يا عبيدة بن هلال، صف لهذا الإنسان ومن معه أمرنا الذي نحن عليه، والذي ندعو الناس إليه، فتقدم عبيدة بن هلال.
قال هشام: قال أبو مخنف: وحدثني أبو علقمة الخثعمي، عن قبيصة بن عبد الرحمن القحافي، من خثعم، قال: أنا والله شاهدٌ عبيدة بن هلال، إذ تقدم فتكلم، فما سمعت ناطقًا قط ينطق كان أبلغ ولا أصوب قولًا منه، وكان يرى رأي الخوارج.
قال: وإن كان ليجمع القول الكثير، في المعنى الخطير، في اللفظ اليسير.
قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن الله بعث محمدًا يدعو إلى عبادة الله، وإخلاص الدين، فدعا إلى ذلك، فأجابه المسلمون، فعمل فيهم بكتاب الله وأمره، حتى قبضه الله إليه صلى الله عليه، واستخلف الناس أبا بكر، واستخلف الناس أبا بكر، واستخلف أبو بكر عمر، فكلاهما عمل بالكتاب وسنة رسول الله، فالحمد لله رب العالمين. ثم إن الناس استخلفوا عثمان بن عفان، فحمي الأحماء، وآثر القربى، واستعمل الفتى ورفع الدرة، ووضع السوط، ومزق الكتاب، وحقر المسلم وضرب منكري الجور، وآوى طريد الرسول صلى الله عليه، وضرب السابقين بالفضل، وسيرهم وحرمهم، ثم أخذ فيء الله الذي أفاءه عليهم فقسمه بين فساق قريش، ومجان العرب، فسارت إليه طائفةٌ من المسلمين أخذ الله ميثاقهم على طاعته، لا يبالون في الله لومة لائم، فقتلوه، فنحن لهم أولياء، ومن ابن عفان وأوليائه برآء، فما تقول أنت يابن الزبير؟ قال: فحمد الله ابن الزبير وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فقد فهمت الذي ذكرتم، وذكرت به النبي ، فهو كما قلت صلى الله عليه وفوق ما وصفته، وفهمت ما ذكرت به أبا بكر وعمر، وقد وفقت وأصبت، وقد فهمت الذي ذكرت به عثمان بن عفان رحمة الله عليه، وإني لا أعلم مكان أحد من خلق الله اليوم أعلم بابن عفان وأمره مني، كنت معه حيث نقم القوم عليه، واستعتبوه فلم يدع شيئًا استعتبه القوم فيه إلا أعتبهم منه. ثم إنهم رجعوا إليه بكتاب له يزعمون أنه كتبه فيهم، يأمر فيه بقتلهم فقال لهم: ما كتبته، فإن شئتم فهاتوا بينتكم؛ فإن لم تكن حلفت لكم؛ فوالله ما جاءوه ببينة، ولا استحلفوه. ووثبوا عليه فقتلوه، وقد سمعت ما عبته به، فليس كذلك، بل هو لكل خيرٍ أهل، وأنا أشهدكم ومن حضر أني وليٌّ لابن عفان في الدنيا والآخرة، وولي أوليائه، وعدو أعدائه، قالوا: فبرىء الله منك يا عدو الله؛ قال: فبرىء الله منكم يا أعداء الله.
وتفرق القوم، فأقبل نافع بن الأزرق الحنظلي، وعبد الله بن صفار السعدي من بني صريم بن مقاعس، وعبد الله بن إباض أيضًا من بني صريم، وحنظلة بن بيهس، وبنو الماحوز: عبد الله، وعبيد الله، والزبير، من بني سليط ابن يربوع، حتى أتوا البصرة، وانطلق أبو طالوت من بني زمان بن مالك بن صعب بن علي بن مالك بن بكر بن وائل وعبد الله بن ثور أبو فديك من بني قيس بن ثعلبة وعطية بن الأسود اليشكري إلى اليمامة، فوثبوا باليمامة مع أبي طالوت، ثم أجمعوا بعد ذلك على نجدة ابن عامر الحنفي، فأما البصريون منهم فإنهم قدموا البصرة وهم مجمعون على رأي أبي بلال.
قال هشام: قال أبو مخنف لوط بن يحيى: فحدثني أبو المثنى، عن رجل من إخوانه من أهل البصرة، أنهم اجتمعوا فقالت العامة منهم: لو خرج منا خارجون في سبيل الله، فقد كانت منا فترة منذ خرج أصحابنا، فيقوم علماؤنا في الأرض فيكونون عند الله أحياء.
