قال: فحمل علينا ربيعة بن المخارق حملةً منكرة، فاقتتلنا قتالًا شديدًا. ثم إنه اختلف هو وعبد الله بن سعد بن نفيل ضربتين، فلم يصنع سيفاهما شيئًا، واعتنق كل واحد منهما صاحبه، فوقعا إلى الأرض، ثم قاما فاضطربا، ويحمل ابن أخي ربيعة بن المخارق على عبد الله بن سعد، فطعنه في ثغرة نحره، فقتله، ويحمل عبد الله بن عوف بن الأحمر على ربيعة بن المخارق، فطعنه فصرعه. فلم يصب مقتلًا؛ فقام فكر عليه الثانية، فطعنه أصحاب ربيعة فصرعوه؛ ثم إن أصحابه استنقذوه. وقال خالد بن سعد بن نفيل: أروني قاتل أخي، فأريناه ابن أخي ربيعة بن المخارق؛ فحمل عليه فقنعه بالسيف واعتنقه الآخر فخر إلى الأرض، فحمل أصحابه وحملنا، وكانوا أكثر منا فاستنقذوا صاحبهم، وقتلوا صاحبنا، وبقيت الراية ليس عندها أحدٌ. قال: فنادينا عبد الله بن والٍ بعد قتلهم فرساننا، فإذا هو قد استلحم في عصابة معه إلى جانبنا، فحمل عليه رفاعة بن شداد، فكشفهم عنه، ثم أقبل إلى رايته وقد أمسكها عبد الله بن خازم الكثيري، فقال لابن وال: أمسك عني رايتك؛ قال: امسكها عني رحمك الله، فإني بي مثل حالك فقال له: أمسك عني رايتك، فإني أريد أن أجاهد؛ قال: فإن هذا الذي أنت فيه جهاد وأجر؛ قال: فصحنا: يا أبا عزة، أطع أميرك يرحمك الله! قال: فأمسكها قليلًا، ثم إن ابن والٍ أخذها منه.
قال أبو مخنف: قال أبو الصلت التيمي الأعور: حدثني شيخ للحي كان معه يومئذ، قال: قال لنا ابن وال: من أراد الحياة التي ليس بعدها موت، والراحة التي ليس بعدها نصبٌ، والسرور الذي ليس بعده حزنٌ، فليتقرب إلى ربه بجهاد هؤلاء المحلين، والرواح إلى الجنة رحمكم الله! وذلك عند العصر؛ فشد عليهم، وشددنا معه، فأصبنا والله منهم رجالًا، وكشفناهم طويلًا، ثم إنهم بعد ذلك تعطفوا علينا من كل جانب، فحازونا حتى بلغوا بنا المكان الذي كنا فيه، وكنا بمكان لا يقدرون أن يأتونا فيه إلا من وجه واحد، وولي قتالنا عند المساء أدهم بن محرز الباهلي؛ فشد علينا في خيله ورجاله، فقتل عبد الله بن وال التيمي.
قال أبو مخنف، عن فروة بن لقيط، قال: سمعت أدهم بن محرز الباهلي في إمارة الحجاج بن يوسف وهو يحدث ناسًا من أهل الشأم، قال: دفعت إلى أحد أمراء العراق؛ رجل منهم يقولون له عبد الله بن وال وهو يقول: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون، فرحين.. "، الآيات الثلاث، قال: فغاظني، فقلت في نفسي: هؤلاء يعدوننا بمنزلة أهل الشرك، يرون أن من قتلنا منهم كان شهيدًا. فحملت عليه أضرب يده اليسرى فأطنتها، وتنحيت قريبًا، فقلت له: أما إني أراك وددت أنك في أهلك، فقال: بئسما رأيت! أما والله ما أحب أنها يدك الآن إلا أن يكون لي فيها من الأجر مثل ما في يدي؛ قال: فقلت له: لم؟ قال: لكيما يجعل الله عليك وزرها، ويعظم لي أجرها؛ قال: فغاظني فجمعت خيلي ورجالي؛ ثم حملنا عليه وعلى أصحابه، فدفعت إليه فطعنته فقتلته، وإنه لمقبل إلي ما يزول؛ فزعموا بعد أنه كان من فقهاء أهل العراق الذين كانوا يكثرون الصوم والصلاة ويفتون الناس.
