ذكر خبر حدوث الطاعون الجارف

قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وقع بالبصرة الطاعون الذي يقال له الطاعون الجارف، فهلك به خلقٌ كثير من أهل البصرة.
حدثني عمر بن شبة، قال: حدثني زهير بن حرب، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثني أبي، عن المصعب بن زيد أن الجارف وقع وعبيد الله بن عبيد الله بن معمر على البصرة، فماتت أمه في الجارف، فما وجدوا لها من يحملها حتى استأجروا لها أربعة علوج فحملوها إلى حفرتها وهو الأمير يومئذ.
مقتل نافع بن الأزرق واشتداد أمر الخوارج

وفي هذه السنة اشتدت شوكة الخوارج بالبصرة، وقتل فيها نافع بن الأزرق.
ذكر الخبر عن مقتله
حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا زهير بن حرب، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا أبي، عن محمد بن الزبير، أن عبيد الله بن عبيد الله بن معمر بعث أخاه عثمان بن عبيد الله إلى نافع بن الأزرق في جيش، فلقيهم بدولاب، فقتل عثمان وهزم جيشه.
قال عمر: قال زهير: قال وهب: وحدثنا محمد بن أبي عيينة، عن سبرة بن نخف، أن ابن معمر عبيد الله بعث أخاه عثمان إلى ابن الأزرق، فهزم جنده وقتل؛ قال وهب: فحدثنا أبي أن أهل البصرة بعثوا جيشًا عليهم حارثة بن بدر، فلقيهم، فقال لأصحابه:
كرنبوا ودولبوا ** وحيث شئتم فاذهبوا
حدثنا عمر، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا وهب، قال: حدثنا أبي ومحمد بن أبي عيينة، قالا: حدثنا معاوية بن قرة، قال: خرجنا مع ابن عبيس فلقيناهم، فقتل ابن الأزرق وابنان أو ثلاثة للماحوز، وقتل ابن عبيس.
قال أبو جعفر: وأما هشام بن محمد فإنه ذكر عن أبي مخنف، عن أبي المخارق الراسبي من قصة ابن الأزرق، وبني الماحوز قصةً هي غير ما ذكره عمر، عن زهير بن حرب، عن وهب بن جرير؛ والذي ذكر من خبرهم أن نافع بن الأزرق اشتدت شوكته باشتغال أهل البصرة بالاختلاف الذي كان بين الأزد وربيعة وتميم بن مسعود بن عمرو، وكثرت جموعه، فأقبل نحو البصرة حتى دنا من الجسر، فبعث إليه عبد الله بن الحارث مسلم ابن عبيس بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف في أهل البصرة، فخرج إليه، فأخذ يحوزه عن البصرة، ويدفعه عن أرضها، حتى بلغ مكانًا من أرض الأهواز يقال له: دولاب، فتهيأ الناس بعضهم لبعض وتزاحفوا، فجعل مسلم بن عبيس على ميمنته الحجاج بن باب الحميري، وعلى ميسرته حارثة بن بدر التميمي، ثم الغداني، وجعل ابن الأزرق على ميمنته عبيدة بن هلال اليشكري، وعلى ميسرته الزبير بن الماحوز التميمي؛ ثم التقوا فاضطربوا، فاقتتل الناس قتالًا لم ير قتال قط أشد منه، فقتل مسلم ابن عبيس أمير أهل البصرة، وقتل نافع بن الأزرق رأس