فانتدب لها نافع بن الأزرق، فاعتقد على ثلثمائة رجل، فخرج، وذلك عود وثوب الناس بعبيد الله بن زياد، وكسر الخوارج أبواب السجون وخروجهم منها، واشتغل الناس بقتال الأزد وربيعة وبني تميم وقيس في دم مسعود بن عمرو، فاغتنمت الخوارج اشتغال الناس بعضهم ببعض، فتهيئوا واجتمعوا، فلما خرج نافع بن الأزرق تبعوه، واصطلح أهل البصرة على عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب يصلي بهم، وخرج ابن زياد إلى الشأم، واصطلحت الأزد وبنو تميم، فتجرد الناس للخوارج، فاتبعوهم وأخافوهم حتى خرج من بقي منهم بالبصرة، فلحق بابن الأزرق، إلا قليلًا منهم ممن لم يكن أراد الخروج يومه ذلك، منهم عبد الله بن صفار، وعبد الله ابن إباض، ورجالٌ معهما على رأيهما. ونظر نافع بن الأزرق ورأى أن ولاية من تخلف عنه لا تبتغي، وأن من تخلف عنه لا نجاة له، فقال لأصحابه: إن الله قد أكرمكم بمخرجكم، وبصركم ما عمي عنه غيركم؛ ألستم تعلمون أنكم إنما خرجتم تطلبون شريعته وأمره! فأمره لكم قائد، والكتاب لكم إمام، وإنما تتبعون سننه وأثره، فقالوا: بلى؛ فقال: أليس حكمكم في وليكم حكم النبي في وليه، وحكمكم في عدوكم حكم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في عدوه، وعدوكم اليوم عدو الله وعدو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كما أن عدو النبي يومئذ هو عدو الله وعدوكم اليوم! فقالوا: نعم؛ قال: فقد أنزل الله تبارك وتعالى: " براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ".
وقال: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن "، فقد حرم الله ولايتهم، والمقام بين أظهرهم، وإجازة شهادتهم، وأكل ذبائحهم وقبول علم الدين عنهم، ومناكحتهم، ومواريثهم، وقد احتج الله علينا بمعرفة هذا، وحق علينا أن نعلم هذا الدين الذين خرجنا من عندهم، ولا نكتم ما أنزل الله، والله عز وجل يقول: " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون "، فاستجاب له إلى هذا الرأي جميع أصحابه.
فكتب: من عبيد الله نافع بن الأزرق إلى عبد الله بن صفار وعبد اله ابن إباض ومن قبلهما من الناس. سلامٌ على أهل طاعة الله من عباد الله، فإن من الأمر كيت وكيت؛ فقص هذه القصة، ووصف هذه الصفة، ثم بعث بالكتاب إليهما. فأتيا به، فقرأه عبد الله بن صفار، فأخذه فوضعه خلفه، فلم يقرأه على الناس خشية أن يتفرقوا ويختلفوا، فقال له عبد الله بن إباض: ما لك لله أبوك! أي شيء أصبت! أأن قد أصيب إخواننا، أو أسر بعضهم! فدفع الكتاب إليه، فقرأه، فقال: قاتله الله!، أي رأي رأى! صدق نافع ابن الأزرق، لو كان القوم مشركين كان أصوب الناس رأيًا وحكمًا فيما يشير به، وكانت سيرته كسيرة النبي في المشركين، ولكنه قد كذب وكذبنا فيما يقول، إن القوم كفار بالنعم والأحكام، وهم برآء من الشرك، ولا تحل لنا إلا دماؤهم، وما سوى ذلك من أموالهم فهو علينا حرام؛ فقال ابن صفار: برىء الله منك، فقد قصرت، وبرىء الله من ابن الأزرق فقد غلا، برىء الله منكما جميعًا؛ وقال الآخر: فبرى الله منك ومنه.
وتفرق القوم، واشتدت شوكة ابن الأزرق، وكثرت جموعه، وأقبل نحو البصرة حتى دنا من الجسر، فبعث إليه عبد الله بن الحارث مسلم بن عبيس بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف في أهل البصرة.
ذكر الخبر عن مقدم المختار بن أبي عبيد الكوفة

قال أبو جعفر: وفي النصف من شهر رمضان من هذه السنة كان مقدم المختار بن أبي عبيد الكوفة.