قال أبو مخنف: وحدثني الثقة، عن حميد بن مسلم وعبد الله بن غزية قال: لما هلك عبد الله بن والٍ نظرنا، فإذا عبد الله بن خازم قتيل إلى جنبه، ونحن نرى أنه رفاعة بن شداد البجلي، فقال له رجل من بني كنانة يقال له الوليد بن غضين: أمسك رايتك؛ قال: لا أريدها؛ فقلت له: إنا لله! ما لك! فقال: ارجعوا بنا لعل الله يجمعنا ليوم شر لهم، فوثب عبد الله بن عوف بن الأحمر إليه، فقال: أهلكتنا، والله لئن انصرفت ليركبن أكتافنا فلا نبلغ فرسخًا حتى نهلك من عند آخرنا، فإن نجا منا ناج أخذه الأعراب وأهل القرى، فتقربوا إليهم به فيقتل صبرًا، أنشدك الله أن تفعل، هذه الشمس قد طفلت للمغيب، وهذا الليل قد غشينا، فنقاتلهم على خيلنا هذه فإنا الآن ممتنعون، فإذا غسق الليل ركبنا خيولنا أول الليل فرمينا بها، فكان ذلك الشأن حتى نصبح ونسير ونحن على مهل، فيحمل الرجل منا جريحه وينتظر صاحبه. وتسير العشرة معًا، ويعرف الناس الوجه الذي يأخذون، فيتبع فيه بعضهم بعضا. ولو كان الذي ذكرت لم تقف أمٌّ على ولدها، ولم يعرف رجل وجهه، ولا أين يسقط، ولا أين يذهب! ولم نصبح إلا ونحن بين مقتول ومأسور. فقال له رفاعة بن شداد: فإنك نعم ما رأيت. قال: ثم أقبل رفاعة على الكناني فقال له: أتمسكها أم آخذها منك؟ فقال له الكناني: إني لا أريد ما تريد، إني أريد لقاء ربي، واللحاق بإخواني، والخروج من الدنيا إلى الآخرة، وأنت تريد ورق الدنيا، وتهوى البقاء، وتكره فراق الدنيا، أما والله إني لأحب لك أن ترشد، ثم دفع إليه الراية، وذهب ليستقدم. فقال له ابن أحمر: قاتل معنا ساعةً رحمك الله ولا تلق بيدك إلى التهلكة، فما زال به يناشده حتى احتبس عليه، وأخذ أهل الشأم يتنادون: إن الله قد أهلكهم؛ فأقدموا عليهم فافرغوا منهم قبل الليل. فأخذوا يقدمون عليهم، فيقدمون على شوكة شديدة؛ ويقاتلون فرسانًا شجعانًا ليس فيهم سقط رجل، وليسوا بمضجرين فيتمكنوا منهم، فقاتلوهم حتى العشاء قتالًا شديدًا، وقتل الكناني قبل المساء، وخرج عبد الله بن عزيز الكندي ومعه ابنه محمد غلام صغير، فقال: يا أهل الشأم، هل فيكم أحدٌ من كندة؟ فخرج إليه منهم رجال، فقالوا: نعم، نحن هؤلاء. فقال لهم: دونكم أخوكم فابعثوا به إلى قومكم بالكوفة، فأنا عبد الله بن عزيز الكندي، فقالوا له: أنت ابن عمنا، فإنك آمن؛ فقال لهم: والله لا أرغب عن مصارع إخواني الذين كانوا للبلاد نورًا، وللأرض أوتادًا، وبمثلهم كان الله يذكر؛ قال: فأخذ ابنه يبكي في أثر أبيه، فقال: يا بني، لو أن شيئًا كان آثر عندي من طاعة ربي إذًا لكنت أنت، وناشده قومه الشاميون لما رأوا من جزع ابنه وبكائه في أثره، وأروا الشأميون له ولابنه رقة شديدة حتى جزعوا وبكوا، ثم اعتزل الجانب الذي خرج إليه منه قومه، فشد على صفهم عند المساء، فقاتل حتى قتل.
قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج، قال: حدثني مسلم بن زحر الخولاني، أن كريب بن زيد الحميري مشى إليهم عند المساء ومعه راية بلقاء في جماعة، قلما تنقص من مائة رجل إن نقصت، وقد كانوا تحدثوا بما يريد رفاعة أن يصنع إذا أمسى، فقام لهم الحميري وجمع إليه رجالًا من حمير وهمدان، فقال: عباد الله! روحوا إلى ربكم، والله ما في شيء من الدنيا خلف من رضاء الله والتوبة إليه، إنه قد بلغني أن طائفة منكم يريدون أن يرجعوا إلى ما خرجوا منه إلى دنياهم، وإن هم ركنوا إلى دنياهم رجعوا إلى خطاياهم، فأما أنا فوالله لا أولي هذا العدو ظهري حتى أرد موارد إخواني؛ فأجابوه وقالوا: رأينا مثل رأيك، ومضى برايته حتى دنا من القوم، فقال ابن ذي الكلاع: والله إني لأرى هذه الراية حميرية أو همدانية، فدنا منهم فسألهم، فأخبروه، فقال لهم: إنكم آمنون. فقال له صاحبهم: إنا قد كنا آمنين في الدنيا، وإنما خرجنا نطلب أمان الآخرة؛ فقاتلوا القوم حتى قتلوا، ومشى صخير بن حذيفة بن هلال بن مالك المزني في ثلاثين من مزينة، فقال لهم: لا تهابوا الموت في الله، فإنه لاقيكم، ولا ترجعوا إلى الدنيا التي خرجتم منها إلى الله فإنها لا تبقى لكم، ولا تزهدوا فيما رغبتم فيه من ثواب الله فإن ما عند الله خيرٌ لكم؛ ثم مضوا فقاتلوا حتى قتلوا، فلما أمسى الناس ورجع أهل الشأم إلى معسكرهم، نطر رفاعة إلى كل رجل قد عقر به، وإلى كل جريح لا يعين على نفسه؛ فدفعه إلى قومه، ثم سار بالناس ليلته كلها حتى أصبح بالتنينير فعبر الخابور، وقطع المعابر، ثم مضى لا يمر بمعبر إلا قطعه، وأصبح الحصين بن نمير فبعث فوجدهم قد ذهبوا، فلم يبعث في آثارهم أحدًا، وسار بالناس فأسرع، وخلف رفاعة وراءهم أبا الجويرية العبدي في سبعين فارسًا يسترون الناس؛ فإذا مروا برجل قد سقط حمله، أو بمتاع قد سقط قبضه حتى يعرفه، فإن طلب أو ابتغى بعث إليه فأعلمه، فلم يزالوا كذلك حتى مروا بقرقيسيا من جانب البر، فبعث إليهم زفر من الطعام والعلف مثل ما كان بعث إليهم في المرة الأولى، وأرسل إليهم الأطباء وقال: أقيموا عندنا ما أحببتم، فإن الكرامة والمواساة؛ فأقاموا ثلاثًا، ثم زود كل امرىء منهم ما أحب من الطعام والعلف؛ قال: وجاء سعد بن حذيفة بن اليمان حتى انتهى إلى هيت، فاستقبله الأعراب فأخبروه بما لقي الناس، فانصرف، فتلقى المثنى بن مخربة العبدي بصندوداء، فأخبره، فأقاموا حتى جاءهم الخبر: إن رفاعة قد أظلكم، فخرجوا حتى دنا من القرية، فاستقبلوه فسلم الناس بعضهم على بعض، وبكى بعضهم إلى بعض، وتناعوا إخوانهم فأقاموا بها يومًا وليلة؛ فانصرف أهل المدائن إلى المدائن، وأهل البصرة إلى البصرة، وأقبل أهل الكوفة إلى الكوفة، فإذا المختار محبوس.
قال هشام: قال أبو مخنف، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أدهم بن محرز الباهلي، أنه أتى عبد الملك بن مروان ببشارة الفتح، قال: فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن الله قد أهلك من رءوس أهل العراق ملقح فتنة، ورأس ضلالة، سليمان بن صرد، ألا وإن السيوف تركت رأس المسيب بن نجبة خذاريف، ألا وقد قتل الله من رءوسهم رأسين عظيمين ضالين مضلين: عبد الله بن سعد أخا الأزد، وعبد الله بن وال أخا بكر بن وائل، فلم يبق بعد هؤلاء أحدٌ عنده دفاع ولا امتناع.
قال هشام، عن أبي مخنف: وحدثت أن المختار مكث نحوًا من خمس عشرة ليلةً، ثم قال لأصحابه: عدوا لغازيكم هذا أكثر من عشر، ودون الشهر. ثم يجيئكم نبأ هتر، من طعن نتر، وضرب هبرن وقتل جم، وأمر رجم. فمن لها؟ أنا لها، لا تكذبن، أنا لها.
