر قومك؛ قلت: نعم؛ فانطلقت به، فما شعر مسعودٌ بشيء حتى دخلنا عليه وهو جالسٌ ليلتئذٍ يوقد بقضيب على لبنةٍ، وهو يعالج خفية قد خلع أحدهما وبقي الآخر، فلما نظر في وجوهنا عرفنا وقال: إنه كان يتعوذ من طوارق السوء، فقلت له: أفتخرجه بعد ما دخل عليك بيتك! قال: فأمره فدخل بيت عبد الغافر بن مسعود - وامرأة عبد الغافر يومئذ خيرة بنت خفاف بن عمرو - قال: ثم ركب مسعود من ليلته ومعه الحارث وجماعة من قومه، فطافوا في الأزد ومجالسهم، فقالوا: إن ابن زياد قد فقد، وإنا لا نأمن أن تلطخوا به، فأصبحوا في السلاح، وفقد الناس ابن زياد فقالوا: أين توجه؟ فقالوا: ما هو إلا في الأزد.
قال وهب: فحدثنا أبو بكر بن الفضل، عن قبيصة بن مروان أنهم جعلوا يقولون: أين ترون توجه؟ فقالت عجوز من بني عقيل: أين ترونه توجه! اندحس والله في أجمة أبيه.
وكانت وفاة يزيد حين جاءت ابن زياد وفي بيوت مال البصرة ستة عشر ألف ألف، ففرق ابن زياد طائفةً منها في بني أبيه، وحمل الباقي معه، وقد كا دعا البخارية إلى القتال معه، ودعا بني زياد إلى ذلك فأبوا عليه.
حدثني عمر، قال: حدثني زهير بن حرب، قال: حدثنا الأسود بن شيبان، عن عبد الله بن جرير المازني، قال: بعث إلي شقيق بن ثور فقال لي: إنه قد بلغني أن ابن منجوف هذا وابن مسمع يدلجان بالليل إلى دار مسعود ليردا ابن زياد إلى الدار ليصلوا بين هذين الغارين، فيهريقوا دماءكم، ويعزوا أنفسهم، ولقد هممت أن أبعث إلى ابن منجوف فأشده وثاقًا، وأخرجه عني؛ فاذهب إلى مسعود فاقرأ عليه السلام مني، وقل له: إن ابن منجوف وابن مسمع يفعلان كذا وكذا، فأخرج هذين الرجلين عنك. قال: وكان معه عبيد الله وعبد الله ابنا زياد. قال: فدخلت على مسعود وابنا زياد عنده: أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، فقلت: السلام عليك أبا قيس، قال: وعليك السلام؛ قلت: بعثني إليك شقيق بن ثور يقرأ عليك السلام ويقول لك: إنه بلغني، فرد الكلام بعينه إلى فأخرجهما عنك؛ قال مسعود: والله فعلت ذاك؛ فقال عبيد الله: كيف أبا ثور - ونسي كنيته، إنما كان يكنى أبا الفضل - فقال أخوه عبد الله: إنا والله لا نخرج عنكم، قد أجرتمونا، وعقدتم لنا ذمتكم، فلا نخرج حتى نقتل بين أظهركم، فيكون عارًا عليكم إلى يوم القيامة.
قال وهب: حدثنا الزبير بن الخريت، عن أبي لبيد، أن أهل البصرة اجتمعوا فقلدوا أمرهم النعمان بن صهبان الراسبي ورجلًا من مضر ليختارا لهم رجلًا فيولوه عليهم، وقالوا: من رضيتما لنا فقد رضيناه. وقال غير أبي لبيد: الرجل المضري في بني أمية، ورأي النعمان في بني هاشم، فقال النعمان: ما أرى أحدًا أحق بهذا الأمر من فلان - لرجل من بني أمية - قال: وذلك رأيك؟ قال: نعم؛ قال: قد قلدتك أمري، ورضيت من رضيت. ثم خرجا إلى الناس، فقال المضري: قد رضيت من رضي النعمان، فمن سمي لكم فأنا به راضٍ؛ فقالوا للنعمان: ما تقول! فقال: ما أرى أحدًا غير عبد الله ابن الحارث - وهو ببة - فقال المضري: ما هذا الذي سميت لي؟ قال: بلى، لعمري إنه لهو، فرضي الناس بعبد الله وبايعوه.