ذكر الخبر عن سبب مقدمه إليها
قال هشام بن محمد الكلبي: قال أبو مخنف: قال النضر بن صالح: كانت الشيعة تشتم المختار وتعتبه لما كان منه في أمر الحسن بن علي يوم طعن في مظلم ساباط، فحمل إلى أبيض المدائن، حتى إذا كان زمن الحسين، وبعث الحسين مسلم بن عقيل إلى الكوفة، نزل دار المختار، وهي اليوم دار سلم بن المسيب، فبايعه المختار بن أبي عبيد فيمن بايعه من أهل الكوفة، وناصحه ودعا إليه من أطاعه، حتى خرج ابن عقيل يوم خرج والمختار في قرية له بخطرنية تدعى لقفا، فجاءه خبر ابن عقيل عند الظهر أنه قد ظهر بالكوفة، فلم يكن خروجه يوم خرج على ميعاد من أصحابه، إنما خرج حين قيل له: إن هانىء بن عروة المرادي قد ضرب وحبس، فأقبل المختار في موالٍ له حتى انتهى إلى باب الفيل بعد الغروب، وقد عقد عبيد الله بن زياد لعمرو بن حريث راية على جميع الناس، وأمره أن يقعد لهم في المسجد، فلما كان المختار وقف على باب الفيل مر به هانىء بن أبي حية الوادعي، فقال للمختار: ما وقوفك ها هنا! لا أنت مع الناس، ولا أنت في رحلك؛ قال: أصبح رأيي مرتجًا لعظم خطيئتكم؛ فقال له: أظنك والله قاتلًا نفسك، ثم دخل على عمرو بن حريث فأخبره بما قال للمختار وما رد عليه المختار.
قال أبو مخنف: فأخبرني النضر بن صالح، عن عبد الرحمن بن أبي عمير الثقفي؛ قال: كنت جالسًا عند عمرو بن حريث حين بلغه هانىء بن أبي حية عن المختار هذه المقالة، فقال لي: قم إلى ابن عمك فأخبره أن صاحبه لا يدري أين هو! فلا يجعلن على نفسه سبيلًا، فقمت لآتيه، ووثب إليه زائدة بن قدامة بن مسعود، فقال له: يأتيك على أنه آمن؟ فقال له عمرو بن حريث: أما مني فهو آمن، وإن رقي إلى الأمير عبيد الله بن زياد شيء من أمره أقمت له بمحضره الشهادة، وشفعت له أحسن الشفاعة، فقال له زائدة بن قدامة: لا يكونن مع هذا إن شاء الله إلا خيرٌ.
قال عبد الرحمن: فخرجت، وخرج معي زائدة إلى المختار، فأخبرناه بمقالة ابن أبي حية وبمقالة عمرو بن حريث، وناشدناه بالله ألا يجعل على نفسه سبيلًا، فنزل إلى ابن حريث، فسلم عليه، وجلس تحت رايته حتى أصبح، وتذاكر الناس أمر المختار وفعله، فمشى عمارة بن عقبة بن أبي معيط بذلك إلى عبيد الله بن زياد، فذكر له، فلما ارتفع النهار فتح باب عبيد الله ابن زياد وأذن للناس، فدخل المختار فيمن دخل، فدعاه عبيد الله، فقال له: أنت المقبل في الجموع لتنصر ابن عقيل! فقال له: لم أفعل، ولكني أقبلت ونزلت تحت راية عمرو بن حريث، وبت معه وأصبحت، فقال له عمرو: صدق أصلحك الله! قال: فرفع القضيب، فاعترض به وجه المختار فخبط به عينه فشترها وقال: أولى لك! أما والله لولا شهادة عمرو لك لضربت عنقك؛ انطلقوا به إلى السجن فانطلقوا به إلى فحبس فيه فلم يزل في السجن حتى قتل الحسين. ثم إن المختار بعث إلى زائدة بن قدامة، فسأله أن يسير إلى عبد الله بن عمر بالمدينة فيسأله أن يكتب له إلى يزيد بن معاوية، فيكتب إلى عبيد الله بن زياد بتخلية سبيله، فركب زائدة إلى عبد الله بن عمر فقدم عليه، فبلغه رسالة المختار، وعلمت صفية أخت المختار بمحبس أخيها وهي تحت عبد الله بن عمر، فبكت وجزعت، فلما رأى ذلك عبد الله بن عمر كتب مع زائدة إلى يزيد بن معاوية: أما بعد، فإن عبيد الله بن زياد حبس المختار، وهو صهري، وأنا أحب أن يعافى ويصلح من حاله، فإن رأيت رحمنا الله وإياك أن تكتب إلى ابن زياد فتأمره بتخليته فعلت. والسلام عليك.
فمضى زائدة على رواحله بالكتاب حتى قدم به على يزيد بالشأم، فلما قرأه ضحك ثم قال: يشفع أبو عبد الرحمن، وأهل ذلك هو. فكتب له إلى ابن زياد: أما بعد، فخل سبيل المختار بن أبي عبيد حين تنظر في كتابي، والسلام عليك.