الخوارج، وأمر أهل البصرة عليهم الحجاج بن باب الحميري، وأمرت الأزارقة عليهم عبد الله ابن الماحوز، ثم عادوا فاقتتلوا أشد قتال، فقتل الحجاج بن باب الحميري أمير أهل البصرة، وقتل عبد الله بن الماحوز أمير الأزارقة. ثم إن أهل البصرة أمروا عليهم ربيعة الأجذم التميمي، وأمرت الخوارج عليهم عبيد الله بن الماحوز، ثم عادوا فاقتتلوا حتى أمسوا، وقد كره بعضهم بعضًا، وملوا القتال، فإنهم لمتواقفون متحاجزون حتى جاءت الخوارج سرية لهم جامة لم تكن شهدت القتال، فحملت على الناس من قبل عبد القيس، فانهزم الناس، وقاتل أمير البصرة ربيعة الأجذم، فقتل، وأخذ راية أهل البصرة حارثة بن بدر، فقاتل ساعةً وقد ذهب الناس عنه، فقاتل من وراء الناس في حماتهم، وأهل الصبر منهم، ثم أقبل بالناس حتى نزل بهم منزلًا بالأهواز ففي ذلك يقول الشاعر من الخوارج:
يا كبدا من غير جوعٍ ولا ظمإٍ ** ويا كبدي من حب أم حكيم
ولو شهدتني يوم دولاب أبصرت ** طعان امرىءٍ في الحرب غير لئيم
غداة طفت في الماء بكر بن وائل ** وعجنا صدور الخيل نحو تميم
وكان لعبد القيس أول حدنا ** وذلت شيوخ الأزد وهي تعوم
وبلغ ذلك أهل البصرة، فهالهم وأفزعهم، وبعث ابن الزبير الحارث ابن عبد الله بن أبي ربيعة القرشي على تلك الحرة، فقدم، وعزل عبد الله ابن الحارث، فأقبلت الخوارج نحو البصر، وقدم المهلب بن أبي صفرة على تلك من حال الناس من قبل عبد الله بن الزبير، معه عهده على خراسان، فقال الأحنف للحارث بن أبي ربيعة وللناس عامة: لا والله، ما لهذا الأمر إلا المهلب بن أبي صفرة، فخرج أشراف الناس، فكلموه أن يتولى قتال الخوارج؛ فقال: لا أفعل، هذا عهد أمير المؤمنين معي على خراسان، فلم أكن لأدع عهده وأمره، فدعاه ابن أبي ربيعة فكلمه في ذلك، فقال له مثل ذلك، فاتفق رأي ابن أبي ربيعة فكلمه في ذلك، فقال له مثل ذلك، فاتفق رأي ابن أبي ربيعة ورأي أهل البصرة على أن كتبوا على لسان ابن الزبير:
بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله بن الزبير إلى المهلب بن أبي صفرة، سلامٌ عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإن الحارث بن عبد الله كتب إلي أن الأزارقة المارقة أصابوا جندًا للمسلمين كان عددهم كثيرًا، وأشرافهم كثيرًا، وذكر أنهم قد أقبلوا نحو البصرة، وقد كنت وجهتك إلى خراسان، وكتبت لك عليها عهدًا، وقد رأيت حيث دكر هذه الخوارج أن تكون أنت تلي قتالهم، فقد رجوت أن يكون ميمونًا طائرك، مباركًا على أهل مصرك، والأجر في ذلك أفضل من المسير إلى خراسان، فسر إليهم راشدًا، فقاتل عدو الله وعدوك، ودافع عن حقك وحقوق أهل مصرك، فإنه لن يفوتك من سلطاننا خراسان ولا غير خراسان إن شاء الله، والسلام عليك ورحمة الله.
فأتى بذلك الكتاب، فلما قرأه قال: فإني والله لا أسير إليهم إلا أن تجعلوا لي ما غلبت عليه، وتعطوني من بيت المال ما أقوي به من معي، وأنتخب من فرسان الناس ووجوههم وذوي الشرف من أحببت؛ فقال جميع أهل البصرة: ذلك لك؛ قال: فاكتبوا لي على الأخماس بذلك كتابًا ففعلوا، إلا ما كان من مالك بن مسمع وطائفة من بكر بن وائل، فضطغنها عليهم المهلب، وقال الأحنف وعبيد الله بن زياد بن ظبيان وأشراف أهل البصرة للمهلب: وما عليك ألا يكتب لك مالك بن مسمع ولا من تابعه من أصحابه، إذا أعطاك الذي أردت من ذلك جميع أهل البصرة! من تابعه من أصحابه، إذا أعطاك الذي أردت من ذلك جميع أهل البصرة! ويستطيع مالك خلاف جماعة الناس أوله ذلك! انكمش أيها الرجل، واعزم على أمرك، وسر إلى عدوك؛ ففعل ذلك المهلب، وأمر على الأخماس، فأمر عبيد الله بن زياد بن ظبيان على خمس بكر بن وائل، وأمر الحريش ابن هلال السعدي على خمس بني تميم، وجاءت الخوارج حتى انتهت إلى الجسر الأصغر، عليهم عبيد الله بن الماحوز، فخرج إليهم في أشراف الناس وفرسانهم ووجوههم، فحازهم عن الجسر، ودفعهم عنه، فكان أول شيء دفعهم عنه أهل البصرة، ولم يكن بقي لهم إلا أن يدخلوا؛ فارتفعوا إلى الجسر الأكبر. ثم إنه عبأ لهم، فسار إليهم في الخيل والرجال، فلما أن رأوا أن قد أظل عليهم، وانتهى إليهم، ارتفعوا فوق ذلك مرحلة أخرى، فلم يزل يحوزهم ويرفعهم مرحلةً بعد مرحلة، ومنزلة بعد منزلة، حتى انتهوا إلى منزل من منازل الأهواز يقال له سلى وسلبرى، فأقاموا به؛ ولما بلغ حارثة بن بدر الغداني أن المهلب قد أمر على قتال الأزارقة، قال لمن معه من الناس:
كرنبوا ودولبوا ** وحيث شئتم فاذهبوا
قد أمر المهلب
فأقبل من كان معه نحو البصرة، فصرفهم الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة إلى المهلب؛ ولما نزل المهلب بالقوم خندق عليه، ووضع المسالح، وأذكى العيون، وأقام الأحراس، ولم يزل الجند على مصافهم، والناس على راياتهم وأخماسهم، وأبواب الخنادق عليها رجال موكلون بها، فكانت الخوارج إذا أرادوا بيات المهلب وجدوا أمرًا محكمًا، فرجعوا، فلم يقاتلهم إنسانٌ قط كان أشد عليهم ولا أغيظ لقلوبهم منه.
قال أبو مخنف: فحدثني يوسف بن يزيد، عن عبد الله بن عوف بن الأحمر، أن رجلًا كان في تلك الخوارج حدثه أن الخوارج بعثت عبيدة ابن هلال والبير بن الماحوز في خيلين عظيمين ليلًا إلى عسكر المهلب، فجاء الزبير من جانبه الأيمن، وجاء عبيدة من جانبه الأيسر، ثم كبروا وصاحوا بالناس، فوجدوا على تعبيتهم ومصافهم حذرين مغذين، فلم يصيبوا للقوم غرةً، ولم يظفروا منهم بشيء، فلما ذهبوا ليرجعوا ناداهم عبيد الله ابن زياد بن ظبيان فقال:
وجتمونا وقرًا أنجادا ** لا كشفًا خورًا ولا أوغادا
هيهات! إنا إذا صيح بنا أتينا، يا أهل النار، ألا ابكروا إليها غدًا، فإنها مأواكم ومثواكم؛ قالوا: يا فاسق، وهل تدخر النار إلا لك ولأشباهك! إنها أعدت للكافرين وأنت منهم؛ قال: أتسمعون! كل مملوك لي حر إن دخلتم أنتم الجنة إن بقي فيما بين سفوان إلى أقصى حجر من أرض خراسان مجوسيٌّ ينكح أمه وابنته وأخته إلا دخلها؛ قال له عبيدة: اسكت يا فاسق فإنما أنت عبد للجبار العنيد، ووزيرٌ للظالم الكفور؛ قال: يا فاسق، وأنت عدو المؤمن التقي، ووزير الشيطان الرجيم؛ فقال الناس لابن ظبيان: وفقك الله يابن ظبيان؛ فقد والله أجبت الفاسق بجوابه، وصدقته. فلما أصبح الناس أخرجهم المهلب على تعبيتهم وأخماسهم، ومواقفهم الأزد، وتميم ميمنة الناس، وبكر بن وائل وعبد القيس ميسرة الناس، وأهل العالية في القلب وسط الناس.