قال أصحابنا: دعت مضر إلى العباس بن الأسود بن عوف الزهري، ابن أخي عبد الرحمن بن عوف، ودعت اليمن إلى عبد الله بن الحارث بن نوفل، فتراضى الناس أن حكموا قيس بن الهيثم والنعمان بن صهبان الراسبي لينظرا في أمر الرجلين، فاتفق رأيهما على أن يوليا المضري الهاشمي إلى أن يجتمع أمر الناس على إمام؛ فقيل في ذلك:
نزعنا وولينا وبكر بن وائلٍ ** تجر خصاها تبتغي من تحالف
فلما أمروا ببه على البصرة ولى شرطته هميان بن عدي السدوسي.
قال أبو جعفر: وأما أبو عبيدة فإنه - فيما حدثني محمد بن علي، عن أبي سعدان، عنه - قص من خبر مسعود وعبيد الله بن زياد وأخيه غير القصة التي قصتها وهب بن جرير، عمن روى عنهم خبرهم، قال: حدثني مسلمة ابن محارب بن سلم بن زياد وغيره من آل زياد، عمن أدرك ذلك منهم ومن مواليهم والقوم أعلم بحديثهم، أن الحارث بن قيس لم يكلم مسعودًا، ولكنه آمن عبيد الله، فحمل معه مائة ألف درهم، ثم أتى بها إلى أم بسطام امرأة مسعود، وهي بنت عمه، ومعه عبيد الله وعبد الله ابنا زياد، فاستأذن عليها، فأذنت له، فقال لها الحارث: قد أتيتك بأمر تسودين به نساءك وتتمين به شرف قومك، وتعجلين غنىً ودنيا لك خاصة، هذه مائة ألف درهم فاقبضيها، فهي لك، وضمي عبيد الله. قالت، إني أخاف ألا يرضي مسعود بذلك ولا يقبله؛ فقال الحارث: ألبسيه ثوبًا من أثوابي، وأدخليه بيتك، وخلي بيننا وبين مسعود؛ فقبضت المال، وفعلت، فلما جاء مسعود أخبرته، فأخذ براسها، فخرج عبيد الله والحارث من حجلتها عليه، فقال عبيد الله: قد أجارتني ابنة عمك عليك، وهذا ثوبك علي، وطعامك في بطني، وقد التف علي بيتك؛ وشهد له على ذلك الحارث، وتلطفا له حتى رضي.
قال أبو عبيدة: وأعطى عبيد الله الحارث نحوًا من خمسين ألفًا، فلم يزل عبيد الله في بيت مسعود حتى قتل مسعود؛ قال أبو عبيدة: فحدثني يزيد بن سمير الجرمي، عن سوار بن عبد الله بن سعيد الجرمي؛ قال: فلما هرب عبيد الله غبر أهل البصرة بغير أمير، فاختلفوا فيمن يؤمرون عليهم، ثم تراضوا برجلين يختاران لهم خيرة، فيرضون بها إذا اجتمعا عليها، فتراضوا بقيس بن الهيثم السلمي، وبنعمان بن سفيان الراسبي - راسب بن جرم ابن ربان بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة - أن يختاروا من يرضيان لهم، فذكرا عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب - وأمه هند بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية - وكان يلقب ببة، وهو جد سليمان ابن عبد الله بن الحارث، وذكرا عبد الله بن الأسود الزهري. فلما أطبقا عليهما اتعدا المربد، وواعدا الناس أن تجتمع آراؤهم على أحد هذين.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 4 (0 من الأعضاء و 4 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)