قال أبو مخنف: حدثنا الحصين بن يزيد، عن أبان بن الوليد، قال: كتب المختار وهو في السجن إلى رفاعة بن شداد حين قدم من عين الوردة: أما بعد، فمرحبًا بالعصب الذين أعظم الله لهم الأجر حين انصرفوا، ورضي انصرافهم حين قفلوا. أما ورب البنية التي بنى ما خطا خاطٍ منكم خطوةً، ولا رتا رتوة، إلا كان ثواب الله له أعظم من ملك الدنيا. إن سليمان قد قضى ما عليه، وتوفاه الله فجعل روحه مع أرواح الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ولم يكن بصاحبكم الذي به تنصرون، إني أنا الأمير المأمور، والأمين المأمون، وأمير الجيش، وقاتل الجبارين، والمنتقم من أعداء الدين، والمقيد من الأوتار، فأعدوا واستعدوا، وأبشروا واستبشروا؛ أدعوكم إلى كتاب الله، وسنة نبيه ، وإلى الطلب بدماء أهل البيت والدفع عن الضعفاء، وجهاد المحلين؛ والسلام.
قال أبو مخنف: وحدثني أبو زهير العبسي، أن الناس تحدثوا بهذا من أمر المختار، فبلغ ذلك عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد، فخرجا في الناس حتى أتيا المختار، فأخذاه.
قال أبو مخنف: فحدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم قال: لما تهيأنا للانصراف قام عبد الله بن غزية ووقف على القتلى فقال: يرحمكم الله، فقد صدقتم وصبرتم، وكذبنا وفررنا؛ قال: فلما سرنا وأصبحنا إذا عبد الله بن غزية في نحو من عشرين قد أرادوا الرجوع إلى العدو والاستقتال، فجاء رفاعة وعبد الله بن عوف بن الأحمر وجماعة من الناس فقالوالهم: ننشدكم الله ألا تزيدونا فلولًا ونقصانًا، فإنا لا نزال بخير ما كان فينا مثلكم من ذوي النيات، فلم يزالوا بهم كذلك يناشدونهم حتى ردوهم غير رجل من مزينة يقال له عبيدة بن سفيان، رحل مع الناس، حتى إذا غفل عنه انصرف حتى لقي أهل الشأم، فشد بسيفه يضاربهم حتى قتل.
قال أبو مخنف: فحدثني الحصين بن يزيد الأزدي، عن حميد بن مسلم الأزدي، قال: كان ذلك المزني صديقًا لي، فلما ذهب لينصرف ناشدته الله، فقال: أما إنك لم تكن لتسألني شيئًا من الدنيا إلا رأيت لك من الحق علي إيتاءكه، وهذا الذي تسألني أريد الله به؛ قال: ففارقني حتى لقي القوم فقتل؛ قال: فوالله ما كان شيء بأحب إلي من أن ألقى إنسانًا يحدثني عنه كيف صنع حين لقي القوم! قال: فلقيت عبد الملك بن جزء بن الحدرجان الأزدي بمكة، فجرى حديثٌ بيننا، جرى ذكر ذلك اليوم، فقال: أعجب ما رأيت يوم عين الوردة بعد هلاك القوم أن رجلًا أقبل حتى شد علي بسيفه، فخرجنا نحوه، قال: فانتهى إليه وقد عقر به وهو يقول:
إني من الله إلى الله أفر ** رضوانك الله أبدي وأسر
قال: فقلنا له: ممن أنت؟ قال: من بني آدم؛ قال: فقلنا: ممن؟ قال: لا أحب أن أعرفكم ولا أن تعرفوني يا مخربي البيت الحرام؛ قال: فنزل إليه سليمان بن عمرو بن محصن الأزدي من بني الخيار؛ قال: وهو يومئذ من أشد الناس؛ قال: فكلاهما أثخن صاحبه؛ قال: وشد الناس عليه من كل جانب، فقتلوه؛ قال: فوالله ما رأيت واحدًا قط هو أشد منه؛ قال: فلما ذكر لي، وكنت أحب أن أعلم علمه، دمعت عيناي، فقال: أبينك وبينه قرابة؟ فقلت له: لا، ذلك رجل من مضر كان لي ودًا وأخًا، فقال لي: لا أرقأ الله دمعك، أتبكي على رجل من مضر قتل على ضلالة! قال: قلت: لا، والله ما قتل على ضلالة، ولكنه قتل على بينة من ربه وهدىً؛ فقال لي: أدخلك الله مدخله؛ قلت: آمين، وأدخلك الله مدخل حصين بن نمير، ثم لا أرقأ الله لك عليه دمعًا؛ ثم قمت وقام.
وكان مما قيل من الشعر في ذلك قول أعشى همدان، وهي إحدى المكتمات، كن يكتمن في ذلك الزمان: